الصوفية والمنعطف الرقمي

الصوفية والمنعطف الرقمي

الصوفية والمنعطف الرقمي


21/08/2023

هذه هي المقالة ما قبل الأخيرة من سلسلة مقالات تندرج حول تعامل أهل الخطاب الديني مع الثورة الرقمية، وتم افتتاحه عبر مقالة مؤطرة تحت عنوان "الخطاب الديني والمنعطف الرقمي"، وتلته ثلاثة مقالات تهم تفاعل المؤسسات الدينية والمشاريع الإخوانية والجماعات الجهادية، على أن تخصص المقالة الموالية لتفاعل المؤثرين الجدد في العالم الرقمي، قياساً على الموجة الجديدة من ظاهرة "الدعاة الجدد"، لكن في المجال الرقمي هذه المرة، بعد أن كانت الموجة الأولى تهم حضورهم في الفضائيات العربية والإسلامية.

نتوقف إذن في هذه المقالة عن تفاعل أهل التصوف مع المنعطف نفسه بما يقتضي بداية بعض التدقيق، لأن التصوف هنا يحيل على خطاب وعمل.

فأما الخطاب؛ فالمقصود به كل من يُرَوّجه في الساحة، الإعلامية والبحثية وغيرها، وحتى في هذا المقام، لا ضير من التمييز الإجرائي الصرف بين من يُرَوّج هذا الخطاب وهو عضو أو مريد في إحدى الطرق الصوفية، وبين من يُرَوّج الخطاب الصوفي دون أن يكون منتمياً إلى تيار صوفي معين.

أما في مجال العمل الصوفي، فيجب التمييز الدقيق بين الطرق الصوفية والزوايا؛ لأننا نعاين اختلافات جزئية بين هذين العملين من جهة، ونعاين بالتالي تبايناً في تعامل أهل الطرق الصوفية والزوايا مع المنعطف الرقمي.

هناك محددان اثنان على الأقل يقفان وراء انخراط أهل التصوف في الحضور الرقمي يكمن الأول في التعريف بخطابهم الديني الذي يختلف عن باقي أنماط التديّن الإسلامي، ومنها التديّن الإسلاموي، من قبيل الإسلاموية الإخوانية أو الإسلاموية الجهادية

الطرق الصوفية اليوم تكاد تكون مؤسسات دينية قائمة بذاتها، على غرار المشاريع الإخوانية والجهادية، حيث نجد الشيخ والأعضاء المقربين والأتباع، إضافة إلى وجود مجالات قطاعية للاشتغال من قبيل المجال الطلابي والقطاع النسائي، ما دمنا نتحدث عن مأسسة؛ بخلاف الأمر مع الزوايا والتي بقيت بشكلها التقليدي، بعيدة عن معضلة المأسسة هذه، وغالباً ما يدور عملها في فلك أداء الصلاة، وجلسات الذكر الجماعي أو الفردي، الممارسات الإحسانية التي تروم تقديم مساعدات للمحتاجين، والسهر على التربية والوعظ والإرشاد، لكن بعيداً عن الدعاية والترويج والإشهار. هناك قواسم مشتركة بين الطرق الصوفية والزوايا ولكن يكمن أهم فارق في محدد المأسسة والهيكلة.

هناك محددان اثنان على الأقل يقفان وراء انخراط أهل التصوف في الحضور الرقمي:

ــ يكمن الأول في التعريف بخطابهم الديني، وهو خطاب أخلاقي بالدرجة الأولى، ينهل من مقام الإحسان حسب الأثر النبوي الذي يُفرق بين مقامات الإسلام والإيمان والإحسان، ومعلوم أنّ هذه الميزة تعتبر من بين أهم الفوارق بين العمل الصوفي وباقي أنماط التديّن الإسلامي، ومنها التديّن الإسلاموي، من قبيل الإسلاموية الإخوانية أو الإسلاموية الجهادية، حيث غَلَبة الهواجس السياسية مع الأولى والهواجس القتالية مع الثانية، بصرف النظر عن وجود مجموعة قواسم بين شتى أنماط الإسلاموية، لكن الشاهد هنا أن التديّن الصوفي إجمالاً مختلف عن التديّن الإسلاموي، ويتجاوزه في نقاط تساعدنا في قراءات نزوح إسلاميين نحو التصوف كما نعاين مع مجموعة نماذج في الساحة، مقابل تواضع الأسماء الصوفية التي تتجه نحو التديّن الإسلاموي.

ــ أما المحدد الثاني، فيُحيل على مقتضى العرض والطلب الذي يُميز الإقبال على الخطاب الديني، حيث إنّ الرأي العام إجمالاً، غالباً ما يبحث عن أسئلة تدور في فلك الفقه والسلوك، خاصة أنّ الساحة تعج بمجموعة من الفاعلين الذين ينخرطون في تمرير أو مد الرأي العام بأجوبة على تلك الأسئلة، من قبيل الدعاة والوعاظ في المؤسسات الدينية، وكذا دخول الأسماء الإسلامية، ما دمنا أمام ما يُشبه "سوق دينية مفتوحة" وخاضعة بشكل أو بآخر لمقتضى العرض والطلب سالف الذكر، ومن بين أهم الأعمال التي ننصح بها في هذا السياق كتاب للباحث السويسري باتريك هايني، تحت عنوان "إسلام السوق"، ومع أنه اشتغل بالدرجة الأولى على ظاهرة "الدعاة الجدد"، إلا أن هاجس "السوق الدينية" إن صحّ وصفها كذلك، مهم استحضاره في معرض قراءة تفاعل أهل الخطاب الديني مع المنعطف الرقمي.

وجد المتديّن الصوفي نفسه، بما في ذلك الطرق الصوفية والزوايا والأقلام الصوفية، من المعنيين بالانخراط في التدافع مع باقي الفاعلين من أجل تمرير أجوبة من منظور صوفي، على غرار الأجوبة التي تقدمها الأصوات الإسلاموية، لكن من منظور إسلاموي صرف، ويمكن العودة لطبيعة تفاعل مختلف أنماط التديّن في المنطقة العربية خلال العقد الماضي، وخاصة بعد أحداث كانون الثاني/ يناير 2011، حتى نعاين الفوارق الكبيرة في أجوبة مجمل هذه المرجعيات الدينية على هامش قراءة وتدبير القلاقل الدينية والسياسية التي صاحبت تلك الأحداث.

انخرطت الطرق الصوفية في التفاعل مع مقتضيات الثورة الرقمية، لكن التداعيات لم تكن بالضرورة وردية، لأن هناك عدة تحديات أو إكراهات تعاني منها الأقلام الصوفية، ونتوقف عند نموذجين من هذه التحديات، ضمن لائحة عريضة منها:

ــ إذا كان هامش الحرية والأخطاء مرتفعاً في سياق داخلي صرف لمنظومة دينية معينة، من إخوان وسلفية وصوفية وغيرها، فإن انفتاح هذه المنظومة على مجالات مغايرة لها قواعدها وإكراهاتها، ولا علاقة لها قط بالخطاب الطهراني والمثالي، يتسبب في تراجع مؤشر ذلك الهامش، والنموذج هنا المنظومة الرقمية، لأنه بمجرد الانخراط فيها، يجد الفاعل الديني المعني نفسه، منخرطاً في القيام بممارسات ربما لم يكن يتوقعها أو لم تخطر له على بال.

على سبيل المثال، بعض الظواهر السلوكية غير السوية في التفاعل الرقمي، يصعب على الفاعل الصوفي التهرب منها أو تفاديها لأن "منطق السوق الرقمي" يتطلب ذلك، ولا علاقة للأمر بالمثاليات والطوبى وما جاور ذلك الخطاب، من قبيل الانخراط في حملات دعائية، أو التورط غير المقصود في صراعات وخلافات عقدية ومذهبية وسلوكية مع باقي الفرقاء وقلاقل أخرى، كانت الطرق الصوفية المعنية في غنى عنها قبل ولوج العالم الرقمي، لكن ولوجها هذا الفضاء الافتراضي يقتضي منها أن تكون معنية بهذه القلاقل، إلا إن ارتأت أخذ مسافة من هذه المعضلة ومعنى ذلك الابتعاد الكلي عن العالم الرقمي وهذا أمر شبه محال إن لم يكن كذلك بالفعل لأن العالم الرقمي يعج بشتى أنماط الخطاب الديني بما في ذلك الخطاب الصوفي، بما يحيلنا على التحدي الموالي.

وجد المتديّن الصوفي نفسه، بما في ذلك الطرق الصوفية والزوايا والأقلام الصوفية، من المعنيين بالانخراط في التدافع مع باقي الفاعلين من أجل تمرير أجوبة من منظور صوفي، على غرار الأجوبة التي تقدمها الأصوات الإسلاموية، لكن من منظور إسلاموي صرف

ــ إذا وجدت الطرق الصوفية نفسها معنية بالتفاعل مع قلاقل كانت في غنى عنها بعد ولوج العالم الرقمي، لأن "منطق السوق الرقمي" يفرض ذلك على الجميع دون استثناء، فإنها ستجد نفسها مضطرة للتقليل من أي ملاحظات نقدية تصدر في حقها بخصوص التوفيق بين خطابها الديني الأخلاقي وبين بعض الممارسات التي تسيء إلى الخطاب نفسه، وتتضح هذه المعضلة السلوكية بشكل صريح مع مجموعة من الحسابات الصوفية الفردية، التي لا يزعم فيها أصحابها أنهم أعضاء في طريقة صوفية ما أي من المريدين، بقدر ما يروجون أنهم من أتباع الخطاب/ العمل الصوفي، لكن مضامين تفاعلاتهم تطرح أسئلة عن تشويش في جهازهم المفاهيمي بخصوص طبيعة العمل الصوفي الذين ينهلون منه، أقل ذلك أن بعض هذه التفاعلات تسيء أو تتعارض مع أبسط القواعد الصوفية، وفي مقدمتها الابتعاد عن تزكية الذات، وعدم التباهي وما جاور تلك الأدبيات التي حُرّر فيها الشيء الكثير منذ القرن الثالث الهجري على الأقل، فالأحرى الأدبيات أو النصوص المؤسسة للعمل الصوفي من منظور أهله، والتي صدرت قبل تلك الحقبة، أي ما جاء في القرآن الكريم والأحاديث النبوية.

هذا غيض من فيض الإكراهات التي تمرّ منها الصوفية على هامش تفاعلها مع المنعطف الرقمي، وقد اتضح أن بعضها يشوش على التصوف نفسه، وليس صدفة أننا نعاين تواضعاً بحثياً من طرف الأقلام الصوفية، في الإعلام والبحث العلمي، بخصوص الاشتغال على هذه التحديات والإكراهات، إما بسبب عدم الانتباه إليها أو لأنها غير مفكر فيها أو لأسباب أخرى، ولكن أياً كانت أسباب ذلك التواضع في المواكبة الإعلامية والبحثية، فالأمر يزكي وجود قلاقل حقيقية تهم ثنائية التصوف والمنعطف الرقمي، وهو ما حاولنا تسليط الضوء عليه من خلال إشارات في هذه المقالة.

مواضيع ذات صلة:

المشاريع الإخوانية والمنعطف الرقمي

المؤسسات الدينية والمنعطف الرقمي

الخطاب الديني والمنعطف الرقمي




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية