الصين وسيط في مركز رقعة الشطرنج الجيوسياسية العالمية

الصين وسيط في مركز رقعة الشطرنج الجيوسياسية العالمية

الصين وسيط في مركز رقعة الشطرنج الجيوسياسية العالمية


كاتب ومترجم جزائري
23/08/2023

ترجمة: مدني قصري

في آذار (مارس) الماضي، وبعد سبع سنوات من القطيعة استعادت إيران والسعودية علاقاتهما، بعد وساطة صينية. لكنّ بكين لا تريد التوقف عند هذا النجاح، بل تواصل نشاطها الدبلوماسي في العديد من الملفات الأخرى. في وقت سابق من هذا العام عرضت جمهورية الصين الشعبية "موقفاً بشأن التسوية السياسية للأزمة الأوكرانية" وقالت إنها تأمل في "لعب دورٍ بنّاء في تعزيز المحادثات". واليوم تطمح الصين إلى لعب دور الوسيط في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.

تقدّم جمهورية الصين الشعبية نفسها اليوم أكثر من أي وقت مضى كقوّة معنيّة باستعادة السلام والحفاظ على الاستقرار. ووفقاً للمؤرخ ألفريد ماكوي فإنّ هذا النهج - الذي يجذب بشكل متزايد بلدان الجنوب - من شأنه أن يكشف عن التحوّل العميق في توازن القوى الدولية:

يقول ماكوي: "منذ أكثر من 200 عام لم تكتفِ مؤتمرات السلام بتسوية النزاعات فحسب، بل تشير بانتظام إلى وصول قوّة عالمية جديدة إلى مركز الصدارة. فمن التفاهم الإيراني السعودي إلى زيارة ماكرون لبكين ربما نحن نشهد الآن أولى بوادر تحوّل السياسة الدولية".

من خلال السعي لإحياء المحادثات بين الإسرائيليين والفلسطينيين تعتزم الصين ملء الفراغ والإشارة إلى نهاية حقبة غربية لعبت فيها الولايات المتحدة دوراً رئيسياً.

"وسطاء خداع" و"وسيط نزيه"

إذا كانت الصين تستطيع أن  تضع نفسها كوسيط بين الإسرائيليين والفلسطينيين، فذلك قبل كل شيء لأنّ هذا الدور لم تعد الولايات المتحدة تقوم به بالفعل. في هذا الصدد يتفق معظم المحللين على القول إنّ واشنطن لم تكن "وسيطاً نزيهاً". يعتقد المؤرخ رشيد الخالدي، مدير قسم الشرق الأوسط في جامعة كولومبيا، أنّ واشنطن لم تسعَ حقاً إلى حلٍّ سلمي للصراع. وبحسب قوله فإنّ الأمريكيين الذين قدّموا باستمرار تعهدات للسلطة الإسرائيلية وقادوا المناقشات لصالح تل أبيب قد رَهَنُوا أيّ احتمال للتسوية.

وجهة النظر هذه يشاركها الباحث الأمريكي سيث أنزيسكا الذي يفحص فشل عملية السلام من خلال تَتَبُّعِه لِما أسماه "سلسلة اللاّحدث". ويوضح أنّ عدم التناسق العميق بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني قد رعته الإدارات الأمريكية المتعاقبة. ويُذكِّر أنّ واشنطن قدّمت لحليفها دعماً غير مشروط، وذهبت إلى حد اعتبار أنّ استمرار الاستيطان في الأراضي المحتلة لا يشكل عقبة أمام إبرام اتفاق سلام.

عرضت الصين "موقفاً بشأن التسوية السياسية للأزمة الأوكرانية" وقالت إنها تأمل في "لعب دورٍ بنّاء في تعزيز المحادثات"

إذا كانت إتفاقيات أوسلو الأولى والثانية (في 1993 و1995) قد خلقت لبعض الوقت الوهمَ بأنها ستؤدي إلى إنشاء دولة فلسطينية - لم يرِد ذكرُها في النصوص مطلقاً - فقد تبدّد هذا الوهم في النهاية. أظهرت الأبحاث الأكاديمية الأكثر جديّة أنّ عملية السلام كانت مجرد سراب. على الرغم من أنها سمحت بإنشاء جهاز دولة فلسطينية مُدْمَج في جهاز الاحتلال، إلا أنها لم تحمل قط أي مؤهِّلٍ لولادة دولة فلسطينية.

أدى ركود عملية السلام في التسعينيات، والفشل الذريع لقمة كامب ديفيد، واستئناف الانتفاضة في أيلول (سبتمبر) 2000 إلى إقصاء أي احتمال لحل النزاع. ففي خلال تلك الفترة  أتاح التدخل الأمريكي الحازم إلى جانب إسرائيل الحفاظ على التفوق العسكري النوعي لتل أبيب، مما ضمن لها تفوّقاً إقليمياً. لقد تجسد التزام واشنطن من خلال المساعدات المالية الكبيرة وتزويد إسرائيل بالأسلحة وهو الالتزام الذي يعكس ديمومة ارتباطها العضوي مع حليفها الإسرائيلي.

بالعمل على تعميق علاقاتها مع دول الشرق الأوسط تسعى الصين إلى إسقاط استراتيجية الاحتواء الأمريكية. ومن خلال سعيها هذا تعيد الصين تشكيل المشهد الإقليمي

لقد انتهت محاولات إعادة إطلاق المحادثات منهجياً بالفشل، بسبب تعنّت الجانب الإسرائيلي الذي لم يوافق أبداً على أدنى حل وسط (رفض إنهاء الاستيطان وإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين، ورفض حل الدولتين). على الرغم من هذا الجمود الهيكلي تأمل الصين - التي تسعى إلى تحدي التفوق العالمي للولايات المتحدة - في إنعاش العملية التي توقفت منذ عام 2014.

فلسطين ترحّب بوساطة صينية

حول هذا الملف تتمتع بكين بِميزتَين رئيسيّتين. فمن ناحية ستلقى إعادة إطلاق مبادرة السلام العربية لعام 2002 ترحيباً من الدول العربية المنخرطة في طريق التطبيع مع إسرائيل.

من ناحية أخرى يلقَى اقتراحُ الوساطة الصينية ردودَ فِعل إيجابية من الفلسطينيين. 80٪ منهم يؤيدون الوساطة الصينية التي من شأنها تسهيل المحادثات بين الطرفين (60٪ من المستطلَعين يعتقدون أنّ الولايات المتحدة ليست وسيطاً موثوقاً به).

في يونيو (حزيران) الماضي، دعا رئيس السلطة الفلسطينية أيضاً، لدى استقباله في بكين، الصينَ للضغط على إسرائيل من أجل تفعيل حلٍّ للصراع الإسرائيلي الفلسطيني. إلا أنّ جمهورية الصين الشعبية لا تملك أدوات لجلب الإسرائيليين إلى طاولة المفاوضات.

لا توجد أبعاد متساوية بين بكين وواشنطن

طوّرت بكين علاقات عسكرية وتجارية وثيقة مع تل أبيب على مدى العقود الماضية. ففي عام 2017 تم إبرام شراكة شاملة مجدِّدة لتكثيف التعاون في جميع المجالات، بما في ذلك التكنولوجيا (من بين 507 اتفاقية تجارية ثنائية مبرمة بين عامي 2002 و 2022  فإنّ 492 اتفاقية تتعلق بقطاع التكنولوجيا). فالصين، وهي الشريك التجاري الثالث لإسرائيل بعد الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة  تستثمر في بناء وتحديث البنية التحتية الإسرائيلية.

ومع ذلك، لا تزال إسرائيل مهتمة بتأمين المصالح الأمريكية. ففي عام 2021  أنشأت الصين محطة حاويات آلية في ميناء حيفا، الأمر الذي أثار استياء واشنطن - التي كانت تخشى إنشاء تكنولوجيا مراقبة صينية بإمكانها أن تتجسس على الأسطول السادس للولايات المتحدة. على الرغم من الاستثمارات الصينية الضخمة، فإنّ الهند في النهاية هي التي سيطرت على أكبر ميناء في إسرائيل.

ومن ناحية أخرى ففي عام 2022 كثفت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية أيضاً مكافحتها ضد تجسس الشركات الصينية التي تحاول الوصول إلى التكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية.

وأخيراً فقد تطور قطاع التكنولوجيا الإسرائيلي باستخدام الأراضي المحتلة كمختبر اختبار لأنظمة الأسلحة الجديدة وأدوات المراقبة والسيطرة على السكان. وهكا يُعَدّ برنامج التجسس Pegasus الذي يتم تصديره إلى العالم مثالاً واضحاً على ذلك.

لذلك من الواضح أنّ بكين لديها فرصة ضئيلة لتغيير الخط السياسي الإسرائيلي. ففي نيسان (أبريل) الماضي ألمح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كذلك إلى أنّ تل أبيب لا تزال تنظر إلى الولايات المتحدة على أنها الوسيط الوحيد الصالح:

"نحن نحترم الصين ونتعامل معها كثيراً. لكننا نعلم أيضاً أنّ لدينا تحالفاً لا غنى عنه مع صديقتنا العظيمة، الولايات المتحدة".

علاقة استراتيجية قبل كل شيء

حتى لو لم تنجح الجهود الدبلوماسية الصينية فلا تزال بكين مهتمة بترقية "السلام الصيني". فمن خلال استراتيجية محددة تسعى لتحدي النظام الدولي الأمريكي سيكون للتعاون مع دول الشرق الأوسط أهمية حاسمة. لقد تحرر العديد من هذه الدول من وصاية واشنطن للدفاع عن مصالحها السيادية. يريد شي جين بينغ أن يرفع الصين إلى مرتبة القوة العالمية في عام 2049: وهذا يتطلب السيطرة على الملفات والفضاءات المخصَّصة حتى الآن للولايات المتحدة.

 تطمح الصين إلى لعب دور الوسيط في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني

كما يشير إلى ذلك العالم الجيوسياسي نديم أحمد موناكال:

"تؤمن بكين بفكرة السلام من خلال عملية التنمية، عبْر تعزيز"المفاهيم المشتركة للأمن". وهذا المنظور يختلف عن "النظرة التقليدية للأمن" التي يقودها الغرب والتي تركز على البحث عن الأمن من خلال هزيمة العدو والحفاظ على تحالفات عسكرية حصرية".

العالم الجيوسياسي نديم أحمد موناكال: تؤمن بكين بفكرة السلام من خلال عملية التنمية، عبْر تعزيز المفاهيم المشتركة للأمن. وهذا يختلف عن النظرة التقليدية للأمن

وفي هذا الصدد عزّزت بكين علاقاتها مع دول المنطقة، من خلال المبادرات الدبلوماسية (قمم الصين والدول العربية، أو قِمم مجلس التعاون بين الصين ودول الخليج العربي في عام 2022) والشراكات الاستراتيجية ومذكرات التفاهم لفائدة أنشطتها الاقتصادية. وتتجسد هذه الشراكات بشكل أساسي من خلال مشاريع استثمارية تحمل علامة "طرق الحرير الجديدة" والتي تُّعدّ الروافع الرئيسية للسياسة الخارجية الصينية.

بالعمل على تعميق علاقاتها مع دول الشرق الأوسط تسعى الصين إلى إسقاط استراتيجية الاحتواء الأمريكية. ومن خلال سعيها هذا تعيد الصين تشكيل المشهد الإقليمي. يجب أن يتحدى هذا التشكيلُ الجديد في النهاية هيمنةَ الولايات المتحدة. فالولايات المتحدة تواجه صعوبة متزايدة في الاعتماد على القوى الإقليمية لتكريس النظام الدولي الأمريكي.

مصدر الترجمة عن الفرنسية:

https://theconversation.com/la-chine-un-mediateur-au-centre-de-lechiquier-geopolitique-mondial




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية