الغرب و"طالبان" وامتحان حقوق الإنسان

الغرب و«طالبان» وامتحان حقوق الإنسان

الغرب و"طالبان" وامتحان حقوق الإنسان


08/04/2024

ياسر عبد العزيز

بالنسبة إلى معظمنا، كشرقيين يعيشون فى دول العالم الثالث، سيصعب جدًا أن نتهاون إزاء أى تهديد لسيادتنا الوطنية، أو قيود على اختياراتنا التنظيمية والعقائدية؛ ذلك أن أغلب الدول التى نعيش فيها دفعت أثمانًا فادحة لضمان استقلالها، واحترام هوياتها الوطنية.

لذلك، فنحن أولى بأن ندافع عن ضرورة احترام الخصوصية الثقافية، والتراث الوطنى، وحق الشعوب فى تقرير مصيرها، واختيار نظم الحكم الملائمة لها، والمتسقة مع طبيعتها، لكن من المهم أن يجرى ذلك ضمن أطر لا تقدم تسويغًا لإشاعة الكراهية والتمييز، والقتل على الهوية، واضطهاد النساء، وانتهاك حقوق الأقليات، وتصدير التطرف إلى الجوار. وكما أن المجتمع الدولى معنى بضرورة الحفاظ على حق كل عضو فيه فى ضمان استقلاليته، فإنه معنى أيضًا بضرورة امتلاك موقف واضح حيال الانتهاكات الكبرى لحقوق الإنسان، التى تقع ضد الفئات الأضعف، وفى مقدمتها النساء والأطفال، خاصة إذا اصطبغت تلك الانتهاكات بتأويلات دينية، تكسبها «حصانة» و«احترامًا» و«قابلية للتصدير».

فنحن نتذكر جيدًا هذا الحدث المثير الذى وقع فى العام 2021، حين تشكلت ملامح واقع جديد فى أفغانستان، ستكون «طالبان» الفاعل المهيمن فيه، وهو واقع لن ينحصر أثره فى حدود هذا البلد وجغرافيته الوعرة، لكنه سيمتد ويؤثر فى الأمن والسلم الإقليميين والعالميين. ففى هذا العام، استيقظنا على الأنباء بخروج مثير للقوات الأمريكية من أفغانستان، وترك البلاد فى عهدة حركة «طالبان»، وعلى ما يبدو فإن هذا الخروج الذى بدا مفاجئًا لكثيرين، سبقته مفاوضات مكثفة، أثمرت توافقات على إطلاق يد تلك الحركة فى فعل ما تريده، وعلى طريقتها التى يعرفها الجميع. والواقع أنه لا يمكن لأى منصف أن يقبل بفكرة دعم الاحتلال الأجنبى، أو وضع قيود على حركات التحرر الوطنى تمنعها من ممارسة أدوارها وبذل جهودها لتكريس الاستقلال؛ إذ يبقى الاحتلال الأجنبى فكرة ساقطة مهما كانت ذرائعه ومسوغاته، لكن استبدال الإرهاب والاستبداد الدينى بالاحتلال ليس أفضل ما يمكن فعله لخدمة مصالح الشعوب. فلم تكد وسائل الحكم والسيطرة تستقر فى أيدى حركة «طالبان»، حتى أمعنت فى اتخاذ سلسلة من القرارات الاستبدادية والرجعية التى استهدفت المجتمع بأسره، وأولت اهتمامًا خاصًا بالنساء، اللاتى تم تقييد وجودهن فى المجال العام، وفرض إجراءات مُشددة بحقهن.

وفى الأسبوع الماضى، أعلن الزعيم الأعلى لـ«طالبان»، هبة الله أخوند زاده، أن الحركة ستبدأ فى تطبيق تفسيرها للشريعة الإسلامية فى البلاد، بما فى ذلك «إعادة الجلد العلنى، ورجم النساء» بتهمة الزنا.

وقد وعد زاده بمزيد من الإجراءات المشابهة، مُظهرًا القدرة الكاملة على اتخاذ أصعب القرارات فى هذا الصدد، حين قال: «سنجلد النساء، وسنرجمهن علنًا حتى الموت بتهمة الزنا.. لم ينته عمل حركتنا بالسيطرة على كابل، بل بدأ لتوه».

لقد انتظر النقاد كثيرًا قبل أن يكشفوا عن قلقهم البالغ وامتعاضهم الواضح من إفراط حركة «طالبان» فى توقيع العقوبات العلنية بحق الأفراد الذين تعتقد أنهم مدانون، وفق سياستها فى تطبيق «الحدود الشرعية»، التى أعلنت تفعيلها فى أعقاب سيطرتها على العاصمة. ومصادر القلق معروفة ومُقنعة فى آن واحد؛ فمن بين المشاهد التى تم توثيقها وتناقلها على وسائط «التواصل الاجتماعى»، والمنصات الإخبارية الموثوقة، ما يكشف عن عمليات رجم وجلد علنية وإذلال وتشهير بحق رجال ونساء فى أنحاء عديدة من البلاد. وعندما صدرت التقارير الحديثة بشأن الضغوط والمضايقات التى تتعرض لها النساء فى بلدان العالم المختلفة، تم الاتفاق على أن أفغانستان فى ظل حكم «طالبان» تحتل المكانة الأولى كأسوأ مكان للنساء فى العالم، وهو أمر اتفقت عليه مراكز بحوث واستطلاعات رأى مُعتبرة.

فمنذ هيمنت الحركة على البلاد قبل نحو ثلاث سنوات، وبحسب السياسات السائدة، لا يُسمح للنساء بالخروج إلى الشارع وحدهن، وقبل عامين، فرضت السلطات أوامرها باستبعاد النساء من التعليم الجامعى، فضلًا عن منعهن من العمل فى المنظمات غير الحكومية. تمثل تلك حالة من الضغوط الغليظة والمتجددة على النساء، بشكل يُضّيق حضورهن الاجتماعى، ويُقوض حقوقهن القانونية، ويُجسد ردة عن بعض التطور الذى لحق بعالمهن على مدى العقدين الفائتين، فى ظل دستور حظى بمباركة غربية، وتم تجميده عقب الانسحاب الأمريكى. إن المقاربة العالمية لإجراءات التمييز والقمع التى تتُخذ بحق الفئات الأضعف، وخصوصًا النساء، لن تكون فعالة إلا إذا كانت عادلة ومتسقة مع المعايير الدولية ومنقطعة الصلة عن مساومات السياسة.

كما أن القوى الغربية الكبرى، التى تجد عادة فى ملف حقوق الإنسان فرصة للتدخل فى شؤون بعض الدول غير المُطاوعة، ستجد صعوبة مؤكدة فى تسويغ سكوتها المريب عن هذا الشطط «الطالبانى».

عن "المصري اليوم"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية