صورة الخرطوم... القادم أسوأ

صورة الخرطوم... القادم أسوأ

صورة الخرطوم... القادم أسوأ


10/06/2023

بعد أن كانوا مجرد متفرجين على الحروب الأهلية في أطراف السودان المختلفة، والتي بدأت منذ عام 1955 بجنوب البلاد، وجد سكان العاصمة السودانية أنفسهم جزءاً من حرب أهلية ضروس بحلول فجر 15 نيسان (أبريل) الماضي.

كانت الحياة اليومية تمضي بشكل روتيني، لا جديد يذكر ولا قديم يعاد، وفيما كان سكان العاصمة يكابدون كدأبهم من أجل الوصول إلى أماكن عملهم، انطلقت الرصاصة الأولى ثم دوت المدينة بكاملها، فانصعق الجميع وأصابتهم الدهشة والشلل، لكن مع استمرار الحرب ترك كثيرون منازلهم وأموالهم وذكرياتهم خلفهم ونزحوا داخلياً وخارجياً.

أمّا من تبقى من المدنيين، فقد أصبحوا إمّا من المشاركين غير الراغبين، وإمّا ضحايا لاتساع نطاق الحرب ورعبها.

خروج أول

في حي بُرِّي وسط الخرطوم بالقرب من القيادة العامة للجيش السوداني، حيث دار قتال عنيف، وما يزال، بين الجيش وقوات الدعم السريع، أصبح المدنيون تحت رحمة الرصاص والقذائف، وعاشوا أياماً صعبة دون كهرباء وماء.

قلة من الأفراد والعائلات غامرت منذ الأسبوع الأول بالخروج بما عليهم من ملابس وتحت زخات الرصاص إلى أحياء ومدن أخرى طلباً للنجاة، وظلّ معظمهم ينتظرون ريثما يتنزل عليهم فرج من السماء ولو لبرهة قليلة، فإمّا أن يغادروا، وإمّا أن يستسلموا لأقدارهم ومصائرهم.

قتال عنيف

تكرر هذا المشهد في بقية أحياء العاصمة، فتضاعفت وتيرة النزوح، لا سيّما بعد خروج أكثر من ثلثي المستشفيات عن الخدمة وشح المواد التموينية وتوقف الأعمال وتجميد رواتب الموظفين وتفشي ظواهر السرقة والسلب والنهب من خلال العصابات المسلحة التي انتشرت في العاصمة بعد أن تم إطلاق المجرمين من السجون من قبل أحد أطراف الحرب، كما تم إطلاق رموز النظام السابق الوالغين في الحرب والمحرضين عليها.

بيدي لا بيد عمرو

لم تكن الخرطوم على ما يرام قبل الحرب، لكنّها كانت تنام بين النيلين الأزرق والأبيض بسلام، إلى أن قادها نظام حزب المؤتمر الوطني، رغم أنفها، إلى حرب عبثية، بعد أن أنهكها خلال (30) عاماً من القهر والاستبداد والفساد والحروب الأهلية والخراب المديد.

(3) عقود والمدينة التي يعود تاريخها إلى قرنين فقط، حين اختارها حاكم عام السودان عن الدولة الخديوية عثمان جركس باشا البرنجي عاصمة لسودان (مصر) عام 1824، تقاوم كي تستعيد بعض ألقها الذي تركه (الإنجليز) فخسفته الحكومات الوطنية واحدة تلو الأخرى، فمنذ نيل السودان استقلاله عام 1956 بدأ التخريب الوطني للبلاد، إلى أن بلغ مداه وذروته بعد مجيء الإخوان المسلمين ـ فاتحين ـ وليسوا حكاماً.

لم تشهد المدينة حرباً منذ مقتل حاكم عام السودان عن الدولة الخديوية الجنرال الإنجليزي تشارلز جورج غوردون في 26 كانون الثاني (يناير) 1885 على يد الثوار المهدويين السودانيين (الدراويش)، فقد دارت حرب ضروس انتهت بهزيمة الدولة الخديوية وتأسيس حكومة وطنية في المدينة الجديدة (أم درمان) التي أصبحت لاحقاً جزءاً من عاصمة مثلثة بجانب الخرطوم والخرطوم بحري.

الآن وبعد (138) عاماً تشهد العاصمة السودانية حرباً من نوع آخر، بين جنرالات المؤسسة العسكرية السودانية (القوات المسلحة وقوات الدعم السريع) من أجل حيازة السلطة والاستئثار بها، والإطاحة بالمسار المدني الديمقراطي، والعودة إلى الاستبداد.

قصف عشوائي

تقترب الحرب الراهنة بين الجيش وقوات الدعم السريع من الـ (60) يوماً، ولا أحد يرى في الأفق إلّا مزيداً من الانسداد، إذ لم تتمكن القوات المسلحة من حسم ما سمته بالتمرد خلال (48) ساعة كما ظنت، مثلما كان يروّج الإخوان، كما أنّ الطرفين فشلا حتى اللحظة في الالتزام بهدنة واحدة تتيح للمدنيين العزل والنساء والأطفال ممرات آمنة للخروج من ميدان القتال.

تقترب الحرب الراهنة بين الجيش وقوات الدعم السريع من الـ (60) يوماً

بين قصف الطيران الذي نادراً ما يصيب أهدافاً عسكرية، وبين دوي المدافع والمضادات ورشقات رصاص الأسلحة الخفيفة الطائشة، يعيش سكان المدن الـ (3) (الخرطوم وأم درمان وبحري)، وقد أكد مكتب دعم حماية المدنيين في بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان (يونيتامس) في بيان له بتاريخ 5 حزيران (يونيو) أنّه ما يزال الوضع في مدن العاصمة السودانية باعثاً على القلق مع استمرار القتال بين الطرفين المتحاربين، وأشار إلى استمرار تدهور الأوضاع في غرب ووسط وشمال إقليم دارفور (غرب السودان)، ممّا أثر على المدنيين، بمن فيهم النساء والأطفال، وأنّ كثيرين منهم عالقون بين طرفي النزاع.

وأضاف المكتب أنّه وثّق عشرات الحوادث، بما في ذلك القتل والاعتقالات وحالات الاختفاء والهجمات على المستشفيات والعنف الجنسي وغيرها من الانتهاكات الجسيمة ضد الأطفال التي ارتكبتها أطراف النزاع، ممّا جعل (25) مليون سوداني، يمثلون أكثر من نصف عدد سكان البلاد، بحاجة إلى المساعدة والحماية، وفقاً للأمم المتحدة.

موت البشر والماشية

سردية حرب الخرطوم تبلغ مأساويتها ذروة التراجيديا، إذ لا تسلم حتى الحيوانات من قصف الطيران، حيث لقيت عشرات الجِمال (الإبل) حتفها في 7 حزيران (يونيو) بسوق المويلح للماشية بأم درمان، بجانب مقتل (12) مواطناً وإصابة آخرين، وفقاً لبيان صادر عن قوات الدعم السريع,

مشاهد اللصوص وهم يقتحمون المتاجر والمنازل وينهبون السلع والمقتنيات في ظل غياب الشرطة واختفائها التام، منذ اندلاع الحرب وحتى اللحظة، يطرح السؤال عن من هو المسؤول عن حماية المواطنين عبثياً؟ خصوصاً بعد أن وجهت القوات المسلحة نداءً للجنود والضباط المتقاعدين بالعودة إلى الخدمة وحمل السلاح والمشاركة في الحرب، ووجّه بعض الضباط المحسوبين على الإخوان المسلمين نداءً مماثلاً للمدنيين بالدفاع عن أنفسهم، وكذلك فعل مِنِّي أركو مناوي حاكم إقليم دافور.

مجاعة وشيكة

تبدو هذه المشاهد أقلّ وطأة على القلب أمام حكايات مثل وفاة عشرات الرضع والأطفال بسبب الجوع وانعدام الرعاية الطبية، ومثلهم من مرضى الفشل الكلوي الذين توفوا بسبب نفاد الإمدادات، حيث أكدت اللجنة التمهيدية لنقابة الأطباء أنّ العديد من مراكز الغسيل الكلوي انعدمت فيها المعينات والإمدادات؛ الأمر الذي يهدد حياة نحو (12) ألف مريض ما لم تصل الإمدادات بشكل عاجل.

لا تسلم حتى الحيوانات من قصف الطيران

 بطبيعة الحال، يظل الجوع هو الوجه الأكثر بشاعة لحرب قد يطول أمدها وتتسع رقعتها، في بلد كان يعاني عدد كبير من سكانه الجوع  قبل اندلاع الحرب، أمّا الآن، فنحو (25) مليون شخص ـ يمثلون أكثر من نصف سكان البلادـ دخلوا حيّز المجاعة، وربما يتضاعف العدد بمتوالية هندسية مع استمرار الحرب، وتزايد احتمال فشل الموسم الزراعي، لنقص التمويل وانعدام الأمن وغياب الدولة.

مواضيع ذات صلة:

كارثة إنسانية مرتقبة في السودان بعد تعليق محادثات جدة

هدنة هشة واغتصاب جماعي وصراع إثني في دارفور... السودان إلى أين؟

صراع السودان يعمق أزمات الاقتصاد... ما السيناريوهات المحتملة؟



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية