الإسلاموية الجهادية والمنعطف الرقمي

الإسلاموية الجهادية والمنعطف الرقمي

الإسلاموية الجهادية والمنعطف الرقمي


14/08/2023

بعد وقفات أولى همّت تعامل المؤسسات الدينية والمشاريع الإخوانية مع المنعطف الرقمي، نتوقف في هذه المقالة عند تفاعل الحركات الإسلامية القتالية المسمّاة بالحركات الجهادية مع المنعطف نفسه، ضمن سلسلة مقالات جاءت مقدمتها تحت عنوان "الخطاب الديني والمنعطف الرقمي"، تروم إثارة انتباه الباحثين والمتتبعين تجاه تطورات هادئة ومفصلية في آنٍ واحد نعاينه في الساحة.

بُعيد اعتداءات نيويورك وواشنطن، صدرت مجموعة من الكتب والدراسات والأبحاث، والأحرى المقالات والمتابعات الإعلامية، كان سوادها الأعظم يدور في فلك قراءة تفاصيل ما جرى، مقابل نسبة متواضعة اشتغلت على قراءة وتأويل ما جرى، مقدماته وتبعاته، وهي التبعات التي ما زلنا نعاينها في العديد من بقاع المعمورة، أقلها التطورات المرتبطة بأداء الجماعات الجهادية في دول الساحل الأفريقي.

المشروع الإخواني في توظيفه للثورة الرقمية استهدف على الخصوص الأتباع والمتعاطفين في كل دولة من دول المنطقة العربية، ونسبة من الجاليات أو الأقليات المسلمة خارج المنطقة العربية، من قبيل الجاليات في القارة الأوروبية

من بين الإصدارات النوعية التي استبقت ما جرى في تلك الأحداث، كتاب صدر في غضون عام 1995 عن عالم السياسة بنجامين باربر تحت عنوان "الجهاد في مواجهة عالم ماك"، وتدور فكرته الأساسية حول قراءة الحالة الجهادية باعتبارها قوة عالمية مناهضة للعولمة، ومن هنا الحديث في العنوان عن "عالم ماك"، في إحالة على القوى العولمية، في تجلياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفنية والرقمية على الخصوص، وفي هذه الجزئية بالذات تتميز الإسلاموية الجهادية بأنّها تجاوزت أداء الإسلاموية السياسية من قبيل المشروع الإخواني، فالأحرى باقي الفاعلين في الحقل الديني، من قبيل المؤسسات الدينية والطرق الصوفية.

على سبيل المثال، المشروع الإخواني في توظيفه للثورة الرقمية استهدف على الخصوص الأتباع والمتعاطفين في كل دولة من دول المنطقة العربية، ونسبة من الجاليات أو الأقليات المسلمة خارج المنطقة العربية، من قبيل الجاليات في القارة الأوروبية، وأقصى ما يسعى إليه تنظيمياً هو المزيد من مأسسة ما يُصطلح عليه "التنظيم العالمي للإخوان المسلمين"، وهي مؤسسة تعاني من أزمات تنظيمية عدة في الأعوام الأخيرة؛ بسبب الخلافات بين قيادات المشروع نفسه، إضافة إلى تباين أداء فروع التنظيم في أغلب دول المنطقة العربية، من قبيل ما نعاين في الساحة المصرية والمغربية والتونسية، حيث عناوين الأداء لا تخرج عن تراجع وزن وتأثير المشروع، وإن كان هذا التأثير ما زال قائماً لدى نسبة من مخيال المجتمع بسبب حضور خطابه طيلة عقود مضت، والمقصود هنا حضور خطاب الإسلاموية بشكل عام، بما فيها الإسلاموية الإخوانية.

أمّا مع المؤسسات الدينية، فبالكاد عاينا انخراط أغلبها في الحضور الرقمي والتفاعل مع المنصات الرقمية، وخاصة بعد منعطف أحداث 2011، والمفارقة هنا أنّ بعض هذه المؤسسات فعلت ذلك بمساعدة فعاليات دينية قادمة من المرجعية الإخوانية، كما نعاين في الحالة المغربية، وذلك بمقتضى إدماج الدولة المغربية في مرحلة سابقة للمرجعيات الإسلامية الحركية، من إخوان وسلفية، في مؤسسات الدولة، في إطار سحب البساط عن النزعة المتشددة أو المتطرفة في خطاب هذه المرجعيات.

لكنّ مقارنة مع أداء المشروع الإخواني والمؤسسات الدينية، كانت الجماعات الجهادية متقدمة منذ أكثر من عقدين، ولعل من تابع تطورات وتبعات أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، والحديث بالتحديد عن الصراع بين الإدارة الأمريكية وتنظيم (القاعدة)، بصرف النظر عن التباين القائم بين المنظومتين، يتذكر أنّ إحدى أهم جبهات هذا الصراع كانت قائمة بالتحديد في المجال الرقمي، لأنّ تنظيم (القاعدة) كان متقدماً جداً في توظيف أحد الأوجه التقنية للعولمة، أي توظيف الثورة الرقمية خدمة لمشروعه الجهادي.

استهدفت المرجعيات الجهادية، سواء مع تنظيم (القاعدة) أو تنظيم (داعش) حتى أبناء الجاليات المسلمة في القارة الأوروبية مثلاً، وكانت أحد أسباب هجرة عدد من الشباب المسلم الأوروبي نحو سوريا والعراق مروراً على الخصوص عبر الديار التركية

ومن بوسعه أن يصرف النظر عن الأدوار التي قامت بها منصات رقمية جهادية في نشر أدبيات تنظيم (القاعدة)، ومعها تنظيرات أغلب رموز العمل الإسلامي الجهادي من قبيل أعمال (أبو قتادة وأبو بصير الطروطوسي ومحمد المقدسي) وخاصة مجلدات (دعوة المقاومة الإسلامية العالمية) لعمر عبد الحكيم أو أبو مصعب السوري حسب لقبه الحركي، وجاءت في (1771) صفحة، وفي مقدمة تلك المنصات موسوعة رقمية تحمل اسم (منبر التوحيد والجهاد)، الذي تعرّض مراراً للحجب من قبل الأمريكيين، لكنّه كان يعود في منصات بديلة، بالمضامين نفسها، فقد كنا إزاء حرب رقمية حقيقية قائمة بين الأمريكيين والجهاديين، بينما كانت أغلب رموز المؤسسات الدينية والصوفية، ومعها أغلب الباحثين والإعلاميين "خارج التغطية"، حسب الاصطلاح الرقمي، ولا علم لهم بهذه التطورات.

تأكد تفوق المرجعية الإسلاموية الجهادية في هذا المضمار مع ما عايناه بعد أحداث 2011، وخاصة في الساحتين السورية والعراقية، مع أداء الإعلام أو الحضور الرقمي لتنظيم (داعش)، في حقبة كانت فيها المؤسسات الدينية العربية بالكاد قد ولجت هذا العالم، وما زال في أولى محطات البداية.

ليس هذا وحسب، فقد استهدفت المرجعيات الجهادية، سواء مع تنظيم (القاعدة) أو تنظيم (داعش) حتى أبناء الجاليات المسلمة في القارة الأوروبية مثلاً، وكانت أحد أسباب هجرة عدد من الشباب المسلم الأوروبي نحو سوريا والعراق مروراً على الخصوص عبر الديار التركية، في حقبة كانت فيها تركيا تفتح فيها أبوابها لمختلف الجهاديين من العالم، وللجهاديين القادمين من أستراليا، من أجل الانضمام إلى ساحة القتال ضد النظام السوري، في سياق صراعات استراتيجية ما زالت معرضة لتطورات وتفاعلات.

ومن يتابع النشرات الإخبارية والمجلات الصادرة عن تنظيم (داعش)، والأحرى الوصلات الرقمية الدعائية من خلال لائحة عريضة من المرئيات، وأغلبها محرر وصادر بعدة لغات، سيعاين فورة كمية ونوعية في هذه الحملات، بشكل يتفوق على أداء الحضور الرقمي لمجموعة من المؤسسات الدينية في المنطقة العربية.

المفارقة هنا أنّه بينما يصف العديد من الأقلام البحثية في المنطقة العربية المشاريع الإسلاموية الجهادية بأنّها رجعية وظلامية ومتشددة ومنغلقة وما جاور هذه الأحكام، وهي اتهامات وجيهة في سياق أخلاقي وسلوكي، لكنّها اتهامات متجاوزة أو في حاجة إلى تدقيق إذا استحضرنا هذا السبق الإسلاموي الجهادي في توظيف بعض أوجه العولمة التقنية، مقارنة مع تعامل نسبة لا بأس بها من هذه الأقلام البحثية نفسها، بل إنّ نسبة من هذه الأقلام تبدو متخلفة عملياً مقارنة بالتحديد مع تقدم الأقلام الإسلاموية بشكل عام في هذا المضمار، ومن ذلك الأقلام الإخوانية والأقلام الجهادية.

مواضيع ذات صلة:

المشاريع الإخوانية والمنعطف الرقمي

المؤسسات الدينية والمنعطف الرقمي

الخطاب الديني والمنعطف الرقمي




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية