خطر أيديولوجيا الأحزاب على المرحلة الانتقالية في السودان

خطر أيديولوجيا الأحزاب على المرحلة الانتقالية في السودان


16/05/2021

محمد جميل أحمد

يوماً بعد يوم سيتأكد للجميع أن تحديات الصيرورة الثورية في زمن ثورة المعلوماتية والاتصال لن تكون أبداً كما كانت في أحوال الثورات الكلاسيكية للقرن العشرين وما قبله، ولا نعني حين نقول ذلك قطيعة مع التصور الكلي الذي تعبر عنه الثورة، من حيث إنها تغيير جذري وتحول اجتماعي رأسي وأفقي، إنما نعني أن صيرورة الثورات (بحسب تجربة الربيع العربي الذي ترافق ظهوره مع ثورة المعلوماتية والاتصال) دلت على أنها كانت في الحقيقة نصف ثورة ونصف انقلاب، هذا ما حدث في تونس، وفي مصر، وفي السودان بانحياز الجيش إلى حركة الشعب. وبطبيعة الحال فإن هذه الظاهرة في حد ذاتها تشير، على نحو ما، إلى قطيعة مع الطبيعة الجذرية للثورات الكلاسيكية في القرن العشرين وما قبله.

ما حدث في السودان خلال ثورة 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018 كان فريداً من نوعه، لكنه لم يخلُ من مصير سياسي أدت نتائجه إلى شراكة بين العسكر والمدنيين بعد وساطة ناجحة قادها الاتحاد الأفريقي عبر جهود الرئيس الإثيوبي آبي أحمد.

وبإزاء ما جرى من تغيير ثوري في السودان، تفترض بعض القوى السياسية تفكيراً ثورياً مراهقاً، وتطرح تصورات طوباوية للمصير السياسي الذي تتخيله لشراكة المرحلة الانتقالية بين المدنيين والعسكريين منذ عامين، دون أن تعبر تلك القوى السياسية المراهقة في تصوراتها تلك عن أي رؤية بصيرة وجادة، تأخذ في اعتبارها موازين القوى الداخلية، والقوى الدولية والإقليمية وقوى الثورة المضادة.

وبطبيعة الحال، إن تفكيراً كهذا إذا ما غذي بحماس عام للجماهير، فإنه سيشكل خطراً ويعبر عن أفكار عدمية قد تؤدي نهاياتها إلى تفجير العنف السياسي، ووصول الوضع إلى مرحلة اللا عودة.

الأحزاب التي تنشط عبر هذه الرؤى الأيديولوجية (وهي في غالبيتها يسارية صغيرة) إلى جانب قوى الثورة المضادة، للأسف، لا تفرق بين مفهوم للتسوية الوطنية السياسية وصيروراتها الضرورية (والقاسية أحياناً) من حيث قيامها على مساومات لا بد منها، وبين تعبير سياسوي فج يفهم طريقة أخذ الحقوق على نحو يغلب الاعتبارات الشخصية والانتقامية الفردية، وهي تأويلات متأتية من ردود فعل انطباعية ومتأثرة بأثر العنف الذي جرى تسييله في عديد من أطراف السودان، وحتى داخل الخرطوم مؤخراً.

لذا، يغيب كثيراً عن بعض ممارسي العمل السياسي من شاكلة تلك الأحزاب أن الوطن الذي تركه نظام المؤتمر الوطني خرابةً، كلفت تركته الباهظة الطبقة السياسية الجديدة الكثير من المساومات الضرورية مع دول في الإقليم والعالم، عبر قرارات بدت في كثير من التزامات الحكومة بمثابة أمر واقع لا يجوز القفز عليه، ولا يفيد إلا التعامل معه كواقع موضوعي وفق استراتيجية ذكية للخروج منه بأقل الأضرار المحتملة.

وهكذا، ما إن يحدث أي حدث، أو تلوح ملامح مبادرات تربط الدولة السودانية بوساطات واتفاقات هي جزء من واقع إقليمي ودولي شديد التعقيد، من ناحية، ودال على أن واقع السودان اليوم لا يمكنه العبور إلى الأمان إلا عبر الارتباط بها، من ناحية ثانية، حتى تضج وسائل التواصل الاجتماعي وعناصر بعض تلك الأحزاب بكيل اتهامات التخوين والعمالة والازدواجية للحكومة السودانية، وغير ذلك من التعبيرات التي تملأ وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصاً "فيسبوك" و"واتساب"!

مشكلة هذا التناول الخطير لقضايا الواقع السياسي السائل؛ أنه ينظر إلى ذلك الواقع من منظور أيديولوجي فج يعاني نزاعاً مأساوياً من عدم التفريق بين مبادئ الثورة الأخلاقية من ناحية، وبين حدود السياسة العملانية من ناحية أخرى.

وإذا كان للفكر الذي يسبق الواقع، إمكانية نظرية للتردد المستمر بين احتمالات لا متناهية للصورة الذهنية التي يفترضها ويسقطها على ذلك الواقع، فإن قوانين الواقع الصارمة هي الأخرى لها نتائج مختلفة، لأن السياسة في صميمها: إدارة لتناقضات تطرحها قوانين الواقع بأقل الخسائر الممكنة.

وفي تقديرنا، إن هذا التفكير المعطوب يتفرع من تفكير آخر، أو بالأحرى من رؤية أيديولوجية تخلط بين عمل التعبئة الثورية الذي هو الأساس خلال مرحلة ما قبل سقوط النظام، وبين العمل السياسي بعد سقوط النظام، فإذا كان الأول يحتاج إلى ناشطين وثوار من كل أطياف المجتمع في العملية الثورية التي هي مهمة للجميع، فإن الثاني يحتاج إلى سياسيين وأحزاب، لا إلى ناشطين أو ثوار تعبئة!

وتكمن الخطورة فيما إذا ظل الموقف الثوري يراوح مكانه، وغير قادر على التفريق الضروري بين هاتين المرحلتين حيال مقاربة تعقيدات ملفات ثورية يحتاج تفكيكها إلى زمن وصبر ومتابعة، كملف العدالة الانتقالية، وهي ملفات قد يؤدي الاستعجال فيها إلى نتائج عكسية في الصراع السياسي ويحوله إلى فوضى.

ما حدث الثلاثاء الماضي 29 رمضان عقب الإفطار الجماعي الذي نظمته جماعات ثورية، وعلى رأسها أسر شهداء ثورة 19 ديسمبر (كانون الأول) أمام القيادة العامة للقوات المسلحة في الخرطوم إحياء للذكرى الثالثة لمجزرة فض الاعتصام، (وهو حراك سقط فيه شهيدان برصاص القوى النظامية للجيش وإصابات أخرى بالرصاص، ثم سقوط شهيد ثالث فيما بعد) عكس حالة من التوتر الخطير في الشارع، وكذلك أثار جدلاً موازياً في وسائل التواصل الاجتماعي، إثر التظاهرات التي شملت سائر تلك الليلة في الخرطوم.

إن ما حدث من قتل للثوار فعل مُدان بكل المقاييس التي تفترض غياب مثل هذه الجرائم في ظل حكومة الثورة، وبعد سقوط نظام عمر البشير، لكن ليس المطلوب (كما يرى الحزب الشيوعي، وبعض رواد مواقع التواصل الاجتماعي) إسقاط حكومة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك، لأن في خطوة كهذه فتحاً لباب المجهول وإرباكاً للساحة السياسية، بل المطلوب الإسراع إلى جلب المتورطين في إطلاق النار ضد الثوار المتظاهرين للعدالة ومحاكمتهم محاكمة عادلة من دون تهاون. وستكون الأيام القليلة القادمة أكثر من كافية في وضوح جدية الحكومة في اتخاذ أحكام رادعة ضد من تورطوا في جريمة قتل المتظاهرين.

إن ما حدث يوم 29 رمضان الماضي في الخرطوم يقتضي تحركاً سريعاً من حكومة حمدوك لإنهاء هذا الملف، وكذلك ملفات العدالة العالقة كملف شهداء يوم 15 أكتوبر الذين قتلهم القوات النظامية في مدينة كسلا في أثناء تظاهرة مؤيدة لوالي كسلا المكلف سابقاً صالح عمار، حيث جرى قتل 7 شهداء بالرصاص. كما أن استحقاقات المرحلة القادمة سيكون على رأسها الإسراع في ملف نتائج التحقيق المرتقبة للجنة المكلفة التحقيق في ملف جريمة فض اعتصام القيادة العامة قبل عامين، وهي لجنة وطنية يرأسها المحامي السوداني نبيل أديب.

لعل أخطر ما في هذه الأحداث أنها ستلقي بظلال سالبة على صورة الوضع في السودان بعد الجهود الكبيرة التي بذلتها حكومة حمدوك إقليمياً ودولياً، وكانت جهوداً مثمرة في جملتها من أجل الحشد لدعم السودان من قبل المجتمع الدولي، لا سيما في ظل قرب انعقاد مؤتمر باريس الدولي خلال هذا الأسبوع من أجل الدعم الاقتصادي للسودان.

إن التحديات السياسية للثورة في السودان تكمن اليوم في خطل وخطورة تصرفات بعض الأحزاب اليسارية التي تصدر في قراءتها لواقع المصير السياسي والوطني عبر أجندات أيديولوجية ضارة على مجمل الوضع في نهاية الأمر.

ولعل من أغرب جهود تلك الأحزاب، ما يعكسه الخطاب السياسي للحزب الشيوعي الذي رفع شعار إسقاط حكومة حمدوك واستقالة مجلس السيادة الانتقالي، وهو يدرك أن الصيغة التوافقية التي تشكلت بموجبها هياكل السلطة الانتقالية (مجلسا الوزراء والسيادي) كانت نتيجة لاتفاق الإعلان السياسي والدستوري في 17 أغسطس 2019، وهي صيغة لا يمكن أن يتكرر عليها الإجماع بسهولة اليوم من طرف قوى إعلان الحرية والتغيير (التي انسحب منها ذلك الحزب في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، ما يعني أن خياره هذا بمثابة دعوة لإدخال البلاد في مستقبل مجهول.

إن حيوية الثورة تكمن عبر الممارسة الرصينة للحريات التي تتيحها الحياة السياسية لكل قوى الأحزاب والثوار إلى جانب الحريات الإعلامية، لأنها المجال الذي ينبغي أن تنظم عبره القوى الثورية والسياسية صفوفها لممارسة الضغط على حكومة الثورة بوسائل وخطط مرسومة وعلى مراحل، لكي تسرع الحكومة بتحقيق إنجازات واختراقات ضرورية في ملف العدالة، إلى جانب تشكيل المجلس التشريعي المؤجل حتى الآن، وغير ذلك من تدابير يتقاطع فيها السياسي والثوري عبر حراك الأحزاب.

وكما أسلفنا سابقاً، فإن قدرة قوى الثورة السودانية على رؤية المصير السياسي الآمن في ضوء إرادة الاتعاظ من التجارب الكارثية حول السودان لبعض نتائج الربيع العربي، هو الذي سيعصم مستقبل المرحلة الانتقالية في السودان من الانزلاق إلى المجهول، لا سيما عبر ردود فعل قوى ثورية فوضوية لا تعكس اهتماماً بحساسية الوضع الهش للمرحلة الانتقالية.

وفي تقديرنا، لا يمكن تطوير أي قدرة باتجاه المصير السياسي الآمن إلا بتفنيد ودحض شبهات الدعاوى الأيديولوجية الخطيرة في قراءة الواقع السياسي السوداني المركب، كقراءة الحزب الشيوعي وغيره من بعض الأحزاب اليسارية السودانية.

وفي الوقت الذي صدر فيه بيان من وزارة الخارجية الأميركية مشيداً بتجربة الانتقال الديمقراطي التي تجري حالياً في السودان وأنها (تمثل فرصة يمكن أن تجعل هذا البلد نموذجاً للمنطقة)، بحسب ما نشرته صحيفة "الشرق الأوسط"، أول من أمس، تريد بعض القوى السياسية والثورية السودانية التعامي عن ذلك الواقع السياسي الهش والحساس والمركب للمرحلة الانتقالية، وما تقتضيه تلك الحساسية من تدبر عميق في المآلات والعواقب ورصد المخاطر الحقيقية والمحتملة لردود الفعل العدمية على ذلك الواقع من قبل بعض القوى السياسية، وهي بطبيعة الحال ردود فعل قابلة لأن تستثمر فيها قوى الثورة المضادة والمتربصة بالمرحلة الانتقالية في الداخل والخارج!

عن "اندبندنت عربية"


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية