طريق الحرير الإماراتي

طريق الحرير الإماراتي

طريق الحرير الإماراتي


15/06/2023

علي الصراف

منقلبُ فضِّ النزاعات والتعايش السلمي وتصفير المشاكل الذي قادته الإمارات في العلاقات بين دول المنطقة وبينها والعالم، لن تكفي كلمة “ثورة” لوصفه. فهو من الجذرية والقوة والجاذبية بحيث بات يلقي بظلاله على المنطقة بأسرها، ليستمر لعقود طويلة من الزمن.

ثمة ميلٌ ظاهرٌ بين كل القوى الأخرى في المنطقة إلى الأخذ بهذه الثورة، لتكتشف آفاقها وفرصها وما يمكن أن ترسيه من علاقات ومنافع متبادلة، حتى وإن كان لبعضها، فيما بينها، ما تختلف عليه.

لا شيء أكثر صدقا من مثالين: فإيران ما تزال تحتل جزر الإمارات الثلاث: طنب الصغرى وطنب الكبرى وأبوموسى، وترفض إزالة الاحتلال كما ترفض التفاوض، رفضها للتحكيم الدولي نفسه.

وهذا موضوع نزاع جسيم. كان يمكن، وفقا لثقافة أخرى، أن يكون دافعا أو مؤسسا لصراع مسلح. وما انفك لقاء عربي أو خليجي، إلا وعاد ليُذكّر طهران بأنها تواصل الضغط على جرحٍ مفتوحٍ ظلما وعدوانا.

أبوظبي آثرت أن تضع صخرة الوجع جانبا لكي لا تكون عثرة من عثرات التعطيل، وشقت الطريق إلى إيران من أجل بناء علاقات تعاون، لا تتخلى عن الحق، ولكن لا تجعله عائقا أمام تجربة مثمرة، يمكنها أن تكون أكثر نفعا من احتلال تلك الجزر، فلا يعود ذا مبرر معقول.

وأما المثال الثاني، فهو هذه الإسرائيل نفسها، بعدوانيتها ووقاحتها وجرأتها على افتعال أسباب للجريمة والتوسع الاستيطاني. فذهب الخيار إلى أن تطبيع العلاقات يمكنه أن يجمع بين إدانة الجريمة وملاحقتها في المحافل الدولية، وبين نزع فتائل التوتر والتصعيد، لعل نزعة العدوان تهدأ، أو تطلق النار على أقدامها بنفسها.

اختارت أبوظبي إستراتيجية تعاون مفتوح، وانفتاح غير مشروط، وكبح شامل لقضايا الخلاف والتنازع، من أجل أن تفتح الطريق أمام تنمية المصالح المشتركة، والاستقرار، والالتفات إلى معالجة التحديات التنموية الخطيرة التي تعترض طريق دول المنطقة وشعوبها كافة.

هذه المنطقة التي أمضت أكثر من سبعة عقود من الزمن وهي تناطح المعارك الخارجية، بقوى داخلية هزيلة أو مزيفة، فاتها أن تلتفت إلى حقيقة أن الاقتصاد هو رافعة القوة الأهم. وما لم تكن القوة العسكرية مصونة بهذه الرافعة، فإنها لن تقوى على شيء، ولن تحل مشكلة، ولسوف تزيد الخسارة سوءا.

وفي الواقع، فإن المنطقة العربية لم تعرف في مواجهة إسرائيل إلا هذه النتيجة. حتى كسبُ العراق للحرب مع إيران بين عامي 1980 و1988 لم يكن نصرا مطلقا. لأنه خلّف ما خلّف من مرارات اقتصادية، صارت توابعها التالية أكثر مرارة من الهزيمة.

غزو الشعارات والمزاعم وأوهام القوة، كان هو الغالب حتى عندما انكشفت عوراته في حرب العام 1967. والعيش على زيف الأماني، لم يكن بوسعه أن يحصد نصرا تاما حتى في حرب أكتوبر في العام 1973. نجحنا في استعادة بعض الكرامة الجريحة. ولكننا لم نستعد ما كانت تعدنا به الأماني المزيفة. الجولان بقي محتلا. والأراضي الفلسطينية، بما فيها القدس الشرقية، ظلت ترزح تحت سنابك الغزاة والمستوطنين.

لا يكفي أن تعرف ماذا تريد. يجب أن تعرف الطريق الصحيح إليه. والصحيح، يبدأ من النقد الجريء والقدرة على الخروج من القوالب المسبقة، وأن تكون قادرا على أن تختبر الإمكانيات له، وتمتحنها بالأسئلة الحرة. ومع كل عثرةٍ تكشفُ عن ثغرة، فإنك تغلقها بمقاربة تتوافق مع السياق العريض، بلا تزوير ولا تزويق، حتى تصقلُ القدراتُ نفسها، وحتى تبلغ الإمكانيات مداها، فيصبح الطريق ممهّدا، ليس لسنة أو عشر، وإنما لنصف قرن أو أكثر.

بناء القوى، في عالم يتصارع على الثروات والموارد، ليس مشروع سنة أو سنتين. ولا هو مشروع كلام يسبح في غيوم الأماني والرغبات. إنه مشروع عمل دؤوب. مترابط، ويضع حجرا صحيحا فوق حجر صحيح. ويظل يختبر نفسه، ويغلق الثغرات، ليظل متوافقا مع سياقه الأصل.

كل الأسئلة كان يجب أن تلقى الجواب المستقيم. والمتوافق.

قراءة الحقائق، بروح التجرّد والجرأة على قبول المنغّصات فيها، ليس أمرا مألوفا في الثقافة العامة في المنطقة. تحتاج أن تنسج منها أجوبة من حرير على مغزل تلك الحقائق، لتعرف ماذا تريد وماذا يمكنك أن تحققه، وبأيّ سبيل.

هناك شيء مّا مختلف في صناعة القرار السياسي في الإمارات هو ما جعل قراءة الحقائق ممكنة ومثمرة، ومشروعا لطريق من حرير، في خضمّ محيط إقليمي صاخب وما فتئ يقف على حافة الهاوية باستمرار.

العقل المدبر هناك جماعي أولا. وصريح مع النفس ثانيا. وأخويّ ثالثا. تغمره الثقة، ويجرؤ على المستحيل. أفهل رأيت أعلى مبنى على سطح الكرة الأرضية؟ كان الأمر مؤشرا مبكّرا على الجرأة على المستحيل. أم هل رأيت السعي إلى المريخ؟ جوهره الخفيّ ليس المريخ، وإنما ما تصنع المعرفة على الأرض. أم هل رأيت تنوع الاستثمارات وتنوع الموارد وتنوع مصادر الطاقة؟ أم رأيت توسّع مدارات العلاقات التجارية، وإرساء الأسس لما هو مستقبلي فيها؟

الجواب كان، أن تشق طريقا من حرير، فإن الرفاهية الاجتماعية، وتوليد الثراء من الثراء، وتوسيع أفق التنمية، ومدّ جسورها إلى الغير، هو الحرير الذي لم يعد للمشكلات والنزاعات أن تقطع خيوطه.

ابن. وعمّر. وانقل ما تراه لنفسك صحيحا ومثمرا إلى عدوك ليرى كم يبقى من قيمة العداوة في نفسه، ومن ثم ليرى إنها هي الصخرة التي تُضيّقُ عليه الطريق.

لقد صنعت الإمارات، بإستراتيجية مد الجسور طريقَ حريرٍ يوصل بين المتنازعين، كما يوصل فرص التنمية، ويجعل الرفاهية هي رافعة القوة. ولقد صارت قوة مغرية ومعدية.

والطريق يتّسع للآخرين. كما يتّسع لطرقهم. فتتشابك مثلما تتشابك الخيوط في مغزل الحرير.

لقد صنعت الإمارات معجزة لن يفلت أحد من جاذبيتها. وتسقط أمامها كل نزعات العدوان والتسلط حتى لتصبح الاحتلالات منطقا هزيلا وبليدا، وتأخرا متعمدا عن اللحاق بأقاصي الطريق.

عن "العرب" اللندنية




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية