تقدم في الرواية الفلسطينية للحرب

تقدم في الرواية الفلسطينية للحرب

تقدم في الرواية الفلسطينية للحرب


11/11/2023

محمد أبو الفضل

الرواية الفلسطينية أحرزت هدفاً في مرمى إسرائيل، وانتشرت في عدد من الأوساط المتابعة للحرب وأظهرت جوانب خفية عن هذه الأوساط، وقام بعضها بالمزيد من التحري واكتشفوا أن سرديات إسرائيل مغلوطة.

كسبت الرواية الفلسطينية أرضاً خصبة مع إمعان إسرائيل في القتل والهدم في غزة

فرضت إسرائيل روايتها للحرب على قطاع غزة منذ اليوم الأول لاندلاعها، وتمكنت من استقطاب دول وساسة ونخب وشعوب لديهم قابلية لتصديق كل ما يخرج من إسرائيل وعنها، ومع استخدام دعايتها صوراً وفيديوهات تظهر حجم ما فعلته حركة حماس زاد التعاطف معها، بما شجعها على خلط الحقائق بالأكاذيب لاحقاً.

بدأت عملية فرز كبيرة تنتشر تدريجياً في دول عديدة، ويكتشف الكثيرون أن هناك رواية أخرى أكثر واقعية، وأن الحرب التي زعمت إسرائيل أنها نشبت مع عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر (تشرين الأول)الماضي خادعة، لأن الحرب الحقيقية اندلعت مع قيام إسرائيل باقتلاع الفلسطينيين عنوة من جذورهم منذ عقود طويلة.

عندما نكأ الأمين العام للأمم المتحدة أنتوني غوتيريش هذا الجرح وأرجع الأزمة إلى أصلها انتفضت إسرائيل وهاجمته بضراوة، لأنها لا تريد التطرق إلى الأصل وتسعى للتعامل مع الفرع، أي فاجعة أكتوبر وليس فواجع الفلسطينيين المتفرقة.

قبل خطاب غوتيريش في الأمم المتحدة وبعده، انتبهت أصوات عدة إلى الأمر، وضجت وسائل التواصل الاجتماعي بنقل صور أخرى لما تردده إسرائيل وانحازت لها الكثير من وسائل الإعلام الغربية، إلى أن تطوع بعض مقدمي البرامج باستضافة خبراء وكتاب وصحافيين من دول عديدة لديهم تصورات تقف على مسافة من إسرائيل، كنوع من نفي صفة الانحياز وليس بحثاً عن الحقيقة.

ولعل لقاءات بعض وسائل الإعلام الغربية مع سفير فلسطين في لندن حسام زملط، ومع الإعلامي المصري باسم يوسف، والملكة رانيا زوجة العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني، لعبت دوراً في كشف جوانب في المشهديات الإسرائيلية – الفلسطينية، وأن ما روجت له آلة الدعاية الواسعة في إسرائيل قدّم بعداً خاصاً ومبتوراً للحرب على غزة، وأخذت محاولات فهم ما جرى تتوالى في دول غربية كثيرة.

أحرزت الرواية الفلسطينية هدفاً في مرمى إسرائيل وانتشرت في عدد من الأوساط المتابعة للحرب والمعنية بها، وأظهرت جوانب خفية عن هذه الأوساط، وقام بعضها بالمزيد من التحري والاستقصاء، واكتشفوا أن سرديات إسرائيل مغلوطة، أو على الأقل عليها علامات استفهام كبيرة، فلا أحد استطاع كشف لغز انهيار المنظومة الأمنية لدولة إسرائيل أمام حماس بالصورة التي مكّنتها من اختراق منطقة ما يسمى "غلاف غزة" وأسر العشرات من الجنود، والأسباب التي دفعت الحركة للقيام بهذه الخطوة.

لم يكن التفكير في الانتقام مبرراً كافياً لتفسير هذه الخطوة المتقدمة عسكرياً، ولا بد أن تكون هناك أسباب أهم، لأن الإهانة التي لحقت بإسرائيل من الصعب فهمها إلا في سياقات منطقية، وعلى هذا الأساس ذهبت السكرة التي خدرت بها إسرائيل فئات متباينة في العالم وجاء البحث عن الفكرة وهي أصل الأزمة أو الحرب الراهنة.

أدى توالي طرح الأسئلة الشخصية والعامة، وجميعها تشككك في ما تقدمه إسرائيل من روايات وعدم التسليم بها على الفور، لأن غالبية القصص التي أرادت أن تتداولها وسائل الإعلام وقفت عند تاريخ السابع من أكتوبر والدراما المأساوية التي حدثت وقتها، وكل النخب والمسؤولين في إسرائيل لم يملّوا من ترديدها بأشكال مختلفة.

وقاد التفكير في ما حدث إلى مد الخيط على استقامته وطرح السؤال المركزي، لماذا حدث؟ وبدأت الإجابات تأتي بنماذج عدة واكتشافات حاولت إسرائيل التغطية عليها، كان القاسم المشترك بينها أن هناك دوافع قوية استدعت المقاومة والرفض، قد يقبل البعض ما قامت به حماس أو يرفضه، لكنه في كل الأحوال نتيجة لسبب هو الاحتلال.

كسبت الرواية الفلسطينية أرضاً خصبة مع إمعان إسرائيل في القتل والهدم في غزة، وانتشار صور وفيديوهات للآلاف من الضحايا والمشردين من الأطفال والنساء، وفشلت مبررات إسرائيل في تفسيرها بحجة أن حماس تتخذهم دروعاً بشرية، وأنها تقيم أنفاقاً تحت مساكنهم، وزادت معاناة إسرائيل معنوياً مع قصف مستشفيات ومدارس وأماكن عبادة ومراكز تابعة لمنظمات دولية.

تسربت رواية بعيدة عن خطاب إسرائيل إلى وجدان المجتمع الدولي وعقله، وتسللت معها تفسيرات عكس ما سمعه مع اندلاع الحرب، لأن المشاهد التي وصلت من خلال وسائل الإعلام وعبر مواقع التواصل الاجتماعي كشفت هول المجازر التي ارتكبتها إسرائيل، ومهما كان تعاطف بعض الدول الغربية معها فرؤية دماء الأطفال تسيل أو انتشالهم من تحت الأنقاض أو بحثهم عن ذويهم، كان كفيلاً بمحو أي صورة عملت إسرائيل على ترسيخها وتميل لصالحها، أو إعادة التفكير في سردياتها الإنسانية.

انتقل التغير من تقبل روايتها تلقائياً إلى التقليل منها سريعاً، والذي تجاوز الحدود الشعبية ووصل إلى بعض المسؤولين، فهناك معركة داخل الحزب الديمقراطي الحاكم في الولايات المتحدة حول الموقف من دعم إسرائيل بلا حدود مادية ومعنوية، وانقسام في وزارة الخارجية الأمريكية لأسباب سياسية، وإدانات وانتقادات واتهامات مباشرة أو على استحياء من جانب مسؤولين في بعض الدول الغربية لقادتهم.

أفضت هذه التطورات التدريجية إلى تخفيف الاندفاع الغربي لإسرائيل في منحها شيكاً على بياض لممارسة العنف أو ما يوصف بالدفاع عن النفس، وترددت عبارات مراعاة حياة المدنيين، والالتزام بالقوانين الدولية، والحديث عن هدنة إنسانية، وتوفير ممرات آمنة، وما إلى ذلك من مضامين كانت شبه محرمة في الأيام الأولى للحرب، بما يشير إلى وجود تغير نسبي في المواقف، يميل إلى عدم رفض الرواية الفلسطينية تماماً.

أسفر هذا التقدم عن نتيجتين.. الأولى: التفرقة بين الشعب الفلسطيني وحماس، فهما شيئان مختلفان وبينهما مسافات سياسية، والحركة جزء من الشعب وليس العكس، والثاني: أن ثمة أزمة تاريخية يجب إيجاد حل لها، وبدأ يسطع الحديث عن أهمية وجود دولة فلسطينية، وقد تشهد الفترة المقبلة نقاشات حولها بعد سنوات من تجميدها.

لذلك فتقدم الرواية الفلسطينية ليس قاصراً على فهم الحرب وأبعادها، بل في إحياء التفكير في مشروع الدولة، وربما يكون شكلها وتوقيتها ومكوناتها مبهماً، لكن الحديث عنه من قبل الولايات المتحدة وغيرها يبين إلى أي درجة هناك تغيرات سياسية، وبدلاً من أن تهدم إسرائيل حماس ومشروعها الإسلامي قد يتم إحياء مشروع آخر مدني تصور الكثيرون صعوبة التفكير فيه مع ما شهده من تآكل في السنوات الماضية.

تمثل إعادة الاعتبار للرواية الفلسطينية في صورتها السياسية والأمنية مكسباً مهماً، يقلل من توجهات إسرائيل نحو اختزالها في بعدها الإنساني وما يصطحبه من علامات تقف عند تجاوز العقبات التي تحول دون إدخال المساعدات وتقديم الإغاثات من خلال معبر رفح، وتدخل في عمق القضية التي يفجر استمرار تجاهلها صراعات إقليمية.

عن "العرب" اللندنية




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية