الأزمة الأوكرانية: هل تكون "نافذة فُرصٍ" استراتيجية لدول الخليج؟

الأزمة الأوكرانية: هل تكون "نافذة فُرصٍ" استراتيجية لدول الخليج؟


17/03/2022

محمد برهومة

تُعَدُّ الحرب الجارية في أوكرانيا من الأحداث العالمية الكبيرة، التي تمتد مفاعيلها وانعكاساتها إلى مناطق وأقاليم واسعة من العالم. ولم تكن منطقة الشرق الأوسط بمنأى عن ذلك، خصوصاً أن أمن الطاقة جانبٌ جوهري في هذه الأزمة. وبوصفها مورداً أساسياً للطاقة العالمية، فقد كانت دول الخليج العربية جزءاً من المشهد العالمي في هذه الحرب، وليس مجرد مستفيد رئيس من الارتفاع القياسي في أسعار النفط والغاز. 

لقد عكست الحرب الروسية-الأوكرانية الخلافات بين الولايات المتحدة وشركائها الخليجيين. ومع أن الخلافات والتوترات في بعض أوجه العلاقة بين الجانبين كانت موجودة من قبل، فإن هذه الحرب زادتها وضوحاً، وسلَّطَت مزيداً من الأضواء عليها، وأضافت إليها مزيداً من عوامل التباين في زوايا النظر والأولويات والمصالح. في المقابل، ثمة فرصة مواتية لإعادة ضبط العلاقات الخليجية-الأمريكية وتجديدها، على وَقْع تداعيات الحرب في أوكرانيا وانعكاساتها وإفرازاتها، وهو ما تناقشه هذه الورقة.

دول الخليج و"الحرب الباردة الجديدة"

العلاقات الخليجية-الأمريكية ليست وليدة اليوم، بل تمتد لعقود. لكن ما يسمى "الحرب الباردة الجديدة" على الساحة الدولية أخذت تخلق تعقيدات واشتباكات تستدعي إعادة تعريف العلاقات الخليجية-الأمريكية وبناء تفاهمات جديدة حولها، تكون خلاصة حوارات استراتيجية عميقة وجادة بين واشنطن و"الخليج الجديد". لقد كانت الأمور زمن الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي وحتى لحظة انهياره واضحة؛ فالاصطفاف الخليجي إلى جانب الولايات المتحدة والغرب كان لا التباس فيه، كما أن المظلة الأمنية الأمريكية لدول الخليج كانت لا التباس فيها وفي التزاماتها المؤكدة.

ما حدث أنه منذ ولايتي الرئيس الأمريكي باراك أوباما وحتى الآن تغيَّرت أمريكا، كما تغيّر الخليج والشرق الأوسط أيضاً. واصطحبت التغيرات معها تباينات بين واشنطن وشركائها الخليجيين والعرب. عادةً ما تمحورت الخلافات حول المظلة الدفاعية الأمريكية لدول الخليج في مواجهة التهديد الإيراني المقترن بتهديدات المليشيات المتحالفة مع إيران، وملف اليمن، ومبيعات الأسلحة الأمريكية، والتعامل مع بيجين والتكنولوجيا الصينية.. والآن طلب الاصطفاف ضد روسيا.

في الحقيقة، تكاد الحرب الجارية في أوكرانيا أنْ تُنهي جزءاً كبيراً من مسيرة ثلاثة عقود -بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة- من محاولة التواصل الأوروبي-الأمريكي مع روسيا والنظرة إليها كجزء من أمن أوروبا. يأتي ذلك متوازياً مع صعود شكل من أشكال "الحرب الباردة الجديدة" بين واشنطن وبيجين. 

ومثلما أن قواعد وضوابط العلاقات الخليجية-الأمريكية في حقبة "الحرب الباردة الجديدة"، إذا صحّ هذا التعبير، لم تنضج بعد، فإن لحظة الحرب الحالية في أوكرانيا تطرح تحديات على الساحة الدولية، سيتأثر بها الشرق الأوسط، ومن الوارد القول إنها قد تمنح مساحة لدول الخليج للإسهام، بدرجة ما، في تشكيل القواعد والضوابط الجديدة المرتبطة بانعكاسات وإفرازات المواجهة الغربية مع التحدييْن الصيني والروسي، وصياغة بعض جوانب تلك القواعد والضوابط.

الخليج ما بعد أمريكا؟

مع الاعتراف الضروري بالتغيرات، من المهم كذلك الابتعاد عن المبالغات في إصدار الأحكام. ليس لدى دول الخليج أوهام حول عمق علاقتها مع الولايات المتحدة وتجذرها على جميع المستويات. ما تزال العلاقة الأمريكية الجيو-أمنية والاستراتيجية مع دول الخليج راسخة ومتينة، وترفض هذه الدول مقولات إن أمريكا تُغادر المنطقة، كما ترفض منطق أن الأخيرة تعيش عصر ما بعد أمريكا.

حتى الآن، ما يزال العامل الأمريكي هو الأكثر نفوذاً في حسم الملفات والقضايا الجيوسياسية والأمنية المختلفة في الإقليم. لا غنى لدول الخليج، ولا لإسرائيل أو تركيا أو الأردن ومصر والمغرب، عن أمريكا وأدوارها ونفوذها وإمكاناتها، الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية. لا أوهام حول كل هذا، ومع ذلك فإن العلاقة الأمريكية-الخليجية، كما العلاقة الأمريكية-العربية تمر بتحديات وتعقيدات جديدة ومتنامية؛ تعكس في مجملها التحولات التي تنتاب هذه العلاقة الاستراتيجية الممتدة.

أمريكياً، لطالما اعتُبرت الولايات المتحدة الأمريكية منذ أكثر من نصف قرن وحتى الآن الفاعل الرئيس الأهم والأكثر نفوذاً في منطقة الخليج. لكن منذ عهد الرئيس باراك أوباما، تغيَّر التقدير الاستراتيجي الأمريكي حيال منطقة الشرق الأوسط، وتراجعت أهميتها في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي، وبذلك تغيّر منظور واشنطن، في عهدي دونالد ترامب وجو بايدن أيضاً، لعناصر التهديد وقائمة الأولويات الأمريكية، التي بات تركيزها منصبّاً على مواجهة التحدي الصيني الصاعد، وعلى روسيا، وعلى ضمان التفوق الأمريكي الشامل، عالمياً؛ خاصة في الاقتصاد والتكنولوجيا الفائقة، المدنية والعسكرية. لقد تطلب ذلك بالتأكيد إعادة توجيه الموارد والأصول الأمريكية والأولويات باتجاه تخفيض البصمة العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط الكبير. كان الانسحاب من أفغانستان وسحب القوات القتالية من العراق جزءاً من بيئة دولية متغيرة، تحكمها قواعد جديدة بين اللاعبين الدوليين، ولا تريد فيها واشنطن أن تكون "شرطي العالم".

كان اكتفاء واشنطن من النفط في عهد أوباما من أهم العناصر التي غيّرت اللعبة الأمريكية (game changer) في الشرق الأوسط، وبتنا نسمع من الإدارات الأمريكية في العقد الأخير حديثاً عن ضرورة أن يتقاسم حلفاء أمريكا في أوروبا والشرق الأوسط العبء معها (Burden-sharing)، وألا يكونوا راكباً مجانياً (free-rider)، بحسب الوصف المثير للجدل، الذي استخدمه أوباما في مقابلته الشهيرة مع مجلة ذي أتلانتك (في أبريل 2016).

ومنذ ذلك الحين، ذهبت المقاربة الأمريكية إلى القول إن لحظتيْ حرب تحرير الكويت (1991) والغزو الأمريكي للعراق (2003) لن تتكررا، وأن على الشركاء الخليجيين تطوير قدراتهم الدفاعية الذاتية لحماية أنفسهم، وأن المساندة الأمريكية العسكرية والأمنية المقدمة لهم في هذا المجال كافية، وأن من الضروري، أيضاً، التهدئة والحوار مع إيران، برغم تكرار وصف واشنطن للأخيرة بأنها "مُزعزعة للاستقرار في المنطقة".

خليجياً، ثمة توجّه تتبناه دول الخليج بالاستمرار في سياسة "التحوّط الاستراتيجي" وتنويع الشراكات مع القوى العالمية، لأهداف سياسية واقتصادية، وأحياناً عسكرية، كما أن ثمة مزاجاً رسمياً خليجياً يتكرّس ويتنامى منذ سنوات، مفاده بأن الولايات المتحدة تريد الوصول إلى جميع المزايا التي كانت تقدمها دول الخليج للولايات المتحدة والحلفاء الغربيين زمن الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي، برغم أن المظلة الدفاعية الأمريكية لدول الخليج زمن الحرب الباردة (الأولى) لم تعد مضمونة اليوم بالشمولية والكيفية والموثوقية التي كانت عليها زمن تلك الحرب الباردة.

تحولات البيئة الاستراتيجية وصعود حقبة جديدة للعلاقات

في الصورة الأكبر، يمكن القول إن الحقبة الجديدة التي تمرّ بها العلاقات الخليجية-الأمريكية مرتبطة بتحولات أساسية في البيئة الاستراتيجية، إقليمياً ودولياً، ومن ذلك:

1. شرق أوسط جديد؛ فالمنطقة تعيش حالة ما بعد انتهاء حقبة احتجاجات "الربيع العربي"، وهناك توزيع جديد للقوة يتشكّل، وترتسم خرائط جديدة للعواصم العربية ذات النفوذ والتأثير الإقليمي، وثمة فراغات استراتيجية تتنافس الأطراف الإقليمية والعربية وغير العربية وتتصارع على ملئها، وبالتالي انتهاز فرصة وجود إقليم شرق أوسطيٍّ جديدٍ آخذٍ في التشكّل تدريجياً. والواضح أن الأطراف الإقليمية المؤثرة تنظر بعين الاهتمام إلى ما يمثله أمن الطاقة ومسارات نقلها وحصصها من تأثيرات جيوسياسية، وانعكاسات على مستقبل اللاعبين في الشرق الأوسط، وخرائط النفوذ والقوة والدور والمكانة. وهناك مَنْ يَذهب إلى أنَّه بعد الحديث عن تراجُع أهمية كل من أوروبا، ومنطقة الشرق الأوسط، وبدء الانسحاب الأمريكي منهما، ها هي الولايات المتحدة؛ بسبب الحرب في أوكرانيا، تعود قسراً إلى المنطقتين: أوروبا بسبب «الناتو»، ومنطقة الشرق الأوسط بسبب ثرواتها. وفي أعقاب تصريحات أدلى بها سفير دولة الإمارات في واشنطن، يوسف العتيبة، في 9 مارس 2022 قال فيها إن بلاده تؤيد ضخ المزيد من النفط، تمكنت الإمارات منفردة، بحسب وكالة رويترز، من خفض أسعار النفط المتصاعدة بواقع 13% في يوم واحد، وبذلك أظهرت الإمارات مدى ما تتمتع به الدول الخليجية المنتجة للنفط من قوة وتأثير على السوق، وبعثت برسالة إلى واشنطن لتذكيرها بأن عليها إيلاء مزيد من الاهتمام بحلفائها القدامى، كما أوردت الوكالة.

وتحاول دول الخليج أن تُوظّف مسألة الطاقة والثروات وغيرها من أجل تحسين ما لديها من أوراق قوة وتأثير في المساهمة في تشكيل الشرق الأوسط الجديد، ومشهد الطاقة العالمي، وإقناع الولايات المتحدة والدول الأوروبية بألا يكون الاتفاق النووي الإيراني الجديد قضماً من مصالح دول الخليج ونفوذها وأمنها واستقرارها. 

من جانب آخر، ثمة مَنْ يُلفِتُ النظرَ إلى أن اتفاقات التطبيع التي أُبرمت في 2020 بين دول الخليج وإسرائيل شكّلت ثُقلاً موازناً من نوعٍ ما في وجه إيران، بعد أن أحجمت الولايات المتحدة في عهد دونالد ترامب عن الردّ على الهجمات التي يشار بأصابع الاتهام فيها إلى إيران، مثل استهداف سفن سعودية أو إماراتية في مايو 2019، وبعد أن بدا واضحاً تردّد ترامب في التدخّل نيابةً عن حلفائه السعوديين عقب الهجوم الذي نفذّته طائرات من دون طيار على منشأتين تابعتين لشركة أرامكو في مدينتَي بقيق وخُريص في سبتمبر 2019. وبعد هجمات الحوثيين على الإمارات في يناير 2022.

وبخصوص الجدل حول مسألة الالتزام الأمريكي بأمن الخليج، نقلت صحيفة وول ستريت جورنال، في يونيو 2021، عن مسؤول دفاعي أمريكي كبير، لم تُسمّه، قوله تعليقاً على سحب واشنطن معدات وأنظمة عسكرية من الخليج، وخصوصاً من السعودية: "لا يزال لدينا قواعدنا في دول شركائنا الخليجيين، ولم يتم إغلاقها، ولا يزال هناك وجود (أمريكي) كبير، وموقف كبير في المنطقة". ونقلت الصحيفة عن كاثرين ويلبارغر-القائمة بأعمال مساعدة وزير الدفاع خلال إدارة ترامب السابقة، قولها إن "واشنطن تعمل على حل مشكلة التوترات مع إيران باستخدام الأدوات الدبلوماسية، كما قامت السعودية بتحسين قدراتها الدفاعية، وبناء عليه فإن هذا القرار منطقي". وأضافت: "هل هناك بعض المخاطر المتزايدة (في منطقة الخليج وحولها)؟ نعم. لكن الأمر يتعلق بإدارة المخاطر، وليس القضاء عليها".

وأمام هذه الضبابة في موثوقية الالتزام، وتركيز الشريك الأمريكي على "إدارة المخاطر" وليس معالجتها نهائياً، تسعى دولٌ مثل الإمارات وإسرائيل إلى الحصول على ضمانات لصياغة استراتيجية أمنية جديدة للشرق الأوسط في حالة إحياء الاتفاق النووي الإيراني؛ حيث توفر الحرب الجارية في أوكرانيا وارتفاع أسعار النفط نفوذاً للحصول على ضمانات فشلوا في تأمينها في عام 2015. ويطالب البَلدان بنهج متماسك يتضمن تعزيز الدفاع الصاروخي وتبادل المعلومات.

وأوضحت السعودية والإمارات، أكبر اقتصادين عربيين، أنّهما تسعيان إلى سياسة خارجية مستقلة قائمة على المصالح الوطنية. وقد امتنعت الإمارات -التي تتولى في مارس الجاري رئاسة مجلس الأمن الدولي- عن التصويت في فبراير 2022 على مشروع قرار أمريكي ألباني يدين الغزو الروسي لأوكرانيا. وبينما تسبّبت الحرب على أوكرانيا في ارتفاع تكاليف الطاقة، قاومت دول الخليج حتى الآن الضغوط الغربية لزيادة إنتاج النفط بهدف كبح جماح الأسعار. وأكدت السعودية التزامها بالحصص الإنتاجية ضمن تحالف "أوبك بلاس" النفطي بقيادة موسكو والرياض. وشدّد وزير الطاقة الإماراتي سهيل المزروعي في العاشر من مارس 2022 على التزام بلاده بحصص إنتاج التحالف.

وتتبنى دولة الإمارات فكرة أن التقلبات الضخمة غير المسبوقة حالياً في أسواق الطاقة ترجع إلى نقص الاستثمارات في الوقود الأحفوري، وأن المصادر المتجددة وحدها لن تكون كافية للوفاء بالطلب، ما يعني أن الاستثمارات في النفط والغاز ضرورية لتفادي حدوث اختلالات في العرض والطلب. وقد أعلنت دولة قطر عن موقفٍ مُشابهٍ في السابق.

وإذا كانت الولايات المتحدة في سعيها لكبح أسعار النفط وتقليص نسبة التضخم على المستهلك الأمريكي قد اتجهت إلى فنزويلا وربما تتجه إلى إيران لزيادة الإنتاج النفطي، فإنه من بابٍ أولى أن تتجه إلى شركائها الشرق أوسطيين، وخاصة السعودية والإمارات، اللذين يبدوان أن لديهما بعض "الشروط" للاستجابة إلى المطالب الأمريكية. والمرجح أن رفضهم ليس نهائياً، بل مرتبط بتقديرهم، ربما، أن ما يجري يعكس تحولات في بناء الشرق الأوسط، وعلى الساحة الدولية، ويُمثِّل فرصةً لزيادة رصيدهم الاستراتيجي، وإعادة تمتين علاقتهم مع الولايات المتحدة، مع الاستمرار في تبنّي استراتيجية التحوط في مجال تنويع الشراكات على الساحة الدولية، وهو تحدٍّ سيستمر ما بعد الحرب الأوكرانية حتى وإنْ طالت.

وقد تفجَّرت أزمة أوكرانيا في الوقت الذي تجري فيه الولايات المتحدة وروسيا وقوى عالمية أخرى محادثات لإحياء الاتفاق النووي مع إيران. لكن يبدو أن موسكو أخرجت (لفترة ما) هذه الجهود عن مسارها بمطالبة واشنطن بضمانات بأن العقوبات الغربية على روسيا لن تؤثر على أنشطتها التجارية مع إيران. وقد صرَّح وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، لاحقاً، أن موسكو حصلت (بالفعل) على ضمانات نصية من واشنطن بأن العقوبات المفروضة على روسيا لن تنعكس على تعاونها مع إيران. 

وكثيراً ما شعرت دول الخليج بأن المحادثات تغفل مخاوفها إزاء إيران كما تخشى أن يؤدي الاتفاق إلى تعزيز موقف إيران ووكلائها الإقليميين. ولا يزال من المتوقع أن ترجّح دول الخليج كفة علاقاتها مع الولايات المتحدة التي تعتمد عليها في أمنها على كفة علاقاتها مع روسيا التي تركز على الطاقة والأعمال.

2. نهاية عالم الأحادية القطبية: كانت دولة الإمارات واضحة، منذ فترة، في التعبير  عن مخاوفها من "حرب باردة وشيكة" بين واشنطن وبكين. لقد أكدت أن "مبعث القلق الحقيقي الآن هو مواجهة تبعات الصراع بين الولايات المتحدة والصين"، واعتبرت أن "هذه أنباء سيئة لنا جميعاً؛ لأن فكرة الاختيار تمثل إشكالية في النظام الدولي... [وهو] أمر لن يكون سهلاً". ومع الحرب الروسية في أوكرانيا شهدنا حالة مشابهة، مع العقوبات الأمريكية والغربية على روسيا، وتصاعُد الحاجة إلى بدائل عن إمدادات الطاقة الروسية، إلى أوروبا خاصة، إلى جانب ضبط أسعار النفط والغاز، في ظل تخوّف إدارة بايدن، أيضاً، من انعكاس ارتفاع التضخم في الداخل الأمريكي على حظوظها الانتخابية في الانتخابات النصفية للكونغرس التي ستُجرى في نوفمبر 2022. 

كان ذلك التقدير الإماراتي، والخليجي أيضاً، ينطلق من فكرة أن دول الخليج العربية التي استثمرت على مدى سنوات في شراكتها التجارية مع الصين وروسيا لديها ما تخسره في حال تنامت حدّة الاصطفافات في الساحة الدولية إلى درجة الطلب الأمريكي من الشركاء الخليجيين بالاختيار بين واشنطن وبيجين أو بين واشنطن وموسكو. 

والقلق الخليجي يعكس تقديراً بأن الصعود الصيني، على أقل تقدير، اقتصادياً وتكنولوجياً إنما يمثّل نمطاً من الخروج من حالة الأحادية القطبية الأمريكية في النظام العالمي، وأننا نتجه إلى أشكال، لم تستقر بصورة نهائية بعد، من الثنائية أو التعددية القطبية، وبالتالي عدم قدرة طرف واحد على الاستفراد المطلق بالمشهد العالمي والتحكم الكامل في تحولاته ومساراته. وهذا الفهم المتعلق بتغيرات توزيع القوة في المشهد الدولي، إلى جانب تحولات أولويات واشنطن في الشرق الأوسط وتجاه شركائها الخليجيين، يدفع دول الخليج إلى محاولة تجنب الاصطفافات الحادة والمكلفة (التي يهيمن عليها منطق "من ليس معنا فهو ضدنا")، وإنما تحاول الإبقاء على علاقاتها التجارية والسياسية المتنامية مع بيجين وموسكو، إلى جانب علاقتها الاستراتيجية والجيو-أمنية مع الولايات المتحدة والدول الغربية، وهي "وَصفَة" صعبة، لكنها تعبّر عن استجابة دول الخليج للتحولات في البيئة الاستراتيجية الدولية وفي النظام الدولي، الذي تُسرّع إفرازات الحرب في أوكرانيا في اتجاهه نحو الثنائية القطبية أو التعددية.

إنّ السعي نحو تجنُّب الاستقطابات الحادة بين اللاعبين الدوليين يخدم رؤية دول الخليج لتنويع اقتصادها بعيدًا عن الاعتماد على صادرات النفط والغاز الطبيعي، ولتأكيد نفسها مُنافِساً اقتصادياً عالمياً قادراً على البقاء. وفي هذا الصدد يُشير سفير دولة الإمارات لدى واشنطن، يوسف العتيبة، إلى أن الإمارات العربية المتحدة وغيرها من الدول ذات التفكير المماثل في الشرق الأوسط تُرحب بالمشاركة الأمريكية المستمرة، لكنه يُجادل بأن المنطقة لا يمكن أن تتجاهل الصين، التي تعتمد عليها في الاستثمار وسوقاً لصادرات الطاقة. ونتيجة لذلك، يؤكد السفير أن الدول العربية - من أجل مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية - لا تريد أن تَعلَقَ وسط مواجهة شبيهة بالحرب الباردة بين الولايات المتحدة والصين؛ من شأنها أن تجبرها على اختيار أحد الجانبين بين القوتين العالميتين.

وإذْ تتجنب دول الخليج العربية اتخاذ مواقف "عدائية" ضد الغزو الروسي لأوكرانيا، وتدعو إلى محاولة التوسُّط، وإلى تغليب الحلول السياسية السلمية بدلاً من العسكرية، فإنها تتواصل مع جميع أطراف الأزمة، وترسل مساعدات إنسانية إلى أوكرانيا، وتُفضِّل "عدم الانجرار إلى جدار العزلة الذي يبنيه الغرب في وجه موسكو". وعلى المدى البعيد، فإن هذا الحذر وثيق الصلة بتقدير الموقف المتعلق بانفتاح النظام الدولي على احتمالات الثنائية أو التعددية القطبية، وبالتالي فإن الحرب في أوكرانيا تُسلّط الضوء على التغييرات الجارية في التحالفات التقليدية في الشرق الأوسط. 

3. الاستقطاب السياسي في الداخل الأمريكي: مع إدارة الرئيس الديمقراطي باراك أوباما، مروراً بإدارة الجمهوري دونالد ترامب، وصولاً إلى عودة الديمقراطيين إلى الحكم مع جو بايدن، أصبحت العلاقات الأمريكية-الخليجية عُرضة بين الحين والآخر للدخول في حلبة التجاذبات الحزبية في الولايات المتحدة، بين الديمقراطيين والجمهوريين، وبالتالي صارت هذه العلاقات، أكثر من أي وقت مضى، مرصودة على رادار التنافسات الانتخابية والمماحكات والمعارك السياسية بين الحزبين؛ اللذين يتناوبان على حكم أقوى دولة في العالم. ولا شك في أنّ هذا صار سبباً من الأسباب المحتملة لتقلبات العلاقات الخليجية-الأمريكية بين إدارة وأخرى، وبين رئيس أو حزب وآخر، ويترك هذا الاستقطاب في الوقت نفسه تأثيراته الواضحة على الرأي العام الأمريكي.

ولدى إشارته إلى تحدي ما يسميه "الاستقطاب المتزايد في الولايات المتحدة"، يُنوِّه السفير الإماراتي لدى واشنطن، يوسف العتيبة، إلى أن من الضروري اتخاذ خطوات لاحتواء هذا التحدي؛ ومن ذلك "تعزيز الثقة" بين البلدين، بحيث تكون العلاقة عابرة للحزبين اللذين يتناوبان على الحكم في الولايات المتحدة، ومتصلة بمؤسسات البلدين في القطاعين الحكومي والخاص. ويقول العتيبة في هذا الصدد: "إن العلاقات المستقبلية بين الإمارات والولايات المتحدة ستكون مدفوعة إلى حد كبير بالقطاع الخاص من حيث خلق الوظائف والتكنولوجيا. إذا انتظرنا أن تكتشف الحكومتان ذلك وتتولى زمام المبادرة، فسنكون متأخرين" عن تحقيق الهدف. ويُضيف العتيبة: "نحن بحاجة إلى أن يكون قطاعنا الخاص والقطاع الخاص في الولايات المتحدة في مقدمة المشجعين لكيفية تطور هذه الشراكة في المستقبل"، ويؤكد أن ذلك "يتطلب فهماً سياسياً وعلاقة قوية للغاية". ويكشف المسؤول الإماراتي عن أن "ما يقلقه أكثر هو الاستقطاب والانقسام المتزايد في الولايات المتحدة، حيث يوجد المزيد من الخلاف ومساحة أقل للتسوية بين رؤيتين لما يجب أن تكون عليه أمريكا". وهو يعتبر أن "هذا خطر ليس على الإمارات فقط ولكن على أمريكا أيضاً، ولقد رأيتُ هذا يزداد سوءاً خلال السنوات القليلة الماضية. إذا رأينا أمريكا أكثر توحيدًا، فهذا أمر جيد للجميع، وجيد للعالم، ولكني أشعر بالقلق من عدم حدوث ذلك". 

وهذا القلق الإماراتي الذي يعبّر عنه السفير على اتصالٍ، من جانب آخر، بتغيُّر نظرة الإمارات لنفسها، وخصوصاً في سياق تطور العلاقات الإماراتية-الأمريكية على مدى العقود الأخيرة، إذ "إن الإمارات العربية المتحدة انتقلت من موقع (a position) لازمها قبل 30 عاماً؛ حيث كان يُنظر إليها على أنها "مُشترٍ". أما اليوم فهي ليست مهتمة فقط بالشراء، بل تريد "أن تأتي البُلدان والشركات إلى هنا (الإمارات) وتساعدنا في إنشاء الصناعة (التكنولوجية والدفاعية) التي نحاول تطويرها. نُريد أن ينقل الناس تقنيتهم هنا، نريد أنْ يطوّر الناس تقنيتهم هنا [و] نريد خلق فرص عمل في الصناعة هنا". أي أن الإمارات، برأيه، "بصدد تطوير صناعة دفاعية أصلية محلية، (ولسان حالها يقول) لقد ولّتْ أيام كونك مُشترياً، ونحن منفتحون على العمل".

وهذه التصريحات تشير إلى أن المراجعة الإماراتية ترى أن المصالح التجارية بين الإمارات والولايات المتحدة تقرّب وجهات النظر بينهما، وتمنح مجالاً أوسع لإدارة الخلافات التي يعكسها الرأي العام (مثل الجدل حول صفقة أف-35) داخل الولايات المتحدة؛ "فالقطاع الخاص الأمريكي يتفهم الإمارات لكن الرأي العام لم يتحرّك بعد. لم يُكيّف الجميع وجهة نظرهم مع التغييرات التي تمر بها الإمارات العربية المتحدة، وإلى أين تريد أن تذهب"، كما يقول العتيبة، الذي يؤكد: "ينظر الناس إلينا من خلال العدسة القديمة".

الخلاصة والاستنتاجات

تمنح الأزمة الأوكرانية، وأمن الطاقة العالمي في صُلبها، فرصةً لدول الخليج العربية، خاصة السعودية والإمارات، لإعادة ضبْط علاقاتها مع الولايات المتحدة، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أن دول الخليج قد عمّقت علاقاتها مع الصين وروسيا في السنوات الأخيرة. وقد تؤدي إعادة الضبط، إلى جانب زيادة أسعار النفط والغاز، إلى زيادة تأثير هذه البلدان في عملية صنع القرار الدولي. وهنا ثمة مَن يُشير إلى أن دول الخليج تستجيب بالفعل لحرب أوكرانيا وتداعياتها بقدر كبير من النضج والبراجماتية، وبالتالي من المرجح أن يفكروا في تجديد علاقاتهم الثنائية الجيو-أمنية والاستراتيجية مع الولايات المتحدة، والاحتفاظ بهامش العلاقات المتنامية مع الصين وروسيا.

وفي اتجاهٍ موازٍ، تُقدّم الحرب في أوكرانيا مزيداً من الزخم لفكرة إعادة تشكيل النظام العالمي بشكل ينفتح على احتمالات الثنائية أو التعددية القطبية أكثر من أي وقت سابق، منذ نهاية الحرب الباردة في تسعينات القرن الماضي. وعلى الأقل سنشهد تقلبات واسعة في هذا الإطار. ولعل هذا يدعم استراتيجية دول الخليج في محاولة تجنُّب الاستقطابات الحادّة بين القوى العالمية. 

عن "مركز الإمارات للسياسات"

الصفحة الرئيسية