الغنوشي وأردوغان: الديمقراطية المعطوبة تمهد لنتائج متعارضة

الغنوشي وأردوغان: الديمقراطية المعطوبة تمهد لنتائج متعارضة

الغنوشي وأردوغان: الديمقراطية المعطوبة تمهد لنتائج متعارضة


18/05/2023

مختار الدبابي

في أيام عز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وقبل أزماته الأخيرة، كان الإسلاميون ينظرون إليه كفاتح سينهض بالأعباء التي فشلوا في تحقيقها على أرضهم وبين ناسهم. وكلما زادت قوته زاد انفصالهم عن واقعهم وتخففوا من كل الالتزامات التي يفترض أن يقوموا بها لأنفسهم ولبلدانهم.

الإسلاميون ملل ونحل كثيرة. لكن الذين رفعوا لواء الولاء لأردوغان هم المحسوبون على التيار الإخواني بمختلف فروعه وشخصياته.

في تونس مثلا، التي قادت موجة الربيع العربي، لم يكن للإسلاميين الذين يتحدرون من خلفية إخوانية أي وزن على الأرض. صحيح كان هناك وجود اعتباري اسمه حركة النهضة، لكنه وجود معدوم سياسيا إلا من بيانات يائسة.

في الداخل، حوّلهم الصراع مع الرئيس الراحل زين العابدين بن علي إلى كائن منغلق على نفسه مكسور الأجنحة محدود التأثير، كانوا يطاردون الأمل في الشغل ولقمة العيش بعيدا عن أعين النظام.

في الخارج تفرقوا شيعا وفصائل بسبب الخلافات واتهامات متبادلة بشأن مسؤولية من أوصل حركة النهضة إلى ذاك المصير.

وبقدرة قادرة، واستلهاما من تجربة حكم أردوغان وبريق السلطة والزعامة، عاد إسلاميّو الخارج وجمّعوا الشتات دون تقييم وتصويب وتعديل وبحث في الإستراتيجيات، ودخلوا بالتحشيد ليفوزوا في انتخابات 2011 من دون رؤية ولا بدائل ولا خطط ولا قيادات جاهزة للسلطة، ولا ترتيبات مع الدولة العميقة، ولا مع اتحاد الشغل، ولا مع الإعلام، ولا رجال الأعمال والمال.

كان المقياس الوحيد في أذهان من قادوا هذه المغامرة هو طريق أردوغان الذي استلم بلدا علمانيا ونجح في ترويض الجيش وبقية الأدوات الصلبة للدولة التركية ونصّب نفسه حاكما مستفيدا من ديمقراطية رخوة تبحث دائما عن التجديد وتمل من الوجوه القديمة.

اعتقد الإسلاميون أن أردوغان فاز بالحكم واستمر فيه منذ 2003 لأنه إسلامي ولأن الشعب التركي محافظ، وأن الإسلاميين يمكنهم أن يكرروا تجربته من بوابة الربيع العربي الذي جاءهم هدية من السماء. صحيح أن الإسلاميين العرب صعدوا إلى الحكم ما بعد الربيع العربي بشعاراتهم الإسلامية، وأن الشعوب المحافظة تطرب لشعارات من مثل “الإسلام هو الحل”.

لكنه طرب مؤقت لأن الشعوب تستبطن صورة مثالية تربط بين الإسلام والعدل والنزاهة، وحين وجدت أن الإسلاميين لا يمتلكون من هذه الخصال سوى الشعارات تخلت عنهم في أول انتخابات كما جرى في انتخابات 2014 بتونس، أو تركتهم يواجهون مصيرهم كما حصل في صيف 2013 بمصر.

اعتقد الإسلاميون أن نجاح أردوغان وحزب العدالة والتنمية لم يكن سوى بسبب الصفة الإسلامية، لكن هذه الصفة لم تجد لها وزنا حين صعدوا هم إلى واجهة الحكم كليا أو جزئيا في تونس ومصر والمغرب والأردن ودول آسيوية. الناس لا يريدون حديثا وشعارات عن سماحة الدين وعدله، ولكن يريدون دينا يرونه في تفاصيل حياتهم، في لقمة العيش وفرص العمل والأمن والأمان، وهو ما لم ينجح الإسلاميون في توفيره لسبب بسيط، وهو أن لا علاقة لهم بالحكم، ولا أفكار لهم ولا بدائل.

وعلى خلاف فشل الإسلاميين العرب في إدارة شؤون الناس وفتح الأمل في التغيير، نجح أردوغان وحزبه في السنوات الأولى في تحقيق مكاسب كثيرة للأتراك من خلال الاعتماد على كفاءات وخبرات تتسم بالجدية والنزاهة، وخاصة غير حزبية، قبل أن يتخلى عنها حين بدأ يفكر في البقاء أطول فترة ممكنة في الحكم، وناقض تعهدات سابقة بالرهان على النزهاء والصادقين، ولجأ إلى المجاملين والمصفقين وفقد تلك الكفاءات التي أنجزت الاستثناء، ثم لاحقا حكّم السياسة في إدارة الاقتصاد فخسرت تركيا الكثير من المكاسب والفرص الاقتصادية.

لا يمكن مقارنة متانة الديمقراطية التركية ومتانة وضع أردوغان بوضع الديمقراطية العربية، ولا بأوضاع الإسلاميين العرب الذين سرعان ما كان للديمقراطية المنفلتة تأثير سلبي عليهم، من ذلك أن الإسلاميين في تونس، الذين كانوا يرددون باستمرار أن مناخ الديمقراطية والحرية يوفر لهم فرص نجاح، دخلوا في صراعات بلا أول ولا آخر حول القيادة وتجديد مؤسساتهم.

ورفض رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي أن يقدم تعهدا لخصومه بالانسحاب من القيادة على قاعدة التداول على رئاسة الحركة بدورتين كما أقرها المؤتمر السابق. وقال إن المؤتمر سيد نفسه، وهو ما فهم على أنه لن يترك منصبه وأن إمساكه بالقيادة الإدارية والمالية سيؤمن له الفوز المريح.

وشهدت حركة النهضة انشقاقات كثيرة، وانسحب قادة بارزون، ومنهم من كون أحزابا صغيرة، ومنهم من انسحب من الحياة السياسية، والبعض الآخر بات يتخصص في نقد الغنوشي وشيطنته بالرغم من تاريخ طويل من “ماء وملح”.

لم تكن الديمقراطية عند الإسلاميين أكثر من رداء يلتحفون به لإقناع الآخرين، وخاصة من الخارج، بأن حركة النهضة تمثل الإسلام الديمقراطي. ولأجل هذا لم يكن من الصعب أن تخسر الحركة مواقعها في الحكم، ونفوذها السياسي، وبات حضورها مرتبطا ببعض البيانات والشعارات والاجتماعات الاحتجاجية صغيرة العدد بعد أن كانت تجري استعراضات ميدانية بالآلاف.

دخل الإسلاميون في تونس السلطة بلا رؤية فلم يفيدوا البلاد، وعلى العكس، فقد فتح عجزهم عن إدارة الدولة أبواب بلاء كثيرة، منها صعود موجة التشدد الديني التي تحولت لاحقا إلى أعمال إرهابية ضد مؤسسات الدولة، ومنها فوضى استضعاف الدولة وإغراقها في التزامات لا قبل لها بها، من انتدابات كثيرة، واختراق حزبي ونقابي، والاستهانة بأسرارها وملفاتها الداخلية التي باتت معروضة على الفضائيات.

يمكن أن يكون الغنوشي قد كتب عن الديمقراطية وروج لأفكار تؤسس للمصالحة بين الإسلام والديمقراطية كمنتج إنساني حديث، وعرض تنازلات لتحقيق هذه المصالحة. لكن كل ذلك ظل حبرا على ورق طالما أن “أسلمة الديمقراطية” أو “دمقرطة الإسلام” لم تفضيا إلى نتيجة على الأرض، حتى أن الغنوشي نفسه الذي كان هدفه إقناع الغرب بديمقراطيته المستحدثة لم يقبل بتنزيل مفاهيمها داخل حركته.

عناصر الاختلاف كثيرة بين الإسلاميين العرب، والتونسيين على وجه الخصوص، وبين أردوغان. وتعود بشكل أساسي إلى طبيعة الأتراك كأمة فاعلة ومثابرة أيا كان من يحكمها. وحين قادها أردوغان في طريق إيجابي نجح وحقق قفزات كبيرة، لكن حين غير اتجاهه نحو احتكار السلطة ومصادرة حرية الرأي والتعبير تحت مظلة الديمقراطية والخوف على الأمة، تغير الناخبون وأخذت رمزية أردوغان منحى تنازليا، ودافعت الديمقراطية عن نفسها بثبات كبير.

الحكم أدى إلى تآكل مكانة أردوغان، وهو يصارع لإنقاذ مستقبله السياسي، وبالتأكيد لقط الكثير من الدروس، لكن الغنوشي لم يلتقط بعد رسائل الناس وغضبهم طيلة السنوات الماضية على فشل الإسلاميين وتحالفاتهم وحكوماتهم، وهو لأجل ذلك لم يبق أمامه وأمام النهضة سوى العودة إلى مربع المظلومية القديم، ولكن بشروط جديدة ليس أقلها خسارة العمق الشعبي.

عن "العرب" اللندنية




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية