خيارات تركيا المستحيلة بين الغرب وروسيا

خيارات تركيا المستحيلة بين الغرب وروسيا


كاتب ومترجم جزائري
03/04/2022

ترجمة: مدني قصري

التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا ليس مجرّد عدوان إضافي، لقد أشعل فتيل مواجهة أوروبية جديدة غير مسبوقة منذ نهاية الحرب الباردة، وجميع الدول المجاورة لروسيا وأوكرانيا معنية بشكل مباشر، وهذا هو حال تركيا، الدولة التي لديها علاقات قوية مع كلا الطرفين.

تُقدّم معظمُ التحليلات أهمية كبيرة لطبيعة تاريخ المواجهة والحرب بين تركيا وروسيا، وهي تستنتج أنّ العلاقات بين البلدَين لا بدّ من أن تكون متوترة. حتى في حالة حدوث انتعاش، كما كان الحال منذ عدة سنوات؛ فإنّ هذا الانتعاش لا يؤخذ على محمل الجد؛ فالمحللون أسرى لنظرتهم إلى الماضي التركي الروسي الذي كان متضارباً في كثير من الأحيان، ولذلك لا يمكنهم  تقدير التقارب التركي الروسي تقديراً صحيحاً.

تركيا لديها علاقات قوية مع كلا الطرفين

من المسلَّم به تاريخياً أنّ إمبراطورية القياصرة وإمبراطورية السلاطين قد اشتبكتا عسكرياً بشكل دائم تقريباً لصالح الإمبراطورية الأولى، ومن المؤكد أيضاً أنّه خلال الفترات التي أعقبت الإمبراطوريتين، باستثناء الاتفاقية القصيرة بين لينين ومصطفى كمال، في عشرينيات القرن الماضي، كانت العلاقات في غالب الأحيان جدّ معقدة، لا سيما خلال ذروة الحرب الباردة عندما وجدت موسكو وأنقرة نفسَيهما في معسكرين متعارضين؛ فمنذ نهاية هذه الفترة، وليس منذ بضع سنوات كما تشير العديد من التحليلات، أصبحت العلاقات بين البلدين أكثر توازناً، مع وجود تبادلات في جميع المجالات، كانت سبباً في فتح مرحلة جديدة أكثر سلاماً، حتى لو كانت هناك تنافسات بينهما في البحر الأسود والقوقاز وآسيا الوسطى  فقد تمت إدارة هذه المنافسة بشكل جيد ولم تؤدِّ مطلقاً إلى أزمة كبيرة بين الدولتين العظيمين.

أياً كانت نتيجة الحرب فمن المحتمل أن يختار القادة الأتراك طريقاً ثالثاً في سياق استمرارية ما يفعلونه حالياً، وهو التنقل بين المزالق ومواصلة سياسة عدم انحياز البلاد

لكنّ الغريب في الأمر أنّه في مناطق الصراع الجديدة بين البلدين، في سوريا وليبيا، وليس في مناطق المنافسة القديمة (البلقان والقوقاز وآسيا الوسطى) كانت العلاقة بين البلدين هي الأكثر صراعاً. في هاتين الدولتين اللتين دمّرتهما إخفاقات الربيع العربي وجدت أنقرة وموسكو نفسيهما في مواجهة عسكرية، على الرغم من كلّ شيء فقد تمكّنتا من بناء علاقات يمكن وصفها بأنّها علاقة "تعاون منافس" أو "تنافس تعاوني"؛ إذ استمرّ قادتهما في التواصل حتى في الأوقات الصعبة، لدرجة أنّه يمكن اعتبار علاقتهما الآن جيدة وسيئة في الوقت نفسه، بحسب الموضوعات المطروحة.

السياح الروس

من بين نقاط التقارب أنّ السياح الذين يزورون تركيا أكثر من غيرهم من الروس، وتركيا لديها استثمارات كبيرة في روسيا في مجال البناء. والأهم من ذلك لقد طلبت من روسيا أن تبني لها محطة طاقة نووية مدنية، والأشغال الجارية في هذا المشروع  متقدمة بشكل جيد. من حيث الطاقة لا يمكن لتركيا الاستغناء عن روسيا، التي تزودها بـ 35٪ من غازها، أما على الصعيد العسكري، وعلى الرغم من كونها عضواً في حلف شمال الأطلسي فقد اشترت تركيا نظام الدفاع المضاد للطائرات "S 400" من روسيا، مما أثار استياء المنظمة عبر الأطلسي، التي دانت هذا الاستحواذ و"عاقبت" أنقرة بطردها من صنع  طائرة جديدة الـ "F 35".

تركيا لديها استثمارات كبيرة في روسيا

لكنّ العلاقات التركية الروسية لا تخلو من جوانب شائكة؛ تواجه تركيا شكلاً من أشكال التطويق.

 منذ ضمّ شبه جزيرة القِرم تمتلك روسيا المزيد من السفن في البحر الأسود وتسيطر على مساحة بحرية أوسع، وفي سوريا يجد الأتراك أنفسهم على اتصال مباشر مع الروس، والحال أنّ البلدَين يدعمان حلولاً متعارضة، على الرغم من اتفاقهما النسبي.

اقرأ أيضاً: هزة اقتصادية عنيفة في طريقها إلى تركيا: كيف سيتعامل معها أردوغان؟

تواصل أنقرة إظهار الموقف المناهض لبشار الأسد ضدّ النظام الذي يظلّ قائماً على وجه التحديد بفضل مساعدة موسكو. وفي ليبيا أيضاً هناك مواقف متباينة بين البلدين؛ حيث إنّ روسيا حليف وثيق للمارشال خليفة حفتر، عدّو تركيا اللدود، تركيا التي تدعم من جانبها الحكومة الشرعية والشرعية المعترف بها من قبل الأمم المتحدة. التنافس أيضاً قائم بين البلدين في ناغورنو كاراباخ، حيث تقدم تركيا دعماً ثابتاً لأذربيجان، في حين أنّ روسيا لديها سياسة أقل اهتماماً وانحيازاً وتأييداً في باكو.

فيما يتعلّق بالملف الأوكراني فإنّ موقف تركيا من النزاع محسوب بدرجة أكبر، لفهم السبب يجب أن نعود بإيجاز إلى العلاقات بين أنقرة وكييف.

جارة جدّ ثمينة

لتوضيح الخيار الذي ستتخذه أنقرة، أو لن تتخذه، في الصراع الروسي الأوكراني، من الأهمية بمكان أن نفهم أنّ أوكرانيا تحتل مكانة خاصة وتلعب دوراً مهماً للغاية في نظر الأتراك؛ ففي سياقٍ جيوسياسي شديد الاستقطاب حيث قامت تركيا بتعقيد العلاقات مع معظم جيرانها تظل أوكرانيا هي الدولة الوحيدة التي ليس لديها نزاع معها. علاوة على ذلك، حتى وإن  كانت العلاقات بين البلدين قائمة منذ ثلاثين عاماً فقط، أي منذ حصول أوكرانيا على الاستقلال؛ فإنّ الروابط في الواقع أقدم بكثير. أوكرانيا بالنسبة للأتراك هي أيضا شبه جزيرة القرم، وهي شبه الجزيرة التي كانت تضم الخانات التترية، التي كانت تابعة لفترات طويلة للإمبراطورية العثمانية. يعود جزء من سكان تركيا إلى أصول تترية، مثل رئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو ، مما يضيف بُعداً رومانسياً للعلاقات بين البلدين. أخيراً، بالنسبة إلى تركيا، تعدّ أوكرانيا مفيدة أيضاً بسبب موقعها الجغرافي: فهي تشكّل مع جورجيا وأرمينيا منطقة عازلة مع روسيا، الجار غير المريح كما تشهد على ذلك صراعات موسكو مع معظم جيرانها.

لكنّ أهمية أوكرانيا ليست جيوسياسية فقط؛ السياح الأوكرانيون هم من بين أكبر خمسة زوار منتظمين للشواطئ التركية، إضافة إلى ذلك تزود أوكرانيا، وهي عملاق زراعي، تركيا ببعض قمحها، أخيراً وعلى الخصوص؛ ففي سياق سياسي، حيث لا تثق تركيا لا في "عدوها التاريخي"، وهو روسيا، ولا في شركائها الغربيين التقليديين الذين تتهمهم بعدم التضامن؛ فإنّ أوكرانيا حليف مهم.

الأزمة الأوكرانية قد تُجبر تركيا والدول الغربية على التحاور من أجل إعادة أنقرة إلى الحظيرة الغربية، وسيكون البديل لتركيا، لا سيما في حالة انتصار روسيا، هو تعزيز رسوخها شرقاً

 في قطاع الأسلحة الحساس تشتري أوكرانيا الأسلحة التركية، خاصة الطائرات بدون طيار، وقبل كلّ شيء تسمح لأنقرة بمواجهة الحظر العسكري الذي فرضه عليها حلفاؤها في الناتو. في الواقع  الغربيون  غير راضين عن انتهاكات حقوق الإنسان وسياسة التدخل التركي في جوارها وعلاقتها بروسيا؛ لذلك فهم لا يزودونها ببعض التقنيات المتقدمة اللازمة لتصنيع طائراتها بدون طيار، ودبابة جديدة وطائرة مقاتلة مستقبلية؛ لذلك، بالنسبة إلى أنقرة، تظلّ العلاقة مع كييف تساعد بالتالي في التخفيف من آثار هذه العقوبات.

اقر أيضاً: تركيا عين على "إس 400" الروسية والأخرى على "باتريوت" الأمريكية

لذلك تعدّ أوكرانيا وروسيا، كلّ واحدة بطريقتها الخاصة، مهمّتَين لتركيا، حتى من حيث منتَج أساسي مثل الخبز، إذ يستورد الأتراك قمحهم من كلّ من روسيا وأوكرانيا. في ظلّ هذه الظروف تجد السلطة التركية نفسها في مواجهة معضلة واختيار صعب للغاية؛ ففي حين أن البلاد على علاقة سيئة مع شركائها التقليديين (أوروبا والولايات المتحدة)، وأنّ صُدف تحوّل سياستها الخارجية نحو الشرق قد دفعتها إلى مغازلة روسيا والصين وإيران ودول أخرى غير نموذجية ديمقراطياً؛  فإنّ الأزمة الأوكرانية قد تُجبر تركيا والدول الغربية على التحاور من أجل إعادة أنقرة إلى الحظيرة الغربية، وسيكون البديل لتركيا، لا سيما في حالة انتصار روسيا، هو تعزيز رسوخها شرقاً، معتبرة أنّ الغرب غير قادر على الدفاع عن حلفائه.

لكن، في الواقع، أياً كانت نتيجة الحرب فمن المحتمل أن يختار القادة الأتراك طريقاً ثالثاً في سياق استمرارية ما يفعلونه حالياً، وهو التنقل بين المزالق ومواصلة سياسة عدم انحياز البلاد، الساري منذ ما يقرب من عقدين.

يمكن للمبادرات الأولى لحكومة رجب طيب أردوغان في الأزمة أن تمنح مصداقية للفرضية الأولى. بالفعل، بصفتها الوصي على مضيق البوسفور والدردنيل، بموجب اتفاقية مونترو لعام 1936، التي تحكم حركة المرور في المضائق في أوقات السلم والحرب، فقد ذكرت تركيا "حالة حرب" في المنطقة القريبة من المضايق. الغرض من هذا الإعلان هو أن تمنح لنفسها الوسائل القانونية لمنع مرور السفن الحربية الروسية، وهو ما يمثّل شكلاً من أشكال الدعم العسكري التركي لأوكرانيا، ويمكن قراءته على أنّه تقارب مع الغرب. وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن دعم تركيا لأوكرانيا سبق الغزو الروسي الحالي إلى حد كبير. لقد طوّرت أنقرة سياسة التعاون العسكري مع أوكرانيا من خلال بيعها أسلحة، بما في ذلك الطائرات بدون طيار. إذا كان استخدام هذه الطائرات بدون طيار لا يغيّر ميزان القوى، كما كان الحال في ليبيا وكاراباخ، فإنّه مع ذلك يشكّل ملاذاً مُهمّاً للجيش الأوكراني الأقل عدداً من القوة الروسية.

اقرأ أيضاً: مباحثات "خلف الكواليس" لإيجاد بدائل للغاز الروسي... ما علاقة تركيا وإسرائيل؟

ومع ذلك، لا ينبغي أن يُستنتج من الدعم التركي لأوكرانيا أنّ تركيا ستُقوّي علاقاتها مع الغرب، وذلك لعدة أسباب؛ الدعم التركي لأوكرانيا لا يعني التزامها بكيفية تعامل الغرب مع الأزمة الأوكرانية، ولا يعني أنه تمّ تبديد جميع حالات سوء التفاهم مع الغربيين. في الواقع إذا استمرت تركيا في تأكيد تمسكها بوحدة أراضي أوكرانيا والتعبير عن تضامنها مع تتار القرم الذين لا يوافقون على ضمّ شبه الجزيرة إلى الاتحاد الروسي، فهذا لا يعني أنّها ملتزمة بخطاب الأوكرانيين الموالي للغرب.

اقرأ أيضاً: سياسات أردوغان تدفع تركيا إلى تذيل هذا المؤشر العالمي

 إنّ هذا الانتحاء الغربي لأوكرانيا أمر محرج للسلطة التركية الحالية، لا سيما أنّ أسباب الطلاق بين تركيا والحلفاء الغربيين خطيرة للغاية، بحيث لا يمكن حلّها فقط من زاوية الأزمة الأوكرانية: انجراف البلاد الاستبدادي وسياستها في سوريا، ودعمها الأخير لأذربيجان في كاراباخ العليا و بالطبع سياسة تقاربها مع روسيا.

موضوع الخلاف السوري

تحتلّ سوريا مكانة مهمة في الخلافات مع الغرب، ولا سيما مع الولايات المتحدة، يمثل الوجود العسكري التركي في أجزاء من البلاد والأعمال التي تقوم بها ضدّ ما تسميه الجماعات الإرهابية الكردية في سوريا التي يهيمن عليها حزب العمال الكردستاني (PKK) إشكالية حقيقية ومعقدة. هذه القوى الكردية في الواقع هي التي يراها الغرب بحقّ أبطالًا في القتال ضدّ تنظيم داعش، مهما كانت نتيجة الحرب في أوكرانيا والموقف الذي اتخذته تركيا فلن تغيّر أنقرة سياستها في سوريا على المدى القصير، حتى إن فازت المعارضة التركية في الانتخابات الرئاسية المقبلة، فمن المحتمل ألّا تقلّ هذه الأخيرة تدخلاً في السياسة الخارجية عن الحكومة الحالية.

في ضوء هذه العناصر المختلفة، اللهم إلّا في حال تدهورَ الوضع وتحوَّلَ إلى صراع عام وأثّر بشكل مباشر على تركيا، فمن غير المرجح أن تتخذ هذه الأخيرة موقفاً حاسماً.

 بالنسبة إلى أنقرة؛ فإنّ الحرب في أوكرانيا ليست بين روسيا وأوكرانيا بقدر ما هي بين روسيا والغرب، والحال أنّ تركيا تابعة ومتشككة ومرتابة وهشّة وحساسة وضعيفة في آنٍ إزاء هذا الطرف وذاك معاً.

اقرأ أيضاً: هل تصبح تركيا من أتعس دول العالم؟.. هذا ما أظهره مؤشر السعادة العالمي

مع الغرب ما تزال تركيا تحتاج لفترة طويلة إلى علاقة اقتصادية قوية وتعاون تكنولوجي وصناعي لا يستطيع شركاؤها الآخرون أن يقدموه لها إلا بصعوبة، فإن كانت على خلاف جيوسياسي مع المعسكر الغربي فهي لا تخشى هجوماً جماعياً، بينما تعرب عن أسفها لأنّ مخاوفها الأمنية لم تؤخذ في الاعتبار بشكل كافٍ في منطقة الشرق الأوسط المضطربة.

 

اقرأ أيضاً: تركيا تسعى لتثبيت أقدامها في شرق المتوسط من بوابة إسرائيل

على الجانب الروسي، تخشى تركيا على أمنها؛ فحتى في سوريا تشعر أنقرة بالضعف الشديد؛ فحتى إن فهمت روسيا للمفارقة مخاوفها الأمنية أفضل مما فهمه حلفاء أنقرة الغربيون، في حال شبّ نزاع خطير بين البلدين؛ فإنّ موسكو قد تفجّر على الفور قفل إدلب، من خلال شنّ هجوم على المنطقة. لقد حدثت بالفعل مواجهات مباشرة تسبّبت في مقتل ما لا يقل عن ثلاثين جندياً في صفوف الجيش التركي.

اقرأ أيضاً: تركيا وإسرائيل: تعاون في مجال الطاقة في منطقة شائكة شرق المتوسط

 سيتم بعد ذلك دفع مليوني لاجئ سوري نحو تركيا، حيث سيضعون، إضافة إلى الأربعة ملايين الموجودين بالفعل، السلطة التركية في صعوبات كبيرة في مواجهة الرأي العام، الذي لا يبدو أنّه مستعد لاستقبال موجات جديدة من المهاجرين، وفي مواجهة هذه المعضلة الجيوستراتيجية كان موقف الوسيط، بالنسبة إلى أنقرة، هو المخرج الأفضل؛ إنّه الخيار الذي قررت تركيا اتخاذه.

مصدر الترجمة عن الفرنسية:

https://orientxxi.info/magazine/le-choix-impossible-de-la-turquie-entre-l-ukraine-et-la-russie,5430



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية