الجنرال يبتسم أخيراً، وليته لم يفعل!

الجنرال يبتسم أخيراً، وليته لم يفعل!

الجنرال يبتسم أخيراً، وليته لم يفعل!


07/05/2023

بعد أن دسّ السمّ في طعام وزير دفاعه، وتركه يسقط على الأرض ويتلوى صريعاً، لم يكتف الجنرال بالابتسام، بل أطلق قهقهة صدّاحة، في أعقاب العشاء الأخير لصديقه وزوج شقيقته، وحليفه، كأنما أرد أن يبعث برسالة بأنّ كرسي السلطة الغاشمة يطلع الشرور كلها، ويملأ قلب الكائن بالتوحش.

هذا كان المشهد الأخير في مسلسل "ابتسم أيها الجنرال" الذي بث خلال شهر رمضان، وأخرجه عروة محمد وكتبه سامر رضوان.

المسلسل فيه جهد ملحوظ، والأهم من ذلك أنه، في تجربة تكاد تكون نادرة، يتولى نقد وتفكيك نظام حكم معاصر، بطريقة نجحت في تخطي الوقائع المباشرة، واختبأت وراء الفانتازيا، وخلطت الواقعي بالمتخيل.

تابعت حلقات المسلسل الثلاثين باهتمام، ورصدتُ عشر ملاحظات أوّلية عنه:

أولاً: العمل مصنوع، بل "منسوج" بحرفيّة عالية من سائر وجوهه، ويكشف مواهب إبداعيّة فرديّة، وروحاً جديدة قد تُعيد للدراما العربية هيبتها، فضلاً عن كونه اخترق منطقة تعدّ من التابوهات في الحياة العربيّة، وهذا يمنحه صفة الجرأة والشجاعة والإقدام.

دُبّجت أدبيّات تكفي لأن تغمر نهراً في شتم الاستبداد السياسيّ، وتمريغ صورة الديكتاتور في الوحل والعار، لكنّ عملاً أدبيّاً راقياً، يستطيع أن يحوّل الديكتاتور إلى أضحوكة

ثانياً: لم يتورّط المسلسل في الهجاء السياسيّ، رغم أنه يتعاطى مع مرحلة من أقسى المراحل في الحياة العربيّة الراهنة، بل ظل معتصماً بالفن، وقدّم دراما واقعيّة فيها مقدار عالٍ من الفانتازيا، ما جعله عملاً فنيّاً بامتياز. هذا خيار ذكي من المؤلف والمخرج وطاقم العمل. لَجْمُ الغضب أحياناً يكون ضرورة إكراهيّة، ومن الفطنة أن يتحوّل الغضب إلى تشريح المشكلة، وهذا ما سلكه المسلسل ولمع فيه.

ثالثاً: دُبّجت أدبيّات تكفي لأن تغمر نهراً في شتم الاستبداد السياسيّ، وتمريغ صورة الديكتاتور في الوحل والعار، لكنّ عملاً أدبيّاً راقياً، يستطيع أن يحوّل الديكتاتور إلى أضحوكة أو مسخرة، فيعرّيه ويقزّمه ويسهّد ليله، وهذا ما استطاع المسلسل إليه سبيلاً.

رابعاً: الإشارات في الفيلم واضحة، والإسقاطات مشهود عليها، فالكلّ صار يعلم من هو فرات، وحيدر، وعاصي، وسامية، وأنيس الرومي، ووضاح فضل الله، والدولة الغربية، ومحطة الشروق وصاحبها، وحوادث التفجير والاغتيالات. وهذا لا يعني أنّ المسلسل وثائقيّ، لأنه يخلط في غضون حلقاته الثلاثين الوقائع ببعضها بهدف إنتاج صورة أو حالة مكثفة لحقبة زمنية رسّخت قواعد الاستبداد، وبنت دولة البوليس بالحديد والنار والسجون التي صار الداخل فيها مفقوداً والخارج منها مولوداً، وتمّ سحق الإنسان وإلغاؤه، وجعله يتنفّس الخوف ويتغذّى على الذعر والكوابيس.

خامساً: المسلسل يخلط بين حقبتين بطريقة مدهشة، لكنّه يتوقف عند حقبة في دولة الفرات، بعد تخلّص الرئيس من شقيقه في حمّى الصراع الدموي على السلطة، ما يعني أنّ المجال مفتوح لاستكمال المشوار في مسلسلات قادمة تعاين أهوال ما صنعه النظام فيما بعد، لا سيما في الثورة التي اندلعت عام 2011، وما تزال آثارها الزلزاليّة ماثلة حتى الآن.

سادساً: المسلسل لم يفترِ على أحد، ولم يفتعل أحداثاً غير موجودة، ولم يفبرك. بل إنه غرف غيضاً قليلاً جداً من فيض المآسي والوحشيّة والظلام. لذا يتعيّن محاكمة العمل وفق أطروحته الفنيّة، ومعالجته الدراميّة، لا وفق موقفنا من النظام.

سابعاً: المسلسل قدّم درساً بليغاً عن مقدرة القوة الناعمة للدراما في التعرية السياسيّة، وإعادة تشكيل ولو بذرة لموقف عام ينتقد الاستبداد والحكم العائلي، ويفضح الشعارات التي ظلّت تخدّر الناس بحقّ الردّ (في الزمان والمكان المناسبين!!)، وبالتهديد الإمبرياليّ والصهيونيّ والمؤامرات الخارجيّة، وبشعارات المقاومة والممانعة. سقطت، يقول المسلسل، ورقة التوت يا سادة!

لم يتورّط المسلسل في الهجاء السياسيّ، رغم أنه يتعاطى مع مرحلة من أقسى المراحل، بل ظل معتصماً بالفن، وقدّم دراما واقعيّة فيها مقدار عالٍ من الفانتازيا

ثامناً: انتقد بعض "المعارضين" المسلسل، وعابوا عليه أنه كان رؤوفاً في خطابه، وأنه يسعى إلى إقامة تطبيع مع النظام، وهؤلاء حكموا، كشأن كثيرين على بضع حلقات. لكنّ العمل برمّته قدّم صفعة أليمة للنظام وأدوات استبداده، وعرّى حاشيته، وكشف عن أهوال تحويل البلد إلى مستودع للسموم والتجارب اللإنسانيّة، وكيف أضحى هدف بقاء النظام يعلو على كلّ شيء.

تاسعاً: الاقتباسات التي استهلّ بها المسلسل كلّ حلقة عن ميكافيلي كانت بليغة ولصيقة بطبائع استبداد النظام وسواه من الأنظمة التي جعلت صاحب كتاب "الأمير" ملهمَها، ونبيَّها الشرير.

عاشراً: كان أداء الممثلين مبهراً، بدءاً بعبد الحكيم قطيفان (حيدر) ومكسيم خليل (الرئيس) وغطفان غلوم (عاصي)، ومازن الناطور (أنيس الرومي)، ومحمد الأحمد (وضاح فضل الله)، وعزّة البحرة (والدة فرات) وريم علي (صوفيا)، وسوسن إرشيد (سامية) ومرح جبر (ماريا)، وسواهم من طاقم المسلسل الذي يستحقّ السجال، لا كيل الاتهامات وتبادل الشتائم.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية