بين مصدّق والخميني.. كيف خان الملالي ثورة الإيرانيين مرتين؟

بين مصدّق والخميني.. كيف خان الملالي ثورة الإيرانيين مرتين؟
إيران

بين مصدّق والخميني.. كيف خان الملالي ثورة الإيرانيين مرتين؟


12/09/2020

تمثّل المرحلة الفاصلة بين ثورة الإيراني، محمد مصدق في الخمسينيات، والثورة الإيرانية العام 1979، مثالاً كبيراً على مفارقات التاريخ، وعلى الكيفية التي سُرقت فيها ثورة الشعب الإيراني مرتين، وكان المشترك الدور الذي لعبته الحوزات عندما اصطفت في الأولى ضد الرجل الذي أراد أن يعتق بلاده من الهيمنة الخارجية، وتفرّدها بالسلطة في الثانية بعد تنحية معظم المشاركين فيها وقمعهم، والتنكّر لمعظم مطالب التيارات الشعبية التي أنجحتها.

ثورة مبكرة
شهد القرن التاسع عشر اكتشاف النفط في دول عربية وآسيوية عديدة، كانت من بينها إيران، العام 1908، إلا أنّ الوصول إلى الذهب الأسود في أعماق أراضي هذا البلد، ترافق مع احتكارات استعمارية غربية هيمنت على تقنيات استخراجه، فقد "تأسست شركة النفط البريطانية الإيرانية مبكراً، تحت اسم شركة النفط الأنجلو-فارسية، وكانت تنهب نفط إيران فعلياً"، وفق دراسة لعلي رضا غولشاني، بعنوان "تاريخ النفط الإيراني"، العام 2016؛ حيث ملكت بريطانيا 51% من أسهم تلك الشركة، وازداد تحكّمها بالنفط الإيراني خلال الحرب العالمية الأولى.

اقرأ أيضاً: محمد مصدق.. قصة الزعيم الإيراني الديمقراطي الذي أطاح به الغرب
سمحت مرحلة الحرب العالمية الثانية لبريطانيا بـ"الاستمرار في السيطرة المجحفة على معظم النفط وإيراداته في جنوب إيران، رغم ما شهدته الثلاثينيات والأربعينيات من وعي فكري وشعبي بخصوص خيرات إيران المنهوبة"، بحسب ما تقوله الدكتورة وداد غازي، أستاذة التاريخ في الجامعة المستنصرية في العراق، ضمن دراسة لها بعنوان "تأميم النفط الإيراني وتداعياته على العلاقات الدولية".

أقرّ البرلمان الإيراني العام 1951 مطالبات تأميم شركات النفط مما أشعل شهرة مصدق

وترى غازي، في دراستها، أنّ "وجود الشاه محمد رضا بهلوي في الحكم بعد الحرب العالمية الثانية، مدعوماً من أمريكا وبريطانيا، أبقى المجال لحماية الهيمنة البريطانية وسيطرتها على النفط"، وهذا ما بقيت عليه الحال حتى العام 1951.
لكن ثورة مبكرة، بدأت تلقي بظلالها على إيران، بعد صعود محمد مصدق، الذي أتى من قلب النخبة الإيرانية الحاكمة، وكان مصدق (1880-1967) الحاصل على شهادة دكتوراة في الحقوق، مناضلاً قومياً قياساً بوضع إيران الداخلي القائم على نوع من التبعية السياسية لأمريكا وبريطانيا آنذاك، وبعد حياة سياسية متقلبة "عُيِّن خلالها وزيراً للاقتصاد وعضواً في البرلمان، ومناصب أخرى، ظلّ خلال أربعينيات القرن العشرين يكتسب قوة سياسية كبيرة، بفضل دعوته لتأميم النفط الإيراني ومواجهته العلنية لبريطانيا، وحتى للاتحاد السوفييتي، الذي كان يريد أخذ امتيازات نفطية على أرض إيران بدوره" وفق مقالة عن مصدق، نشرت في العدد 477 من "مجلة العربي" في العام 1998.

قاد محمد مصدق أول ثورة وأدها الشاه بدعم أمريكا ورجال الحوزات

وبالعودة إلى العام 1951؛ أقرّ البرلمان الإيراني قراراً يطالب بتأميم شركات النفط الإيرانية، مما "أشعل شهرة مصدق في أنحاء إيران، وأُجبر الشاه على تعيينه رئيساً للوزراء خلال ذلك الوقت"، بحسب المصدر ذاته. وبقي مصدق يخوض صراعاً مريراً كاد ينتهي بنجاح ثورته الاقتصادية الأساس والمدعومة شعبياً ضدّ الشاه.

ثار مصدق مطالباً بتأميم النفط وبالاستقلال فواجهته أمريكا وبريطانيا والشاه برجال الحوزات

في تلك المرحلة، كان الالتفاف الشعبي حول مصدق، والتيارات الشعبية عموماً، التي لا تعي أي تأثيرٍ طائفيٍ أو دينيٍ كبير، كان من شأنه تقسيمها إلى درجةٍ تسمح بفشل المجتمع في التخلص من الآثار الاستعمارية والانشغال بمعارك طائفية، لكنّ هذه النقطة كانت انطلاقة الشاه في محاولاته إسقاط مصدق وإثارة السخط الشعبي تجاهه، وذلك باستغلال "الخلاف بين مصدق وآية الله كاشاني، الذي كان أحد قادة الحوزة الشيعية في قم آنذاك؛ حيث أطلق كاشاني تصريحات ضدّ مصدق، اتهمه فيها بالخيانة وانتهاك الدستور وعدم طاعة الشاه، كما أصدر مجموعة من رجال الدين الإيرانيين فتوى بأنّ مصدق معاد للإسلام والشريعة، بسبب تحالفه مع كتل اليسار والليبراليين"، وفق تقريرٍ نشرته "العربية"، في 20 حزيران (يونيو) 2017.

اقرأ أيضاً: أي إرث للخميني بعد ثلاثين عاماً على رحيله؟
وشكّل ذلك الاختبار الأول لتسييس الدين في المجال العام في إيران، وإضفاء طابع شيعي على صورة القائد والحكومة حتى تكون على حقّ، مع تجاهل المسلمين السنّة والأكراد والأرمن وغيرهم ممّن هم إيرانيون، وباقي أفراد الشعب الذين آمنوا بأفكار مصدق الوطنية الشاملة.
العام 1953؛ شهد انقلاباً دبّرته أمريكا وبريطانيا ضدّ مصدق، فيما عرف باسم "عملية أجاكس" بحسب المصدر ذاته، ومن ثم إحالة إيران للفوضى، وكَيْل التهم لمصدق، منها أنّه شيوعي وخائن وغيرها، واستخدمت استخبارات البلدين في العملية عناصر "البلطجية والمجرمين" لإشعال الفوضى، التي انتهت بعزل هذا الرجل الوطني ووضعه في الإقامة الجبرية حتى وفاته، العام 1967، ومن ثم عودة الشاه محمد رضا بهلوي بقوة إلى الحكم.

القضاء على التنوّع الشعبي الثوري كان هدفه سيطرة "دينية" على السلطة

نار تحت الرماد
تمّ وأد ثورة مصدق والشعب، وتوجد أسبابٌ عديدة داخلية أسهمت في ذلك، منها الحصار الاقتصادي الذي فرضه الغرب على إيران ونفطها حينها، لإخضاع مصدق، لكن الشعب الإيراني، ظلّ يحلم بقدر يكفيه من الاستقلال لبناء المستقبل، واستمرّ شاه إيران بقمعه الشديد للداخل، وتبعيته للخارج.

اقرأ أيضاً: "ولاية الفقيه".. حين انقلب الخميني على الفقه السياسي الشيعي
ومنذ سقوط تلك الثورة، العام 1953، وحتى العام 1978، شهدت إيران تطوراتٍ مختلفة، من أهمها: ظهور "الجبهة الوطنية المعارضة التي قاومت نظام الشاه بقدراتها البسيطة، وبقيت وفيةً لأفكار مصدق القومية والتحررية، وظهرت تجمعاتٌ يسارية شبه حزبية، وأخرى حزبية، كحزب توده الشيوعي، ووصلت قوى اليسار حدّ حمل السلاح ضدّ الشاه، وواجهت قمعاً شديداً من جهاز مخابراته السافاك"، بحسب كتاب "الثورة البائسة" لمؤلفه عباس الموسوي.

قمع الخمينيون كلّ التيارات الشعبية والحزبية التي شاركتهم الثورة على الشاه

ويشير الموسوي إلى أنّ تلك الحركات، لم تشمل أحزاباً أو تجمعاتٍ سياسية يسارية وقومية فقط، بل وجماعات أخرى، من أهمها "الفلاحون الإيرانيون الذين وقفوا ضدّ مصادرة بيوتهم وأراضيهم من قبل نظام الشاه، خصوصاً في ضواحي طهران، وكذلك الأدباء والمفكرون والشعراء وأنصار حركة علي شريعتي للإصلاح الديني، ومن تبعهم من ليبراليين وإصلاحيين"، وفئات مختلفة من الشعب، لم يكن يوجد أيّ خطاب عنصري أو طائفي ضدّها، جميع هؤلاء أسهموا في النضال خلال تلك الفترة ضدّ الشاه.
ويرى الموسوي؛ أنّ الغليان الشعبي استمرّ إلى أن انضم، في نهاية السبعينيات، رجال الدين والحوزات بوضوحٍ إلى الحركة النضالية، ومن ثم اتخذوا الخميني قائداً لهم، وكانوا حركة ضمن الحركات، إلا أنّ كيفية استيلائهم على الثورة، إن صحّ التعبير، يرجع إلى عوامل عديدة، بعضها ظل غامضاً.

الخميني من الطائرة إلى كرسي الحكم، أما الثورة فإلى القمع

لكن، بالنسبة إلى الكاتب المختص بالشؤون الإيرانية، شابور حقيقات؛ فإنّه يحاول توضيح هذا الغموض في كتابه "إيران، من الشاه إلى آيات الله"، بقوله: إنّ "المجتمع الإيراني عانى من فقر وبطالة ونقص خدمات وتعليم، خلال حكم الشاه، خصوصاً خارج العاصمة والمدن الكبرى، مما أسهم في سهولة سيطرة التيار الديني على فئاتٍ شعبية واسعة ديموغرافياً وسياسياً، بوصف خطابها مضاداً لخطاب الشاه الاقتصادي والتحرري بشكلٍ عام".

اقرأ أيضاً: ما بعد الخمينية... ما الذي يفعله الإصلاحيون في إيران؟
لكنّ السبب الآخر؛ هو أنّ قدرة الإسلامويين الشيعة التنظيمية والاجتماعية كانت أبرز؛ فهم أقلّ من تعرضوا للقمع خلال فترة الشاه، وكانوا وفق حقيقات "قادرين على التحرك والتجمّع، بعد أن اشتعلت فوضى الثورة، كانوا الفئة الوحيدة التي تهدف للاستيلاء على الحكم، فيما كانت أهداف الحركات الأخرى؛ التخلص من دكتاتورية الشاه والنهوض بإيران"، وباختلاف الأهداف، وصل الملالي إلى ما يهدفون إليه.

حتى اليوم تحمل شوارع بطهران اسم آية الله كاشاني الذي خان ثورة الشعب الأولى زمن مصدق

ويذكر المؤلف؛ أنّهم قمعوا الإثنيات العرقية قبل كلّ شيء، ليثبتوا ثورةً (إسلامية شيعية المذهب) فقط، وقمعوا لاحقاً "أيّة توجهات ديمقراطية قومية، أو يسارية، أو ليبرالية، من أجل ما أسموه دولة إسلامية قوية"، حتى الجسم الديني في إيران تمّ قمعه وتوجيهه ليتماشى مع السلطة وحدها ولا شيء آخر.
الثورة الإيرانية الثانية، تمّ الغدر بها أيضاً، ممن أوصلتهم إلى السلطة وكان يفترض أن يحموا مبادئها في الحرية والعدالة والتي لا تختلف عما طالب به مصدق من قبل؛ إذ تمّت تنحية معظم المشاركين في الثورة، وقمع العديد من التيارات الشعبية التي أنجحتها، ولأنّ التوجه كان نحو السلطة في الأساس، وليس نحو التحرر أو التقدم أو التعددية والديموقراطية، ولا حتى نحو مجتمع إسلامي متقدم يحمل روح الإسلام ومعها روح العصر، وحتى اليوم، توجد شوارع في طهران، تحمل اسم آية الله كاشاني، الذي خان ثورة الشعب الأولى زمن مصدق، وبقيت الشوارع تتشابك في طهران منذ ذلك الحين، وهي تحمل ذكرى ثورتين قتيلتين.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية