المؤسسات الدينية والمنعطف الرقمي

المؤسسات الدينية والمنعطف الرقمي

المؤسسات الدينية والمنعطف الرقمي


30/07/2023

تطرقنا في المقالة السابقة إلى منعطف تقني معاصر يواجه أهل الحقل الديني؛ أي المنعطف الرقمي، وهي المقالة التي تؤسّس سلسلة وقفات مع المعنيين بهذا التحدي، ونخص بالذكر المؤسسات الدينية والحركات الإسلامية، سواء السياسية مع المشروع الإخواني أو الجهادية، ثم الطرق الصوفية، فالأحرى الحضور الديني في العالم الرقمي مع الدعاة والوعاظ والمؤثرين دينياً.

تأسيساً على ما سبق، تتوقف هذه المقالة عند تفاعل المؤسسات الدينية في المنطقة العربية بالتحديد مع هذا المنعطف؛ لأنّه على غرار أداء العديد من الحقول الحيوية في السياسة والاقتصاد والرياضة والفن وغيرها، ثمة مرحلة مفصلية عنوانها الثورة الرقمية جعلت حضور أغلب الفاعلين في هذه الحقوق يعيدون النظر في طبيعة التعامل مع هذه الثورة، بعد أن كانت التفاعلات الأولى في بدايات إطلاق شبكة الإنترنت وبعدها ظهور مواقع التواصل الاجتماعي أقرب إلى التقليل من دور وتأثير الثورة الرقمية، بل إنّ خطاب التقزيم من دور الثورة الرقمية كان جلياً مع النخب الفكرية والدينية وغيرها عند إطلاق مواقع التواصل الاجتماعي، (فيسبوك) ابتداءً من 2004، و(تويتر) ابتداءً من 2005، وباقي التطبيقات، باعتبارها مواقع خاصة بالمراهقين والشباب، ولا تستحق الحضور والتفاعل والتأثر والتأثير.

من بين النخب التي كان عليها نظرياً على الأقل إعادة النظر في دور وتأثير الثورة الرقمية، النخب الدينية الفاعلة في المؤسسات الدينية

كان علينا انتظار مجموعة من الأحداث في المنطقة حتى نعاين انخراط النخب نفسها في ما يُشبه إعادة النظر بخصوص مواقفها السابقة، ولعل أهم هذه الأحداث ما عرفته المنطقة العربية في 2011، حيث اتضحت جلياً أدوار مواقع التواصل الاجتماعي، وبشهادة أقلام بحثية داخل وخارج المنطقة العربية، بل إنّ طارق رمضان نفسه، الداعية والباحث السويسري من أصل مصري، أقرّ بشكل صريح في أولى إصداراته التي تلت أحداث "الفوضى الخلاقة" عند البعض أو "الربيع العربي" عند البعض الآخر، بأنّه كانت هناك توظيفات استراتيجية لهذه المواقع من خلال ظاهرة "الكتائب الإلكترونية"، ساهمت في التأثير على تلك الأحداث، كأّنه يُبرر أو يدافع عن النموذج التفسيري السائد مع مجموعة أقلام في المنطقة، والتي قرأت تلك الأحداث على أساس أنّها كانت مدبرة وليست تلقائية، مقابل أقلام تبنت موقفاً مغايراً، من قبيل الأقلام الإسلاموية مثلاً.

لكنّ الشاهد هنا، وبصرف النظر عن الأسباب المركّبة التي أفضت إلى تلك الأحداث، وبصرف النظر بالتالي عن التباين في قراءة وتفسير ما جرى، ما هو مؤكد عند الجميع، سواء تعلق الأمر بصناع القرار المتتبعين من باحثين وإعلاميين وغيرهم، أنّ الثورة الرقمية كانت فاعلاً رئيسياً في ما جرى، وليست مجرد أداة ترفيه خاصة بالشباب والمراهقين.

من بين النخب التي كان عليها نظرياً على الأقل إعادة النظر في دور وتأثير الثورة الرقمية، النخب الدينية الفاعلة في المؤسسات الدينية من قبيل مؤسسة الأزهر الشريف في مصر، ومؤسسة القرويين والرابطة المحمدية للعلماء في المغرب، ومؤسسة القيروان في تونس، ضمن لائحة عريضة من المؤسسات في المنطقة، فهل كانت هذه المؤسسات في مستوى التحديات والإكراهات التي فرضها قسراً المنعطف الرقمي سالف الذكر؟

في محاولة أوّلية للإجابة عن هذا السؤال المركّب، نقترح التوقف عند الحالة المغربية لاعتبارين اثنين على الأقل:

ـ من الصعب الإلمام بأداء مُجمل المؤسسات الدينية في المنطقة العربية وتعاملها مع المنعطف الرقمي، خاصة أنّ هذه العملية تتطلب فريقاً بحثياً أو تفرغاً بحثياً يستغرق وقتاً، إضافة إلى أنّ تلك العملية سوف تتطلب نشر سلسلة مقالات، وهذا الأمر ليس مقصود هذه السلسلة الخاصة بالتوقف في كل مقالة عند تفاعل مجمل الفاعلين الدينيين مع المنعطف نفسه، بصيغة تتطرق لما يُشبه أهم الخلاصات دون الخوض في عدة تفاصيل.

من الملاحظات في هذه الجزئية، ولا تهم المؤسسات الدينية في المغرب وحسب، وإنّما مجمل المؤسسات الدينية في المنطقة العربية، تواضع أو ندرة الاشتغال البحثي على هذا الموضوع، أي ندرة تفرغ الباحثين لتقييم وتقويم هذا التفاعل، وتوجد هذه الملاحظة في مقدمة الأسباب التي وراء الاشتغال على الموضوع من خلال هذه السلسلة.

ـ أمّا الاعتبار الثاني، فمردّه مقتضى المساهمة في تنسيق وتحرير تقرير الحالة الدينية في المغرب، منذ عقد تقريباً عن أحد المراكز البحثية، والذي صدرت منه حتى الآن (3) إصدارات، وبالتالي تحقق بعض التراكم في متابعة وتقييم أداء المؤسسات الدينية المعنية، بما في ذلك الأداء الخاص بالتفاعل مع المنعطف الرقمي.

الداعية طارق رمضان نفسه أقرّ بشكل صريح في أولى إصداراته التي تلت أحداث "الربيع العربي"، بأنّه كانت هناك توظيفات استراتيجية لهذه المواقع من خلال ظاهرة "الكتائب الإلكترونية"، ساهمت في التأثير على تلك الأحداث

نأتي إذن إلى مقام الخلاصات، حيث لا يمكن فصل أداء المؤسسات الدينية المغربية عن الأداء العام، وبالتالي كلما كان الأداء نوعياً، اتضحت مؤشرات هذه النوعية في التفاعل الرقمي للمؤسسات نفسها، لكنّ الملاحظ أنّ ثمّة تبايناً في المعالم الكبرى لهذا الأداء، من قبيل وجود منابر رقمية ناطقة باسم هذه المؤسسات، أي ما يُصطلح عليه بالمنابر الإعلامية الرسمية، مقابل الغياب في مجالات أخرى، ونتوقف عند نموذجين منها:

ـ الأوّل يهم الحضور في منابر إعلامية ليست ناطقة رسمية باسم هذه المؤسسات لكنّها تخدم توجهها، على غرار ما كنّا نعاين مع بعض المنابر الإسلاموية، الإخوانية نموذجاً، حيث كنا إزاء منابر رقمية إخوانية صريحة في الإعلان عن مرجعيتها الإيديولوجية، مقابل وجود منابر رقمية تزعم أنّها خاصة أو مستقلة، لكنّها تخدم الأفق الإسلاموي.

ـ من بين المجالات أيضاً التي نعاين فيها غياباً جلياً الصفحات الرقمية في مواقع التواصل الاجتماعي التي تعبّر عن وجهة نظر رموز هذه المؤسسات، على غرار ما نعاين في الحالة المصرية التي استفادت من تجارب الماضي، وأصبحنا نعاين حضوراً صريحاً للعديد من رموز المؤسسات الدينية في مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا أمر غائب في الساحة المغربية، وحتى حضور بعض الوعاظ والباحثين في هذه المؤسسات، ممّن يدافعون ويتدافعون رقمياً مع الحضور الإسلاموي وحضور باقي المرجعيات الفكرية والإيديولوجية، غالباً ما يأتي بشكل تطوعي وليس بشكل مؤسساتي، وإلا كنّا نعاين العديد من الحسابات الفاعلة لأهم رموز وأعضاء هذه المؤسسات.

بين أيدينا نموذج تطبيقي يزكي إحدى تبعات هذا المعطى، مع أنّ الأمر لا يحتمل ذلك، بمقتضى قاعدة الطبيعة الرقمية لا تقبل الفراغ، لأنّه في حال وجود هذا الفراغ، فما أكثر البدائل المتوفرة لدى المراهقين والشباب من أجل الإجابة عن هواجسهم أو الأسئلة الدينية التي تدور في مخيالهم.

يتعلق الأمر ببعض مضامين رسالة وجهها الملك محمد السادس إلى المشاركين في ندوة علمية دولية احتضنها المغرب بين 8 و10 تموز (يوليو) 2023 في موضوع "ضوابط الفتوى الشرعية في السياق الأفريقي"، حيث أشارت الرسالة بشكل صريح لا يحتمل التأويل إلى ضرورة "انفتاح العلماء الأفارقة، لا سيّما فيما يتعلق بفقه الواقع، وتدوين نتائج بحوثهم على مختلف أنواع الحوامل الإلكترونية المتاحة، تعميماً للنفع وتعزيزاً للتأهيل".

والحال أنّ هذه الإشارة تحتمل عدة ترجمات، أقلها وهي التي تهمنا أكثر في هذا السياق، أنّه ما كانت الرسالة الملكية تتطرق لهذه التوصية بخصوص ضرورة انفتاح العلماء المعنيين على العالم الرقمي عبر "تدوين نتائج بحوثهم على مختلف أنواع الحوامل الإلكترونية المتاحة، تعميماً للنفع وتعزيزاً للتأهيل"، لو أنّ الأمر كان كذلك بالفعل.

قد يعترض البعض على هذه القراءة باستحضار عامل السن الذي يُميز نسبة من علماء المؤسسات الدينية، وبالتالي نحن إزاء عامل لا يسمح بأن ينفتح جميعهم على العالم الرقمي، وهذا اعتراض وجيه نسبياً، لأنّ هذه الفئة المعنية في الاعتراض جزء من طبقة العلماء، لكنّ هناك وجهاً آخر من العملة لا ينتبه إليه أصحاب الاعتراض، مفاده أنّ هناك فئة أخرى من العلماء لديها حضور رقمي حتى لو كان بوتيرة عادية أو بطيئة، وبالتالي تتابع المستجدات الرقمية وليست خارج التغطية حسب الاصطلاح التقني الذي يميز هذه العوالم.

بقيت إشارة أخرى ذات أهمية بخصوص معضلة التطرف العنيف ومواجهته في الفضاء الافتراضي، ونزعم أنّه تحقق الشيء الكثير في الساحة المغربية والعربية بشكل عام، كمّاً ونوعاً، لكن نزعم أيضاً أنّه يمكن القيام بما هو أفضل ممّا تحقق عبر الانفتاح على أفكار جديدة وأسماء جديدة.

مواضيع ذات صلة:

الخطاب الديني والمنعطف الرقمي

مراجعات المراجعات الإسلاموية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية