بوتين الغامض... مصاب بالوضوح الفاضح

بوتين الغامض... مصاب بالوضوح الفاضح

بوتين الغامض... مصاب بالوضوح الفاضح


13/07/2023

ما قبل حرب أوكرانيا، وما قبل كل تفاصيل هذه المغامرة الحربية التي أصبحت مقلقة إلى حد بعيد لفلاديمير بوتين تحديداً قبل أيّ أحد آخر، ما قبل ذلك كانت شخصية بوتين كاريزماتية مؤثرة ومقنعة، وكان محاطاً بسياج قوي من الغموض إلى حد بعيد، هذا الغموض ليس في عدد أعوام حياته ولا في دراسته ولا في نشأته اللينينغرادية، ولا حتى في الأعمال التي تسلمها؛ من ضابط مخابرات سوفييتي طيلة (16) عاماً إلى رئيس روسيا لمرتين ونصف، لكنّه غموض في طريقة التفكير وطريقة اتخاذ القرار وغموض في الرؤية التي قد تبدو مخيفة، وقد يبدو المجتمع الروسي خائفاً على مستقبله بسببها.

فيما سبق من أزمنة بوتين الشرسة، كان ثمّة من يتساءل: هل هو حقاً مجنون؟ حتى وإن لم يكن ذلك حقيقياً ومنطقياً وصحيحاً، على الأقل هناك من يقول إنّه مصاب فعلاً بخوف جنوني على حياته، ويقول تقرير نشرته (euro news): إنّه ما بعد غزو أوكرانيا أصبحت علامات جنون الارتياب والخوف المرضي تبدو بوضوح على تفاصيله، سلوكاً وتفكيراً، إنّه يتجنب السفر بالطائرات، لكن برأيكم، لماذا يصر على أن يصل إلى التلفزيون الروسي أينما حلّ في أيّ بقعة، مهما كانت بعيدة ونائية أو ذات خصوصية؟ هل ينتظر مثلاً خبر انقلاب عليه؟ إلى هذه الدرجة أصبح مقتنعاً بأنّ أعماله ورؤيته لإدارة الدولة وممارساته وقراراته قد تجلب له الأعداء والرفض وانحدار الشعبية إلى مدى منخفض جداً؟ ربّما.

ضابط المخابرات الروسي المنشق (غليب كاراكولوف) تناقلت وسائل الإعلام تصريحاته المثيرة بشراهة، لأنّها تشكل وجبة إعلامية دسمة حول رجل ظل أعواماً طويلة لا يسمح بتسريب أيّ معلومة عنه وعن حياته وممارساته ونمط حياته الخاص. قال غليب: إنّ بوتين ينخرط في العزلة إلى أقصى حد، مهووس بسلامته الشخصية، ويعيش في قصور منعزلة وشديدة الحراسة، كما لو أنّها مخابئ أو ملاجئ.

الرجل الغامض أصبح واضحاً إلى هذا الحدّ الصعب، وحرب أوكرانيا ساهمت بشكل لافت في فضح إجراءات عزلته

الرجل الغامض أصبح واضحاً إلى هذا الحدّ الصعب، وحرب أوكرانيا ساهمت بشكل لافت في فضح إجراءات عزلته، والأخطر من ذلك أنّها خلقت ظروفاً مواتية لسؤال: إلى أين يمضي بنا وبالعالم هذا الرجل؟ وأوضح دلالات ذلك ما أقدم عليه بائع النقانق، ثم تاجر الجريمة، ثم مؤسس مجموعة المرتزقة (فاغنر)، إنّه (يفغيني بريغوجين) الذي انحاز إلى بوتين في حربه على أوكرانيا وعلى العالم، ثم انحاز إلى كل العالم في تحدي بوتين. ولا يهمّ أغراض وأهداف صاحب أول محاولة تمرد على بوتين، وليست نتائجها مهمّة، نجحت أم فشلت، المهم أنّها حدثت بالفعل، وأعطت مؤشرات قوية باتجاه نمو حالة الرفض داخل روسيا نحو بوتين، الذي يخفي دائماً أماكن تواجده، ولا يستخدم الهاتف المحمول ولا الإنترنت، فقط يستخدم ديناميكية الارتياب التي تفعل في عقله الأفاعيل.

صحيح أنّ تمرد بريغوجين انتهى في وقت قياسي دون أن يحقق هدفاً، إلا إذا كان الهدف هو فكرة التمرد ذاتها، لكنّه استبقى خلفه علامات فائقة القلق من انقياد بوتين إلى حالة صعبة وقاسية من الخوف من كل شيء ومن كل العالم، ومن أيّ أحد، وألقى بأسئلة حائرة ومثيرة داخل المجتمع الروسي، التمرد قصير الأمد، لكنّ مقدماته كانت طويلة نسبياً،  وعلى مدى أشهر كان المتمرد المجازف يخاطب المجتمع الروسي عبر تطبيق (تيليغرام) غير الخاضع للرقابة الروسية، بلغة مفرطة في الشعبوية، انتقاداً لبوتين وزمرته العسكرية التي تقود البلاد إلى مجهول مخيف. نتيجة حرب بررها بوتين للمجتمع وشكك فيها بريغوجين للمجتمع نفسه، ولكم أن تحكموا ماذا يمكن أن يفعله شك قوي أمام تبريرات متهاوية تحت أقدام جنود روسيا المتعبين في أوكرانيا.

إلى أين يمكن أن يمضي بوتين حاملاً معه كل هذا الخوف، وإلى أيّ مدى يمكن أن يبقى مسرفاً في القسوة والتحدي وعدم الاستسلام لسلسلة من الفشل والإخفاق؟ (لقد أصبح مجرم حرب، وحان الوقت لوضع حدّ لهذا الجنون والتوقف عن الصمت)، وهذه العبارة الأخيرة  لـ (بريغوجين).

الغرب يعي تماماً أنّ هزيمة بوتين ليس شرطاً أن تأتي على شكل دحر جنوده من أوكرانيا، بل بما هو أقسى من ذلك، عبر دحر بوتين نفسه من قلوب معجبيه - كما لو أنّه ممثل درامي بارع - الذين كانوا كثيرين جداً في مدن روسيا ومجتمعها، وعبر إسقاط هذا النوذج الرئاسي الروسي وتحطيم الهالة المبهرة التي رافقته أكثر من (20) عاماً، منذ أن أصبح رئيساً في عام 2000. لا يريد الغرب أن يخسر بوتين الحرب، يريد أكثر أن يخسر كبرياءه ويخسر غموضه الصلب والعنيد لصالح وضوح هو أقرب إلى الفضيحة. فما كان بالأمس حصناً حصيناً ودرعاً لا يمكن اختراقه، أصبح اليوم فيه من الهشاشة ما يبدو كافياً لأن يخرج أحد أركانه ليهدمه. وهذه بعرف بوتين المصاب بالغرور ليست مجرد خيانة كما عبّر عنها، لكنّها أيضاً، وبما لا يجرؤ أن يعبّر عنها، فضيحة.

مواضيع ذات صلة:

من هو ألكسندر دوغين؟ وكيف أثر في عقلية بوتين؟

سياسيون لـ "حفريات": هل ينجح بوتين بإعادة كييف إلى "بيت الطاعة"؟

بوتين "الديكتاتور" الحالم بتضميد جروح الدبّ السوفييتي




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية