"السوار الأرجواني"...هل هو حلّ لتذمّرنا؟

"السوار الأرجواني"...هل هو حلّ لتذمّرنا؟


06/06/2019

يقول ديفيد هاملتون في كتابه "كيف يستطيع تفكيرك أن يشفي جسدك": "إنّ التذمر من الأشياء وانتقاد الناس، قد أصبحا طريقة في الحياة بالنسبة إلى العديد منّا، بحيث أنّنا لا نلاحظ حتى كم مرة نقوم بهذا، فقد تحول الأمر إلى عادة"، هذه العادة دفعت ويل بووين أن يقدّم في كتابه "عالم خالٍ من التذمّر" تجربةً تساعد على الانتباه للسلوك التذمّري الذي يرافق يومنا، وذلك بأن نرتدي سواراً أرجوانياً، وأن ننقله إلى المعصم الآخر في كل مرة نتذمر فيها، ولمدة واحد وعشرين يوماً. قد لا نقوم  بهذه التجربة، ولكن لنتخيل على الأقل أنّ الجميع من حولنا يرتدي السوار، فما الذي سنشاهده؟ في الواقع إنّ الإخفاقات الوجودية التي  يتعرَض لها الفرد في مجتمعاتنا، قد تجعل هذا السوار يتنقل طيلة الوقت بين معاصمنا.

اقرأ أيضاً: ما لا تعرفه عن سيكولوجيا الطابور.. انتظار العدالة في سجن مؤقت
يحمل المعنى المعجمي للتذمّر دلالات سيكولوجية، تتلخص في غياب الفعالية النفسية وسيطرة الجانب اللاعقلاني على الفرد، فتذمَّر الفرد؛ أي غضب وتعصّب، وعبّر عن استيائه وسخطه وعدم رضاه، بالإضافة للتأفف، وتوجيه اللوم إلى الآخر دائماً، هذه الانفعالات السلبية لمحصلة معاني "تذمّر"؛هي من تتسبّب بتقليص الفهم والتفاعل في علاقاتنا، مثلما يشير إليه الفيلسوف ادغار موران في كتابه "تربية المستقبل": "يتسبب عدم الفهم في الحماقة، بقدر ما تتسبب الحماقة في عدم الفهم، فالتذمر يؤدي إلى اقتصاد في عمليتي الفحص والتحليل"، هذا الاقتصاد يسمح بتجنّب كل مجهود عقلي يمكن أن يُضفي على الموضوع المقصي، إلى درجة أنّ التذمّر "يصبح حكما أخلاقياً، يعبّر عن رفض دائم لكل تحليل أو حتى تفكير" بتعبير كليمون روسي.

يحمل المعنى المعجمي للتذمّر دلالات سيكولوجية تتلخص في غياب الفعالية النفسية وسيطرة الجانب اللاعقلاني على الفرد

أن يكون التّذمر تأجيلاً مستمراً للفهم، هو ما يؤسس لعدم اعتراف دائمٍ بالآخر، ثم إلى حالة من الإنكار المتبادل بين الفرد والواقع، ولا تتطلب الكثير من الذكاء معرفة أنّ واقع مجتمعاتنا المتردّي يدفع بقوة إلى التذمّر، ولكن ما لا تتم ملاحظته أنّ السلوك التذمّري يعيد إنتاج الواقع بمقاس البؤس والتردي الذي يرفضه، وهذا بالضبط ما يجعلنا نفرّق بين التذمر والتنفيس؛ فالمتذمّر هو شخصٌ يعيش في الماضي، ويمتهن حَقن النوايا بالسوء والضغينة، لتتخذ العلاقات طابع القسوة والعنف، طالما أنّ المتذمر يرافقه إحساس دائم بالظلم والتمييز، وهذا في المحصلة يجعل من المتذمّر يتبنى دور الضحيّة، الذي يمتاز بانعدام التفكير المنطقي وضيق الأفق، كما يجعل المتذمّر لا يرى الأمور إلّا من منظار المشكلة الممتدة الأجل، طالما أنّ صيغة "يجب أن أفعل"، تزيح صيغة "أود أن أفعل".

اقرأ أيضاً: هكذا يحلل علم النفس شخصيات السياسيين الشعبويين
  ففي عالمنا الذي خطا التقدم التقني فيه خطىً واسعة، والذي من المفترض أن يقدّم حلولاً جذرية لكثير من المصاعب التي اعترضت الإنسان طويلاً، نلاحظ مع ذلك أنّ مناسيب التذمّر قد ارتفعت عمّا كانت عليه في السابق، فيكفي أن نستعرض عينات من وسائل التواصل الاجتماعي، لنرى كمّ التذمّر الذي يُطرح في هذا الفضاء؛ إذ إنّ هوامش الاختلاف الواسعة التي تطرحها حريّة التصفح في هذه المواقع، عززت في كثير من الأحيان النمط المتذمّر بدل أن تقلّصه، ذلك أنّ الفعاليّة الافتراضية النشطة لمدمني مواقع التواصل، يقابلها الكسل وغياب الفعّالية على أرض الواقع.
وبحسب ديفيد هاملتون، فإنّ "التذمر يؤثر في الأشخاص حولنا، فنحن نشبه "الشوكات الرنانة" عندما تضرب الشوكة تهتز الأشياء الأخرى القريبة منها معها، هذا ما يحدث أيضاً عندما نتذمر على نحوٍ مستمرٍّ بالقرب من الآخرين؛ إذ نفجر شكواهم ونستفزهم". وبالطبع هذه العدوى التي تنال من الآخرين واقعياً أو افتراضياً، سيكون لأطفالنا، الدائرة الأقرب، الحصّة الأكبر منها.

اقرأ أيضاً: "المتعصبون – جنون الإيمان".. قراءة في نفسية مرتكبي العنف
لقد اتفق علماء النفس والاجتماع بعد بحوثٍ مطوّلةٍ، على مجموعة الأسباب التي تقف وراء التذمّر عند الأطفال؛ وقد يكون أبرزها الاتكالية والأنانية، والدلال أو الحرمان، وإثبات الوجود وفرض الرأي، ثم التقليد والمحاكاة، وهذا الأخير باعتقادي هو السبب الحاسم للتذمّر عند أطفالنا، كون التذمر هو الصفة الغالبة على مجتمعاتنا، وبالنظر إلى أنّ السلوك التذمّري ينتقل بقوة من الكبار إلى الصغار، هذا يعني أنّ الأسرة والمدرسة يلعبان الدور الأهم في تكريس التذّمر، مما يجعل من طرق التعامل مع الطفل المتذمّر (كتعزيز مبادئ القناعة والصبر والتعاون واحترام مشاعر ورغبات الآخرين) طرقاً متعثرة، خاصةً أن تكريس النزعة المثالية عند الأطفال عبر إعلاء لفظي للقيم والمُثل، تتناقض في كثير من الأحيان مع ما تقوم به الأسرة والمدرسة من خلال تذمرهما أمامهم ومنهم.

أن يكون التّذمر تأجيلاً مستمراً للفهم هو ما يؤسس لعدم اعتراف دائم بالآخر، ثم لحالة من الإنكار المتبادل بين الفرد والواقع

هل حقاً نحن نحب أطفالنا؟ يمكن أن نحرر هذا السؤال من الالتباس، إذا انتبهنا إلى أنّ ما نحبه لا نتذمّر منه، بينما ما يحدث مع أطفالنا عكس ذلك، فنحن لم نتمكن بعد من فصل الطفل عن سلوكه، كما لا يخفى كيف نخرس أسئلة أطفالنا، ونغلق باب المخيلة التي من شأنهم أن يخرجوا منها أكثر فرحاً واتساعاً، وقد تتضح الصورة أكثر في إطار تذمّر بعض الأسر من الإخفاق التعليمي المستمر، الذي يدفعها إلى حرمان الطفل من حقّه في التعلّم عبر إخراجه من المدّرسة، المدرسة التي لم تتمكن من أن تحدث فرقاً؛ لأنها تتواطأ مع هذا الحل الذي انطلق من جملةٍ متذمرة تعززها وتكرسها "إنه طفلٌ كسول".

اقرأ أيضاً: أشهر 5 مغالطات شائعة في الصحة النفسية
هذه الممارسات التي نفرضها على أطفالنا ليست إلا حلولاً إقصائية يقف وراءها التذمّر؛ فالتذمّر الذي يوصد باب الإمكان والاختيار، يعزز فكرة الخلاص عند الأفراد، التي قد تدفع الفرد للذهاب إلى حلول قصوى تجعل من التطرّف مخرجاً وجودياً للتهميش والإقصاء اللذين يشلّان وجوده، يكفي أن نرمي حجراً في بحيرة ونرى الكم الهائل من الدوائر المتتابعة، لندرك أنّ التذمر لن يولّد سوى التذمر، والمجتمعات المتذمرة لن تنجب سوى أطفال متذمرين، سيلجأون للحلول الإقصائية أيضاً. ربما يختصر "سادجورو" كل ذلك في قوله: "يجب أن تكون سعيداً أولاً لتنجب طفلاً، ويجب أن تربي نفسك قبل أن تربيه". وإلّا فإنّ السوار الأرجواني لن ينجو بدوره من تذمّرنا.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية