عبد الناصر يدعم الثورة الإيرانية .. يا لثارات مصدق

إيران

عبد الناصر يدعم الثورة الإيرانية .. يا لثارات مصدق


30/10/2018

بمجرد وضع الخطوط العريضة لسياسته الخارجية، قرر الزعيم المصري جمال عبد الناصر الاحتفاء بمحمد مصدق رئيس وزراء إيران لإنجازه سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية وتأميمه شركات النفط في بلاده، ودعاه لزيارة القاهرة التي لاقى فيها احتفاءً غير مسبوق، وما أن انتكست حركة مصدق بعد تدخل المخابرات الأمريكية وتدبيرها انقلاباً ضد مصدق عاد الشاه إلى إيران ليمسك بكل خيوط اللعبة السياسية في طهران، وكرد فعلٍ على إسقاطه سمّى النظام الناصري شارعاً شهيراً بالجيزة باسمه، كتكريم لسيرته.
كان أول ما فعله الشاه، بعد أن أحكم سيطرته على إيران، هو الارتباط بحلف بغداد بهدف الحصول على الدعم المباشر من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا مقابل تأمينه مصالحهما في الشرق الأوسط، فيما رأت مصر الناصرية أنّ حلف بغداد هو أكبر خطر سياسي يواجه ريادتها الإقليمية، بل ويهدد بعزلها عن محيطها الجيوسياسي العربي فحاولت تحطيمه بكل الطرق الممكنة.

انتكست حركة مصدق بعد تدخل المخابرات الأمريكية

وبينهما إسرائيل
كان الشاه قد اعترف بدولة إسرائيل عام 1950. وبعد عام واحد قرر محمد مصدق تجميد هذا الاعتراف وسحب مندوب بلاده من تل أبيب؛ فقد كان يريد ربط اسمه بحركة التحرر الوطني التي ترى في إسرائيل امتداداً ورأس حربة المشروع الاستعماري، إلا أنّ المشروع الوطني لمصدق لم يصمد كثيراً حيث تحطم على صخرة التدخل الخارجي في بلاده، وتُوج الشاه على رأس الهرم السياسي لإيران مجدداً، وهو ما يتسامح عبد الناصر معه أبداً.
رهن الشاه بقاءه في الحكم بالارتباط بأمريكا وحليفتها إسرائيل، ففتح السوق الإيرانية أمام الشركات الإسرائيلية، وأشرف على تبادل البعثات الاقتصادية والوفود البرلمانية والثقافية والصحفية بين البلدين، ووافق على إنشاء مكاتب سياحة إسرائيلية بطهران، وسمح لمكتب الوكالة الإسرائيلية في بلاده بأن يمارس نشاطه في جمع التبرعات من يهود إيران وتشجيعهم على الهجرة إلى أرض فلسطين المحتلة.

بعد حربٍ بين اليسار الإسلامي والشيوعيين ضد رجال الدين انتصر الخميني، ولم ينس أن عبد الناصر مد يد العون للثورة

كما قرر مد تل أبيب بكل ما تحتاجه من النفط، وسمح لشركة "العال" الإسرائيلية بتسيير خطوط طيرانها عبر إيران وفي النهاية توّج تأييده إسرائيل بعقد مؤتمر صحفي بتاريخ 22/ 7/1960 جدد فيه اعترافه القديم بإسرائيل ودعاها للمشاركة في جميع المؤتمرات الدولية المقامة بإيران ونفّذ وعده باستقبال الرئيس الإسرائيلي بن زفي وبن جوريون بعده وأخيراً موشي ديان وزير الزراعة الإسرائيلية آنذاك.
كان الشاه يرى في القومية العربية الصاعدة عدواً ينبغي سحقه، وحين اندلعت ثورة 23 يوليو في مصر، وأعطت القومية العربية دفعة هائلة، قرر اتخاذ 3 قرارات وقائية ضدها، فتعاون مع رئيس الوزراء العراقي نوري السعيد لتحجيم آثارها السياسية والإعلامية على العراق ومن ثّم إيران.
كما حاول التعتيم الإعلامي عليها في الداخل الإيراني، إلا أنه كان من المستحيل أن يمنع الإنتلجينسيا الإيرانية من متابعة تطورات الوضع في مصر خصوصاً بعد أخذ الصراع على قناة السويس طابعاً عالمياً، وأخيراً، ولتخوفه من محاكاة الضباط الإيرانيين لنظرائهم المصريين، طلب من الولايات المتحدة تدريب جهاز المخابرات العسكرية الإيرانية وتوزيع عناصرها على جميع وحدات الجيش الإيراني.

اقرأ أيضاً: محمد مصدق.. قصة الزعيم الإيراني الديمقراطي الذي أطاح به الغرب
لم تحدث الثورة المصرية أثراً ملموساً في الداخل الإيراني وإن كانت أعطت النموذج الذي ينبغي أن يكون عليه شكل الحكم في بلد ينتمي إلى العالم الثالث ومهدد بأطماع استعمارية، وأتت ثمار جاذبيتها في العراق المجاور لإيران باندلاع ثورة 1958 التي أعطت المعارضة الإيرانية الحماسة والمثال في التخلص من حكم استبدادي مرتبط بالخارج، لذا خشي الشاه من وجود نظام معادٍ على حدوده، فاستقر على خلق كل أنواع المتاعب للنظام العراقي الوليد.
لم يغفر الشاه لعبد الناصر مساهمته الحاسمة في تفكيك حلف بغداد (أكبر ضمانه لحماية وتنمية نفوذ بلاده على المستوى الإقليمي) وهندس علاقته بإسرائيل على هذا الأساس باعتبارها العدو اللدود للعرب، وهو ما سيدفع بعبد الناصر لتحطيم سلطته بكل السبل.
حيثيات الرد المصري
كان تضخم حجم الجيش الإيراني المدعوم بأحدث الأسلحة وقدرته على ردع أي قوة عسكرية إقليمية تفكر بالقيام بعمل عدائي ضد إيران، بالإضافة إلى تضخم جهاز "السافاك" (الشرطة السرية) وإحكامه قبضته على النشاط السياسي داخل إيران، يحولان دون اختراق النظام المصري للمشهد السياسي الإيراني بشكل فعّال، ومع ذلك ظل الطلاب الإيرانيون ثغرة في نظام الشاه.
كانت الحركة الطلابية تمثل بؤرة إزعاج دائم لحكم الشاه على الرغم من كل الممارسات البوليسية ضدها، واستغل عبد الناصر الثغرة جيداً وطلب من فتحي الديب سفيره في سويسرا، وهو الذي سيفصح عن تلك المعلومات في كتابه عبد الناصر وثورة إيران، بالتواصل مع الطلبة الإيرانيين وبحث سُبُل دعمهم على كل المستويات.

عبد الناصر يصافح السفير فتحي الديب

كما أوكل عبد الناصر إلى الديب متابعة الاتصال بالحركة الوطنية الإيرانية وتحمل مسؤولية كل ما يتعلق بأسلوب تأييد ودعم قدرات المناضلين الإيرانيين في إطار من السرية التامة، وعلى هذا الأساس تحولت السفارة المصرية في سويسرا إلى خلية عمل ثورية تدعم المناضلين الإيرانيين.
وفي هذا السياق، التقى الديب عام 1963 محمد ناصر قاشقاي ريس قبائل "قاشقاي" المقيمة بجبال جنوب غرب إيران والتي يبلغ عدد أفرادها نحو مليون نسمة، وقد قامت بانتفاضة مسلحة في وجه الشاه واستطاعت أن تحكم منطقتها ذاتياً قبل أن يعود الجيش الإيراني ليسحق حركتها.
ويروي الديب أنّ السيد قاشقاي أبلغه بأنه على صلة وثيقة بالتجمعات الطلابية المعارضة في كل من أوروبا وأمريكا والتي يبلغ عددها نحو 20 ألف طالب، وأنه بدعم الرئيس المصري سيكون للقبائل المعارضة في الداخل والحركة الطلابية ورجال الدين في الداخل والخارج فرصة كبرى للإطاحة بالشاه.

اقرأ أيضاً: جمال عبدالناصر يدير معارك الفيسبوك
وعرض قاشقاي مطالب المعارضة الإيرانية على السفير المصري وكانت كالآتي: أولاً، إمداد المعارضة ببعض الأسلحة الأتوماتيكية بغرض استخدامها في حرب عصابات ضد الشاه، ثانياً: تدريب عناصر المعارضة عسكرياً في القاهرة، ثالثاً إمدادهم بمبلغ 200 ألف دولار لإعداد المقاتلين في حرب العصابات وتزويد القبائل المقاتلة بالاحتياجات اللازمة، رابعاً تجهيز مبلغ مليون دولار بهدف تشجيع قبائل الجنوب المستاءة من حكم الشاه على الانخراط في حرب العصابات ضده.
مصر في خدمة الثورة
رد عبد الناصر على تلك المطالب، كما ينقل عنه فتحي الديب، بالإعراب عن شكوكه في إمكانية تأثير قبائل قاشقاي على الأكراد، المسلحين جيداً، لمناصرة حربهم ضد الشاه، مؤكداً أنه يرفض أسلوب شراء القبائل، وأنّ أي تحرك نضالي لا ينبع من ضمير المشاركين فيه لا يكتب له النجاح، كما أنّ أي حركة ثورية عليها الاعتماد على إمكاناتها المحلية أولاً وأنّ أي دعم خارجي يجب أن يكون عاملاً مساعداً للإمداد بما هو غير متوافر محلياً.

يشير الكاتب المصري فهمي هويدي في كتابه "إيران من الداخل" إلى أنّ الشاه رد على تحدي الخميني باقتحام مدينة قم

إلا أنّ موقف عبد الناصر سرعان ما تغيّر وسلّم السفير المصري قاشقاي المبالغ المطلوبة، وهو ما ستضطر القاهرة لعدم الإعلان عنه نظراً لما تم الاتفاق عليه بين قادة الجبهة الوطنية والسفير المصري بحضور قاشقاي نفسه، بأنّ دعم القاهرة سيكون سياسياً وإعلاميا فقط.
وطالب عبد الناصر سفيره بالإبقاء على الاتصال برئيس قبائل قاشقاي، والمساهمة في دعم قدراته على الحركة، والتركيز على التجمع الطلابي في أوروبا باعتبار القاعدة الشعبية للثورة المأمولة، لذا حرص الديب على الالتقاء بممثلي التجمع الوطني الطلابي للجبهة الوطنية بأوروبا والذين عرضوا عليه مخططهم في النضال ضد الشاه وطلبوا دعم القاهرة لتحركاتهم.
وفي هذا السياق التقى السفير المصري فتحي الديب السيد علي شريفيان رضوي، مندوب رئيس حركة الحرية الإيرانية محمود طلقاني (وهي أحد التجمعات المكونة للجبهة الوطنية الإيرانية) والذي فوضه بالاتصال بعبد الناصر والوقوف على حجم المساعدات التي يمكن أن تقدمها مصر لحركتهم النضالية لتواصل كفاحها ضد نظام الشاه.
وكان على رأس مطالب حركة الحرية الإيرانية، أولاً: تدريب المناضلين عسكرياً في القاهرة، ثانياً: تهريب بعض الكوادر السياسية الإيرانية إلى مصر بهدف إعدادهم سياسياً وتقنياً وثقافياً لخلق نخبة حكم بديلة حال سقوط نظام الشاه، ثالثاً: إنشاء إذاعة موجهة إلى الشعب الإيراني من القاهرة بالفارسية ودعمها بكل الإمكانيات اللازمة، رابعاً: شن الجهاز الإعلامي المصري حملة على نظام الشاه بهدف فضحه إقليمياً، وأخيراً تسليم مندوب حركة الحرية مبلغ 16 ألف فرانك سويسري، وتسهيل تحركاته.

وفي مقر السفارة أيضاً، التقى فتحي الديب بممثل الجبهة الوطنية الإيرانية حسن مسالي والذي أعرب عن ثقة الجبهة بعبد الناصر وحده، بعد أن فقدت ثقتها بعبد الكريم قاسم الذي ثبت تعاونه مع الشاه، وطلب مسالي مساندة القاهرة لتحركاتهم التي تهدف إلى التخلص من الشاه، وأشار إلى ضرورة تنظيم القاهرة حملة إعلامية مكثفة باللغة الفارسية تستهدف الشعب الإيراني وتنقل أخبار احتجاجات المعارضة الإيرانية في الداخل إلى الرأي العام العالمي، وبواسطتها يمكن للجبهة التحدث إلى الإيرانيين في الداخل وإثارتهم ضد الشاه.
وفي هذا السياق كلف عبد الناصر عضو مجلس الرئاسة المصرية كمال رفعت بإدارة الدعم الإيراني من القاهرة بعد تشكيل مكتب دائم يتولى مسئوليته 5 إيرانيين يقيمون بمصر.

صورة لكمال رفعت من أرشيف السفير فتحي الديب

خطة الثورة في سفارة مصرية
أرادت القاهرة توحيد الجهود الإيرانية المعارضة وتجميعها تحت مظلة سياسية واحدة؛ فتولت التنسيق بين الجبهة الوطنية وقبيلة قاشقاي. وتحت إشراف السفارة المصرية بسويسرا اجتمع كل من حسن مسالي وناصر قاشقاي وعرض السفير المصري عليهما الاجتماع بباقي أعضاء اللجنة المركزية للجبهة بألمانيا للاتفاق على خطة كاملة للثورة، وبحث ما يمكن أن تقدمه مصر لضمان نجاحها.
وعرضت قيادة الجبهة الوطنية بالتعاون مع رئيس قبيلة قاشقاي على السفير المصري خطة الكفاح المسلح وطلبوا التزام القاهرة بتوفير معسكر لتدريب 100 معارض عسكرياً، وتوفير أسلحة خفيفة وقنابل يدوية، وتزويد الكوادر الإيرانية بالخبرة العسكرية اللازمة لشن حرب عصابات على جيش الشاه.

اقرأ أيضاً: غضب بسبب إحراق صورة عبد الناصر.. و"إم بي سي" ترد
كما استقر المجتمعون على عقد مؤتمر عام بألمانيا في آب 1963 يحضره ممثل للاتحاد الاشتراكي المصري وأعضاء من الجبهة في الداخل لدراسة الأوضاع الحالية بإيران وبحث ما إذا كانت مهيأة لإشعال ثورة ضد الشاه.
وتم الاتفاق على استبعاد عناصر الجيش الإيراني من خطة العمل المسلح، وكذلك عدم التعاون مع حزب توده الشيوعي لانعدام الثقة في قيادته السياسية بعد تأييده لإسقاط الدكتور مصدق، وأخيراً جهّز الديب جواز سفر مصرياً لخسرو قاشقاي شقيق رئيس قبائل قاشقاي، وتم الاتفاق على تقديم مصر معونة عسكرية للقبائل.

والشاه يعلم
في موازة تلك الخطط التي يتم إعدادها على أعين القاهرة، أعلن الشاه، الذي أحس بخطورة الوضع السياسي، أنه سيجري استفتاءً على بنود ثورته البيضاء في كانون الثاني (يناير) 1963، وفي تحدٍ سافر لنظامه أصدر روح الله الخميني فتوى تحرم الاشتراك في الاستفتاء وطالب بإسقاط النظام.
ويشير الكاتب المصري فهمي هويدي في كتابه التأريخي للثورة الإيرانية إيران من الداخل إلى أنّ الشاه رد على تحدي الخميني باقتحام مدينة قم المقدسة، ولم يتوقف روح الله على التنديد بفعلة الشاه تلك إلى أن حل شهر محرم، وهو شهر معبأ بالدلالات الثورية لدى الذاكرة الشيعية حيث خرج في الحسين مندداً بظلم الأمويين، فحرم الخميني التقية وطالب بتحدي النظام مجدداً متهماً الشاه بالعمالة لإسرائيل.
وعلى إثر تحريضه المدوي، وفي 5 حزيران (يونيو)، انفجرت المظاهرات في العاصمة طهران بتنظيم من حركة الحرية الإيرانية، وردت الشرطة باعتقال العديد من المحتجين، وتقرر نقل الخميني من قم إلى طهران فانفجر بركان الاحتجاج وخرجت المظاهرات تهتف للمرة الأولى "الموت للشاه" والتي ردت عليها الشرطة بعنف أسفر عن مقتل 15 ألف إيراني، حسب التقديرات الحكومية الرسمية.
اتهمت الصحافة الإيرانية المتظاهرين بالعمالة لمصر وبأنهم حصلوا على أموال من القاهرة بهدف إسقاط نظام الحكم، مؤكدةً أنّ عبد الناصر هو من كان وارء تظاهرات حزيران الكبرى، ونشرت جريدة "طهران جورنال" اعترافات بذلك لعميل المخابرات المصرية محمد الغيزي.
انتهت تلك الانتفاضة التي كانت بمثابة المرحلة التمهيدية للثورة بنفي الخميني إلى باريس، وإقدام قادة الحركة الوطنية على إعادة بناء تنظيماتهم السياسية، استعداداً لجولة أخرى تؤمن لهم الانتصار فيها على الشاه عام 1979 عبر الحراك المدني في الشارع وحرب العصابات ضد جيش الشاه، بفضل التدريب العسكري لكوادر الثورة تحت إشراف محمد نسيم أحد الضباط الأحرار، والذي تم تكليفه بتعليمات مباشرة من عبد الناصر، وبالاتفاق مع كمال رفعت وجهاز المخابرات العامة بتدريب المناضلين منذ حزيران 1964

محمد نسيم المكلف بتدريب المناضلين الإيرانيين/من أرشيف السفير المصري فتحي الديب

وبعد حربٍ أهليةٍ بين اليسار الإسلامي والشيوعيين ضد رجال الدين انتصر الخميني الذي لم ينس أن يعلن في إحدى خطبه أن عبد الناصر مد يد العون للثورة.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية