التراث الفقهي والمساواة بين الجنسين

التراث الفقهي والمساواة بين الجنسين


22/02/2022

لاحظنا مؤخراً إثارة قضايا كثيرة تتعلق بحقوق المرأة ومكانتها الاجتماعية، خاصّة داخل مؤسسة الأسرة، وكان حديث قديم للإمام الأكبر شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب، يرجع إلى شهر رمضان 2019، قد سبّب ردود فعل كبيرة؛ لأنّ فضيلته قال فيه إنّ ضرب الزوجة المشروط، وغير المبرح، يعد مباحاً؛ لكسر كبرياء المرأة في حالة عِندها، وبغض النظر عن قضية ضرب الزوجة، وعن مواقف أخرى لشيخ الأزهر، يميل فيها إلى تقييد حق الضرب هذا.

اقرأ أيضاً: النسويّة الإسلامية.. تطلّع نحو المساواة أم ضرورة سياسية؟

إنّ إعادة نشر حديثه بعد عامين من بثه، وما ترتب على ذلك من إثارة وبلبلة إعلامية؛ كان له فوائد عديدة، منها إلقاء حجر في مياه راكدة، بخصوص قضايا مسكوت عنها، خاصّة في الحقوق والواجبات بين الزوجين، ولذلك بادر الأزهر وغيره من علماء الدين إلى إقرار حقوق للمرأة، مثل حقها في ثروة زوجها بعد الطلاق، أو الوفاة، خلافاً لحقها في الميراث، وهو ما عرف بـ"حق الكد والسعاية"، وكذا حقها في أجر على إرضاعها ابنها، وفوق ذلك خصّصت جريدة "صوت الأزهر"، ملفاً خاصّاً عن الأزهر والتجديد في قضايا المرأة، في عددها الصادر بتاريخ 16 شباط (فبراير) الجاري، دعت فيه إلى حوارٍ إيجابي بين المعنيين والمتخصصين، ينطلق من آخر ما انتهى إليه الاجتهاد الأزهري، ويتبناه إعلام جاد، لا يجنح نحو الإثارة، ويحترم الحقيقة، وينبذ الصراع، وهذه كلها تطورات إيجابيّة، خاصّة في موقف المؤسسة الدينية تجاه قضايا حياتية مصيرية، من جانب، وتجاه موقفها من قبول اجتهادات من خارجها، من جانب آخر.

التبرير الفقهي يتجاهل حركة التاريخ

سأحاول تناول بعض من هذه الحقوق المقترحة للمرأة، والاشتباك مع تبريرها فقهياً؛ تبريراً يوحي بأنّ تراثنا الفقهي حمل حلولاً لمشاكلنا الحالية، الأمر الذي قد يفهم منه حتميّة البحث عن الحلول في التراث، وليس الاجتهاد في حلول وآراء وتفسيرات جديدة، حتى لو لم يكن لها أشباه في التراث تقاس عليها.

بادر الأزهر وعلماء دين إلى إثارة قضية حقوق "منسية" للمرأة مثل "حق الكد والسعاية"

 وسأبدأ في هذا المقال، بما شاع مؤخراً من نشر آراء فقهيّة قديمة، تقول بأنّ على الزوج أن يدفع لزوجته أجراً على إرضاعها ابنه، ومن نَشر ذلك أراد أن يظهر عدالة الإسلام والشريعة (بغض النظر عن اعتبار الرأي الفقهي، لو أعجبنا، هو الإسلام والشريعة) في تكريم المرأة، وإقرار حقوقها.

في تصوري قد فات من أحيا هذا الرأي الوجيه في زمانه، وكذلك فات من فرح به من النساء وغيرهن الآن، فاتهم وفات كثيرين غيرهم قراءة سياق مثل هذا الحكم، وصورة المرأة في ذهن الفقيه الذي قال بذلك، وهل فعلاً رأي مثل هذا سيكرم المرأة حاليا لو طبقناه؟ أم أنه سيؤدي إلى انتقاص من كرامتها، وتعطيل لجهودها في مساواتها الحقوقيّة والاجتماعية بالرجل؟

اختلاف المفاهيم

لقد كانت نظرة الفقه التراثي للمرأة، مرتبطة بصورة المرأة الكليّة في ثقافة المسلمين وغير المسلمين، في عصور الإسلام الأولى وما تلاها، حيث كانت المرأة في العموم في خدمة الرجل؛ سواء للمتعة، أو لإنجاب ولي العهد، أو الوريث، أو المحافظ على امتداد العائلة.

نظرة واحدة لتعريف عقد النكاح في مختلف المذاهب الفقهية؛ ستبين لك أنّه ينطلق من عقد عوض مقابل استحلال الفرج، فنجد عبد الرحمن الجزيري، يقول في كتابه: الفقه على المذاهب الأربعة - جـ 4، ص 4.  إنّ "عقد النكاح وضعه الشارع؛ ليرتب عليه انتفاع الزوج ببضع الزوجة وسائر بدنها، من حيث التلذذ؛ فالزوج يملك بعقد النكاح هذا الانتفاع".

الأمر قد يفهم منه حتميّة البحث عن الحلول في التراث وليس الاجتهاد في حلول وآراء وتفسيرات جديدة

إذن الزوج بناء على هذا التعريف هو من يملك بضع (فرج) الزوجة وسائر بدنها، وليس العكس، ولذا كان على الرجل أن يتحمل كل التكاليف، التي من شأنها تحقيق تلك الأهداف؛ من مهر ومسكن ونفقة، وهنا يكون مفهوماً جداً الرأي الفقهي الذي يحرم على المرأة أن تمنع نفسها عن زوجها في أي وقت؛ لأنّ بضعها وبدنها ملكه، في حين أنّ أعدل الخلفاء عمر بن الخطاب، قال بجواز غياب الزوج عن زوجته ستة أشهر، كما روى الإمام مالك في الموطأ.

لو أنّ الفقهاء انطلقوا في رؤيتهم الفقهية، من حقوق كاملة للمرأة مثل الرجل، خاصّة هنا في الغريزة الجنسية، لما كان لهم أن يقولوا بجواز غيبته عنها من ناحية، وبحرمانية امتناعها عنه ولو ليلة واحدة، من ناحية أخرى، ولكنّهم معذورون؛ لأنّ الثقافة العامة في زمانهم كانت ترى المرأة هكذا، ولا يمكن للفقه الذي يعني في أساسه الفهم، أن يقول برأي يخرج عن حدود فهمه لظروف مكانه وزمانه.

اقرأ أيضاً: هل المساواة في المواريث مسألة دينية؟

أما فيما يتعلق برضاعة الابن (الولد عامة ذكراً كان أو أنثى) فقد انطلق الفقيه من أنّ الابن ملك لأبيه وليس أمه، ولذا تجب عليه نفقته وتحمل تكاليف ذلك، وقد يكون من تلك التكاليف أجر الرضاعة لأمه التي أنجبته، ونلاحظ ذلك بوضوح في قول الشافعية: "ولزوجها أن يستأجرها لإرضاع ولده منها، في حال قيام النكاح وبعده"، حيث لم يقولوا ولدهما، بل ولده منها، وكأنّها أداة فقط للإنجاب، أي إنّ هذا الأجر يعتبر مقابل خدمة تقدمها المرأة (الأم في الأساس) للرجل المالك الحقيقي للابن.

طبيعة المساواة المرجوة

لو أردنا مساواة حقيقية بين الجنسين أو الزوجين (الزوج والزوجة؛ لأنّ اللغة لا تسمح بصيغة مثنى محايدة بين الجنسين) لاعتبرنا الزوجة مساوية للرجل في الغريزة الجنسية، وحق الاستمتاع بها، وكذلك مساوية له في غريزة وعاطفة الأمومة من ناحيتها، والأبوة من ناحيته، ومن ثم لصار كل منهما يشبع للآخر غريزته ويبادله عواطفه، وأصبح كلاهما يمدح أو يذم، بنفس الدرجة عند التقصير في واجباته، ولصار من غير المعقول أن يدفع أحدهما للآخر أجر إشباع متعة، أو غريزة مشتركة بينهما، فإمّا أن يدفع كلاهما للآخر أجر ذلك، أو يتنازل كلاهما عنه، والنتيجة في الحالتين سواء.

ليس للفقه الذي يعني في أساسه الفهم أن يقول برأي يخرج عن حدود فهمه لظروف مكانه وزمانه

من هنا، ربما يتضح أنّ القول بأجر للأم عن الرضاعة في زماننا هذا، هو انتقاص من حقها في الأمومة، ومن مكانتها كمساوية للزوج في العلاقة أو الحياة الزوجية عامة، كما يظهر أنّ الحلول الفقهية التراثية على روعتها في زمانها، لا يمكنها من حيث المبدأ معالجة مشاكلنا اليوم، ومن ثم نحتاج لاجتهادات جديدة من كل المتخصّصين، داخل المؤسسات الدينية وخارجها، اجتهادات لا يشترط أن تقوم على وجود وقائع مشابهة في التاريخ الفقهي من عدمه.

إنّ مساواة حقيقية، يجب أن تراعي كافة التكاليف والأعباء بين الزوجين، ومن أراد أن يتخفف من بعض أعباء ماديّة، فعليه أن يعوّضها في المقابل بتحمل أعباء أخرى، وكذا من أراد أن يتخفف من أعباء منزلية في شؤون البيت الداخلية مثلا؛ فعليه أن يعوّضها بتحمل تكاليف مادية أخرى، ولا بد أن يُنظر إلى كل ما يقدمه الزوج أو الزوجة، من عمل داخل البيت أو خارجه، على أنّه جهد يقيم بمال، ثم يتقاسمانه بالمعروف، بما يحفظ حقوق الطرفين، ومع مراعاة أن الزواج ليس عقداً قانونياً فقط، بل هو مرتبط بقوة بالأعراف والتقاليد من جانب، وبالدين الذي وصفه بالميثاق الغليظ من جانب آخر، ولذا يفضل أن تمهد التوعية المجتمعيّة والثقافية، تصحبها الاجتهادات الفقهية، الطريق للتشريعات القانونية نحو المساواة بين الزوجين، لأنّه بالثقافة والقانون معاً؛ يمكن أن يحقق الزواج هدفه المنشود من السكن والمودة والرحمة.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية