المأزق الليبي: الزاوية العمياء في السياسة الإقليمية

المأزق الليبي: الزاوية العمياء في السياسة الإقليمية

المأزق الليبي: الزاوية العمياء في السياسة الإقليمية


كاتب ومترجم جزائري
24/01/2023

ترجمة: مدني قصري

على السؤال: ما هو الوضع في ليبيا في الوقت الحالي؟ اعتاد الباحث التونسي في العلاقات الدولية بشير الجويني أن يجيب: قبل أو بعد طرح السؤال؟ هذه النكتة ليست نكتة في الواقع: الأحداث تتعاقب في ليبيا، ونادراً ما تكون في اتجاه الأفضل.

في 24 كانون الأول (ديسمبر) كان من المفترض أن تحتفل ليبيا بالذكرى السنوية الأولى للانتخابات التشريعية والرئاسية. لكن هذه الانتخابات لم تحدث قط. قبل يومين فقط من الانتخابات تم تأجيلها إلى أجل غير مسمى. بعد مرور عام يمكننا التحدث عن إلغاءٍ محض وبلا قيد ولا شرط: لم يتم اقتراح أي خريطة طريق لإعادة برمجة العملية الانتخابية التي من المفترض أن تمهد لفترة انتقالية.

هذه الأطوار التي أُجهِضت كانت الجماهيرية السابقة تُراكمها منذ عام 2011. على الرغم من المؤتمرات الدولية في برلين وباريس والصخيرات (المغرب) وحتى طرابلس، وعلى الرغم من الخطابات الإيجابية للقادة المحليين والدوليين وتوقعات الشعب الليبي بالنسبة لهذه الانتخابات، فإنه سرعان ما اتضح أنّ تنظيمها كان بمثابة رهان، لا سيما أكثرها رمزية: الانتخابات الرئاسية. "الانتخابات ليست مجرد ورقة توضع في صندوق اقتراع. ليبيا ليست مستعدة لانتخابات رئاسية. كل القادة مسؤولون: لا أحد يريد المجازفة بخسارة مكانه وما يرتبط به من مزايا عديدة"، هكذا يقدّر بشير الجويني، الخبير في الملف الليبي.

 معمر القذافي

سيظل لهذه الحملة الانتخابية المزيفة الحقيقية على أي حال تأثير إيجابي في إخراج اللاعبين الرئيسيين إلى النور. من بين مائة أو نحو ذلك من المرشحين الرئاسيين الذين تم إلغاؤهم لا يزال أربعة في محط اهتمام: رئيس وزراء طرابلس، عبد الحميد الدبيبة، وخليفة حفتر العسكري الذي يسيطر على جزء من برقة، ووزير الداخلية السابق فتحي باشاغا ورئيس مجلس نواب طبرق (البرلمان المنتخب في 2014 والمعترف به من قبل المجتمع الدولي)، عقيلة صالح. وكمكافأة لأكثر الليبيين شوقاً وحنيناً إلى الماضي سيف الإسلام القذافي، نجل الديكتاتور السابق.

لذلك استقر فتحي باشاغا في مدينة سرت الساحلية في وسط البلاد وهي المنطقة الأصلية للدكتاتور السابق معمر القذافي. لقد اقترب من "المشير" (رتبة لا وجود لها في الجيش الليبي، لكنها أعطتها له سلطات الشرق) حفتر الذي يحميه، حتى لو ظلت علاقاتهما غامضة. يرى حفتر أنّ باشاغا حصان طروادة المحتمل لإرضاء مصراتة المدينة العسكرية والصناعية القوية، المعادية له بشكل خاص. من جانبه اضطر فتحي باشاغا الذي يُعتبر الآن خائناً من قبل جزء من طرابلس وحتى يعزّز موقفه لعقد اتفاق مع مسؤول في برقة. الحال أنّ المارشال لا يزال يسيطر على شرق ليبيا بقبضة من حديد. وفي 31 تشرين الأول (أكتوبر) ألقى خطاباً أشار فيه إلى أنه سيتخذ قريباً قرارات "استعادة هيبة الدولة"، مشيراً إلى "المعركة النهائية" لتحرير البلاد، وهو الخطاب الذي طُعِّم بصور دعاية عسكرية.

في 24 ديسمبر كان من المفترض أن تحتفل ليبيا بالذكرى السنوية الأولى للانتخابات التشريعية والرئاسية. لكن هذه الانتخابات لم تحدث قط، وتم تأجيلها إلى أجل غير مسمى

في هذا الشأن يوضح محمد لازيب، طالب دكتوراه في المعهد الفرنسي للجغرافيا السياسية والمتخصص في الشؤون الليبية أنّ "حفتر لاعب عسكري ولا يمكن أن يكون له وجود إلا من خلال العمليات المسلحة". ومع ذلك، هناك احتمال ضئيل في أنه يقود هجوماً على المدى القصير. منذ هزيمته في طرابلس في عام 2020 والتي تُعزى إلى حد كبير إلى الأتراك فقدَ الكثيرَ من المؤيدين، المحليين والأجانب، وهو ما يبنئ بعدم تمكنه من القيام بعمل عسكري كبير جديد.

في كانون الأول (ديسمبر) انتشرت إشاعات كثيرة حول إعلان المارشال عن انقسام بين فزان (جنوباً) وبرقة (شرقاً) من جهة وطرابلس (غرباً) من جهة أخرى. هل هي انتكاسة، اعتراف بالضعف، أو ضغط خارجي؟ في 24 كانون الأول (ديسمبر)، يوم احتفال الاستقلال الليبي أعلن حفتر أخيراً أنه يمنح "فرصة أخيرة" لرسم المسار السياسي وتنظيم الانتخابات. وفي هذا السياق وضح أحد كبار شخصيات التبو، وهو أحد الذين يعتبرون المارشال معضلة وليس حلاً منذ أن فشل في الاستيلاء على طرابلس قائلاً "يجب أن نتوقف عن الاعتقاد بأنّ حفتر يسيطر على كل من برقة وفزان. إنه يسيطر على مواقع النفط، وهو أمرٌ إستراتيجي. وإلا فإنّ ميليشيات التبو والطوارق هي التي ستسيطر، حتى في سبها (عاصمة فزان وثالث أكبر مدينة في البلاد)". وقد دعا هذا التبو، خلال رحلاته المنتظمة إلى الخارج، محاوريه لإيجاد "مخرج مشرف" لـِ "الجندي المزعج الذي لا يعرف كيف ينتصر في حروبه".

إنّ الإخفاقات المتكررة التي تَكبّدها خليفة حفتر، الذي استفاد مع ذلك من الدعم النشط من قبل مصر وروسيا، ومن دعم أكثر سرية من فرنسا أعطت أجنحة لأفضل عدوّ، عقيلة صالح: لم يتردد رئيس برلمان طبرق في تقديم نفسه على أنه مرشح للرئاسة رسمياً يعمل الرجلان جنباً إلى جنب من أجل "تخليص طرابلس من الإسلاميين"، لكن بشكل غير رسمي يكره الرجلان اللذان بلغا الثمانين من العمر بعضهما البعض بشكل ودي.

فتحي باشاغا

ولتعقيد المشهد السياسي أعلن سيف الإسلام، نجل القذافي المفضل، والذي وعد المتمردين في 2011 بـ "أنهار من الدماء" نفسه مرشحاً للانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني (نوفمبر) 2021. وقد انتشرت الصور التي تظهر ترشيحه في كل مكان. ثم حدث ثقب أسود. باستثناء ثلاثة بيانات صحفية مكتوبة لم يظهر ابن الدكتاتور مجدّداً. ولم يُدلِ بأي تصريح أو خطاب، في حين أنّ العديد من الليبيين، المحبطين من هذا العقد من الفوضى، على استعداد لدعم عودته. وفي هذا السياق تقول ثريا رهيم،، دكتوراه في الجغرافيا السياسية وتعمل على ملف الشتات الليبي في مصر وتونس "عندما نطرح السؤال في دوائر القذافي لا يحتاج الأمر إلى توضيح، لأنّ 70٪ من البلاد ستكون مستعدة للتصويت له". وبحسب الباحث جلال حرشاوي فإنّ القذافيين يتسللون إلى الأجهزة ويكتسبون السلطة في البلديات الثانوية.

والدليل على أنّ نجل الدكتاتور أصبح يثير القلق والمخوف، أنّ رئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة، خلال توجيه تمنياته لليبيين في 30 كانون الأول (ديسمبر) 2022 دعاه إلى "الامتثال للمحكمة الجنائية الدولية". سيف الإسلام القذافي مطلوب رسمياً من قبل المحكمة الجنائية الدولية منذ حزيران (يونيو) 2011،  وهو متّهم على وجه الخصوص بارتكاب جرائم حرب لدوره في قمع الثورة.

انتهازية وتحالفات ونهب

في ليبيا يتم بناء التحالفات وتفكيكها، سراً أو رسمياً، حسب تطوّر الأحداث. "يجب النظر إلى تراكمات مختلفة. الدبيبة وحفتر ليسا متضادين تماماً. فهما يتصالحان في سرية. في الخريف الماضي التقى الدبيبة بصدام حفتر. في العادة يتعاون حفتر مع عقيلة صالح ويتعاون الدبيبة مع خالد المشري رئيس المجلس الأعلى للدولة، لكن هذا ليس هو الحال دائماً"، كما يوضح أحد المراقبين. في 14 تشرين الثاني (نوفمبر) منعت الميليشيات الموالية للدبيبة المجلس الأعلى للدولة من الاجتماع في الوقت الذي كان من المقرر أن يدرس فيه هذا الأخيرتوحيد السلطة التنفيذية (وبالتالي مصير حكومة الدبيبة) والإطار الدستوري المؤدي إلى انتخابات مقبلة.

منذ أسابيع وهناك حديث عن تشكيل حكومة ثالثة من أجل توحيد السلطات. لكن هل هذا حلّ مقبول في بلد عارضت فيه كل حكومة جديدة تقريباً، منذ 2014 الحكومة السابقة، فما هي الحكومة التي ستستقر؟

كان المجتمع الدولي أكثر تكتماً في ليبيا خلال الأشهر الأخيرة. ومع ذلك تظل المصالح خفية. لا ترى روسيا  أيّ مانع ضد الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط

في الوقت نفسه أطلق المجلس الأعلى للدولة دعوة للمرشحين لاستبدال قادة المؤسسات الرئيسية، مثل مكتب التدقيق أو هيئة مكافحة الفساد. هذه الأنواع من الإعلانات تخلق حتماً معارك وتوترات. في هذا الشأن قال أحد الدبلوماسيين: "الجميع يريد حصته من الكعكة". تلعب الميليشيات دوراً سياسياً. ووفقاً لهذا المراقب فقد "أصبحت هذه الميليشيات عصابات تتعاون في ما بينها أو تحارب للحفاظ على أراضيها، وبالتالي على مواردها. في ليبيا يقال إنها قادرة على أن تبيع في ما بينها مفترقات طرق سير حيث يمكنها تثبيت حواجز لابتزاز سائقي السيارات. لكن هذا ليس الجزء الأسوأ: بعض الميليشيات متخصصة في المخدرات والتهريب وتهريب المهاجرين ... على أي حال لقد فهم الجميع أنه يتعين التكيف مع هذه الأحوال".

المجتمع الدولي أو المتفرج اللامنخرط

في 17 تشرين الثاني (نوفمبر) 2022 اختطف محمد أبو عجيلة مسعود، وهو عميل سابق في مخابرات الجماهيرية، من منزله على يد ميليشيا معروفة. هذا الرجل متّهم بالمشاركة في هجوم لوكربي، وكان موضوع مذكرة توقيف من قبل الإنتربول. حُكم عليه بالسجن عشر سنوات في ليبيا، لكن أُطلق سراحه لأسباب صحية، وعاد للظهور في 12 كانون أول (ديسمبر) 2022 أمام محكمة أمريكية في واشنطن. وقال دبلوماسي أوروبي: "إنّ مثل هذا العمل الذي يتم ارتكابه من قبل ميليشيا معروفة بجرائمها سوف يُفسد جهود تحويل ليبيا إلى دولة القانون". في ليبيا خرجت بعض المظاهرات ضد هذا الاختطاف. لكنّ أحد سكان طرابلس أكد: “لم يعد الناس يجرؤون على الكلام. يكاد يكون الوضع أسوأ ممّا كان عليه في عهد القذافي. لأنه قبل عام 2011 كان بإمكانك انتقاد المسؤولين الذين لا ينتمون إلى عائلة القذافي. أمّا اليوم فلم يعد بالإمكان انتقاد أي شخص".

يعتقد العديد من المحللين أنّ الدبيبة ربما أعطى ترخيصاً بنقل محمد أبو عجيلة مسعود من أجل تعزيز موقفه لدى المجتمع الدولي، بعد أن سئم من المراوغات السياسية ووصول العملية الانتخابية إلى طريق مسدود. في نهاية شهر كانون أول (ديسمبر) راجت إشاعات عن اتفاق مماثل بشأن عبد الله السنوسي، صهر معمر القذافي والرئيس السابق للأمن الداخلي، والمطلوب أيضاً من قبل العدالة الدولية لتورّطه المزدوج في هجوم لوكربي وفي انفجار طائرة DC10 تابعة لشركة UTA في صحراء تينيري في عام 1989. لكنّ الدبيبة رفض أيّ احتمال للتسليم بحركة من يده على شاشة التلفزيون. لم يكن لديه خيار آخر: لقد هدّدت قبيلة الميجرها، قبيلة السنوسي بالانتقام. يقع مقرها في جنوب طرابلس، ولديها خزان مياه كبير على أراضيها. في عام2012  قطعت الإمدادات عن عدّة أحياء في العاصمة للمطالبة بالإفراج عن عنود السنوسي، ابنة عبد الله السنوسي.

أما فرنسا من جهتها فلم  ترد على إشاعات تسليم المجرمين للولايات المتحدة. في عام 1999 حكمت محكمة جنايات باريس على عبد الله السنوسي بالسجن مدى الحياة لدوره في الهجوم على DC10 الذي يربط برازافيل بباريس.

كان المجتمع الدولي أكثر تكتماً في ليبيا خلال الأشهر الأخيرة. ومع ذلك تظل المصالح خفية. لا ترى روسيا  أيّ مانع ضد الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط. فهي مثل تركيا ترغب في إعادة تفعيل العقود الموقّعة قبل الثورة"، يقول باراح ميكائيل، أستاذ العلوم السياسية بجامعة سانت لويس (مدريد). لكنّ هذا المحلل يقرّ بأنه تم بذل جهود كبيرة في عام 2020 خلال مؤتمر برلين لـ "تهدئة التدخلات الأجنبية". ويختتم بشير الجويني قائلاً: "طالما أنّ مضخة النفط تعمل فلا توجد معارك كبيرة، وما دام احتواء تدفق المهاجرين يتم بشكل أو بآخر يمكن لليبيا أن تستمر في طريقها. عيون المجتمع الدولي على أي متجهة إلى أوكرانيا".

مصدر الترجمة عن الفرنسية:
https://orientxxi.info/magazine/l-imbroglio-libyen-angle-mort-de-la-politique-regionale,6134




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية