فيلم "جلسة فرويد الأخيرة": عن أخلاقيات إدارة الاختلاف

فيلم "جلسة فرويد الأخيرة": عن أخلاقيات إدارة الاختلاف

فيلم "جلسة فرويد الأخيرة": عن أخلاقيات إدارة الاختلاف


01/04/2024

الحوار في موضوع "وجود الله" أو"الإيمان" و"الإلحاد" لا ينتهي، ويتخذ أشكالاً عنيفة أحياناً، وأكثرها تطرفاً هو الحروب الدينية، ولكنّ هناك شكلاً حضارياً لهذا الحوار يقدّمه لنا المخرج مات براون في فيلمه "جلسة فرويد الأخيرة" (Freud's Last Session) 2023. الفيلم مبني على مسرحية تحمل الاسم نفسه لمارك جيرمان، والمسرحية بدورها مبنية على كتاب "مسألة/ سؤال الله" (2002)، لأرماند نيكولي، وفيه يتناقش سي إس لويس وسيجموند فرويد حول وجود الله والحب والجنس ومعنى الحياة. الفيلم من بطولة أنثوني هوبكنز في دور سيجموند فرويد، وماثيو جوود في دور الكاتب سي إس لويس، مؤلف سلسلة الأطفال الشهيرة: "سجلات نارنيا". وأغلب المشاهد صُوِّرت في موقع واحد، هو منزل فرويد في لندن بعد شهور من مغادرته فيينا قبيل الحرب العالمية الثانية. 

الحوار متخيل لأنّ اللقاء بين فرويد ولويس مبني على معلومة عن زيارة قام بها محاضر شاب من جامعة أكسفورد لمنزل فرويد قبيل وفاته. أمّا من هو ذلك الشاب وما موضوع الحديث الذي دار بينهما فلا أحد يعرف، بحسب ما جاء في تنويه مكتوب في آخر الفيلم. فإذا كان الحوار متخيلاً، وقد بُني على لقاء متخيل، فلا تشغل نفسك بالبحث عن حقيقة فرويد في الفيلم؛ فهو ولويس ليسا أكثر من وسيلة لإدارة حوار/ خلاف، والغاية ليست إقناع أحد الطرفين بوجهة نظره أو باعتقاده. مع ذلك لا يخلو الفيلم من تفاصيل تتعلق بفرويد على الأخص، مثل توظيف التحليل النفسي وبعض مصطلحاته.

الطفل أبو الرجل

الحوار أقرب ما يكون إلى نقاش بين "مؤمن" و"لا ديني"؛ لأنّ جوهره لا يدور حول وجود الله تحديداً، بل حول الحكمة من وجوده. يبدأ الحوار بالتعبير عن القناعات الشخصية الأقرب إلى اليقين، ليتطور إلى التعبير عن الشك ثم التعبير عن التواضع المعرفي، الأقرب إلى "اللّاأدرية" (Agnosticism). 

عن ذلك الشك قال فرويد في سياق حديثه عن الأحلام والخيالات: "لم أعد أعرف ما أفكر به بعد الآن. ربما يجب أن أبدأ بمحاولة فهم الواقع، أيّاً يكن ذلك الواقع الذي قد يكون حلماً في النهاية. "نرى الشك في ملامح وجه فرويد وفي أقواله، كما نراه في إيماءات لويس وأقواله أيضاً، مع الفارق بين الشكّين. شك فرويد مصحوب بألم، ناتج عن معاناته الخاصة من سرطان الفك، ومن فقدان ابنته وحفيده، ومن تأملاته في واقع المعاناة البشرية. وحياة لويس لا تخلو من الألم والمعاناة؛ فقد اشترك في الحرب وقاسى من ويلاتها وظل تأثيرها يطارده طوال حياته، لكنّ شك لويس ينطلق من اعتراف بصعوبة المعرفة، ومن يقين شخصي استقر عليه أو اطمأن إليه بعد رحلة فكرية يشير الفيلم إلى أنّ نتيجتها لا تنفصل عن حياة الطفولة: "الطفل أبو الرجل" وفقاً للمقولة التأسيسية في علم النفس. ومن جهة ثالثة ربما يصدر شكه من جُبن يمنعه من التعبير عنه، كما قال له فرويد.

الحوار متخيل لأنّ اللقاء بين فرويد ولويس مبني على معلومة عن زيارة قام بها محاضر شاب من جامعة أكسفورد لمنزل فرويد قبيل وفاته

من الصعب الفكاك من تأثير الطفولة كما قال فرويد: "نحاول جاهدين ترك ماضينا وذكريات طفولتنا، لكنّها تأبى تركنا. تبقى الأحزان ما بقينا. "ترعرع فرويد في كنف مربية كاثوليكية كانت في مقام والدته، وكانت تصطحبه إلى الكنيسة كل يوم أحد. أمّا لويس، فقد دفن الدين إلى جوار أمّه حين توفيت وهو طفل. والمضمر في هاتين البدايتين، عن حياة الطفولة، هو عن الكيفية التي يتخلق فيها الإيمان والإلحاد/ الشك أو ينتهي إليهما رغماً عن البدايات التي تناقضهما.

إنّ كلّاً من فرويد ولويس لم يرثا الإيمان والإلحاد من أبويهما. لكنّ للإرث صورة أخرى معاكسة أحياناً. يستنتج فرويد أنّ لويس كان يبحث في الإله عن تجسيد أبوي. كان يبحث عن أبيه في صورة الله؛ فحُبّ الابن وتقديسه لأبيه وانبهاره به، وفقاً لتحليل فرويد، "تحول إلى اعتراف بعيوب الوالد، وإلى رغبة أكثر إلحاحاً في طرده أو التخلص منه. "بينما علاقة فرويد بأبيه "اتسمت بخيبات أليمة"، واتخذت صورة "غضب تجاه إله عاجز"، وفقاً لتحليل لويس: "إنّ تمنّي غياب الإله يعادل قوة الإيمان بوجوده". وهي عبارة مقتبسة عن الفيلسوف كيركجارد، على ما أتذكر.

الدين كوجهة نظر

في بداية اللقاء يصرح لويس بأنّ "الله موجود"، لكنّه نفى عنه تدخله في الفعل البشري، مشيراً إلى حكمة خفية نجهلها. يسأله فرويد: "لماذا أتيت لزيارتي إذن إن كنت تختلف مع آرائي بشدة؟!

هذا سؤال وجيه يبين أنّ لويس راغب في المعرفة؛ لم يأتِ لإقناع فرويد بوجهة نظره أو بمعتقده وإنّما ليتناقش معه حولها، ومن المحتمل أن يغير أحدهما رأيه، لكن ليس هذا هو الهدف؛ إذا أخذنا في الاعتبار أنّ الحوار موجه للمتلقي. في المقابل يسأل لويس: "أنت تصر على أنّ مفهوم الله مثير للسخرية، فلماذا تكترث لآرائي إن كنتَ مقتنعاً بكفرك؟ لماذا أنا هنا"؟! يردّ فرويد: "إنه الفضول. شخص ذكي مثلك لماذا يتخلى عن الحقيقة ويتبنّى حلماً سخيفاً وكذبة خبيثة؟!" يردّ لويس: "وماذا لو لم يكن وجود الله كذبة؟! هل فكرت يوماً كم سيكون الأمر مرعباً عندما تدرك أنك كنت مخطئاً؟"، يردّ فرويد: "لن يبلغ رعبي نصف رعبك حين تدرك أنك كنت مخطئاً."

هذا الحوار مقتبس، على ما أذكر، من سؤال وُجِّه للفيلسوف برتراند رسل. والحوار على هذا النحو أقرب إلى اللّاأدرية، وفيه تتأسس وجهة نظر لويس على "رهان باسكال"، وهي حجة من خلالها استنتج الفيزيائي والفيلسوف الفرنسي بليز باسكال أنّ "الخيار الأفضل هو الإيمان بالله، بغضّ النظر عمّا إذا كان الله موجوداً أم لا."

يقدّم لويس هنا نموذجاً للإيمان الفردي، لأنّه يرى أنّ الإيمان رحلة وتجربة معرفية فردية سعى إليها بنفسه عبر دراسة الكتب المقدسة ولم يخرج من هذه الرحلة بمزاج المؤمن المتيقن الذي يريد أن يقنع العالَم بيقين معتقده. الإيمان وفق حديث لويس جهد فردي ومكابدة وليس إرثاً نكتسبه من الأجداد أو من الكتب المقدّسة. لويس في الفيلم أقرب ما يكون إلى الربوبية منه إلى المسيحية؛ ورغم إيمانه بالكتاب المقدّس تراه يعتمد على آرائه وتفكيره أكثر ممّا يعتمد على مرجعية دينية، فلا يقتبس من الكتاب المقدّس ما يدعم به وجهة نظره. المرة الوحيدة التي اقتبس فيها من الإنجيل كانت في سياق الحديث عن الجنس، كما أنّه لم يردّ على فرويد حين سخر من فكرة "إذا ضربك أحدهم على خدك الأيمن، فأدر له الخد الأيسر" في سياق الحديث عن جرائم هتلر، حيث الشر هنا أعظم من لطمة على الخد.

من اليقين إلى اللّاأدرية

يقدّم فرويد نفسه بوصفه "كافراً (disbeliever)، شغوفاً (مهووساً) بالإيمان والعبادات". اللافت هنا أنّه لم يستعمل المرادف "ملحد" (atheist)؛ ربما لأنّه "كافر" (جاحد/ منكر) بأقوال المؤمنين عن الله أكثر ممّا هو كافر بالله نفسه. ولذلك نراه ينتقد فكرة "خطة الله" وحكمته، كما يعتقد المؤمنون بها. ينتقل فرويد من الهمّ العام إلى الألم الخاص فيحدث لويس عن ابنته التي ماتت بالأنفلونزا الإسبانية وهي في السابعة والعشرين، ثم مات طفلها بالسل وهو في الخامسة. ويعقب فرويد: "يا لها من خطة مذهلة أن يقتل الربّ طفلاً صغيراً!"

سيجموند فرويد

يناقش فرويد فكرة وجود الله من زاوية النتيجة المتحققة/ السائدة على الأرض، أي من زاوية أفعال الله، إذا كانت هي أفعال الله حقاً. والخلاصة التي يمكن أن ننتهي إليها من أقوال فرويد هي "العبث"، أي نقيض الخطة/ التخطيط، بغضّ النظر عن مسبب هذا العبث: الله أو الإنسان. وكأنّ فرويد ينفي وجود الله من زاوية تدخل الله في الفعل على نحو مأساوي، أو من زاوية امتناعه عن التدخل لتوجيه الفعل البشري ناحية الخير؛ بحكم أنّه قادر، كما يزعم المؤمنون. وسواء تدخل الله أو لم يتدخل فهو غير موجود؛ لأنّ وجوده يقتضي أن يتدخل بألّا يسمح بالشر. في هذا السياق يقول لويس: "إذا كان الله خيراً لخلق جميع الكائنات سعيدة، وبما أننا لسنا كذلك، فهذا يعني أنّ الرب يفتقر للطيبة أو للقدرة، أو لكلتيهما، لا أدري."

يناقش فرويد فكرة وجود الله من زاوية النتيجة المتحققة/ السائدة على الأرض، أي من زاوية أفعال الله، إذا كانت هي أفعال الله حقاً

الجميل أنّ لويس يعقب على آرائه بعبارة "لا أدري" في إشارة إلى جهل حميد في مسائل لا يمكن التيقن منها. بمثل هذه اللغة الحذرة يقدم لويس صيغة سائدة في جميع الأديان عن "الحكمة الإلهية" الخفية عن البشر. يقول: "ماذا لو أنّ الله أراد كمالنا من خلال تعريضنا للمعاناة! فدفعنا لندرك أنّ السعادة الحقيقية والأبدية لن تتحقق إلا من خلاله. إن كانت المتعة هي همسته (أي ما يخفيه) فالألم هو ما يعلنه!"، يردّ فرويد: "نحن نتكلم لغتين مختلفتين، ما من قاعدة مشتركة بيننا؛ أنت تؤمن بالوحي، أمّا أنا فأؤمن بالعلم وسلطة المنطق." لكن رغم هذا التباين لا ينتهي الحوار، عند هذه المسألة، بتأكيد أيٍّ من وجهتي النظر.

التواضع المعرفي

يتمتع فرويد بشجاعة الاعتراف، وكذلك يفعل لويس بتحفيز من أسئلة فرويد. يذهب فرويد إلى حد اعترافه بتناقضه؛ فهو في الأخير بشر من لحم ودم، يؤثر ويتأثر. يقول له لويس: "أنت شخص متناقض"، يجيب فرويد: "أنا إنسان، وبحكم طبيعتي هذه فأنا معيب، غير كامل، كما أنّي تضررت بشدة، ولا شك أنني ألحق الضرر بالآخرين."

يقدم فرويد نصيحته للبشرية بكلمة واحدة تأخذ صيغة الأمر: "انضجوا"، أمّا نصيحة لويس فهي "استيقظوا" (نجد هذه الكلمة تتردد في أفلام تيرنس مالك مثل فيلم "فارس الكؤوس") والنصيحتان تكملان بعضهما بعضاً؛ فالنضج يقظة والاستيقاظ شكل آخر للنضج. أتت نصيحة فرويد في سياق حديثه عن الخوف من الظلام والوحدة كأصل للدين: "يبدو أننا لم ننضج كفاية لنواجه رهبة وحدتنا في الظلام، فأتى الدين ليقدّم العزاء. لديّ كلمة واحدة للإنسانية هي: انضجوا".

أفكار عديدة يطرحها الحوار بشكل خاطف؛ بحكم أنّها أفكار فلسفية كُتبت فيها مجلدات، ومن العسير تمحيص هذه الأفكار في حوارات قصيرة هدفها عرض أهمّ ما يمكن الحديث عنه في هذا الشأن. من تلك الأفكار التي عرضها الفيلم مسألة الخير والشر. يقول فرويد للويس: "إلهك الذي خلق الخير والشر على حد سواء سمح للشيطان أن يعيش ليزهو بنفسه! كان الأجدر به، منطقياً، أن يقتله، أليس كذلك؟!"

يردّ لويس: الله منح الشيطان حرية الاختيار، وهو ما جعل اختيار الخير ممكناً؛ فعالم مليء بمخلوقات منزوعة الإرادة هو عالم مناسب لآلات. البشر هم الذين يسببون الشر، وليس الله: هم الذين بنوا السجون ومارسوا العبودية وصنعوا القنابل... معاناة البشر تقع على عاتقهم وحدهم." يردّ فرويد: "إذن، هذا هو تبريرك للألم والمعاناة! أتعني أنّي جلبت لنفسي السرطان؟"، يردّ لويس: "لا أدري، ولن أدّعي أنني أعرف."

أفكار عديدة يطرحها الحوار بشكل خاطف؛ بحكم أنّها أفكار فلسفية كُتبت فيها مجلدات، ومن العسير تمحيص هذه الأفكار في حوارات قصيرة هدفها عرض أهمّ ما يمكن الحديث عنه في هذا الشأن

ينتهي الحوار بتواضع الطرفين أمام اللغز الكبير. يقول فرويد: "فيمَ كنّا نفكر! إنّه لضرب من الجنون إن ظننا أننا قادران على حلّ أعظم الألغاز على مرّ الزمن." يردّ لويس: "الجنون الأكبر هو الامتناع عن التفكير في الأمر. إنّ فكرتي عن الإله متغيرة على الدوام؛ إذ لا ينفك عن تدميرها مراراً وتكراراً، لكنّني ما زلت أشعر أنّ العالم مليء بآثاره. إنّه في كل مكان، ويصعب فهم المغزى من اختبائه! تكمن المكابدة في استمرار المحاولة، إلى أن تحلّ عليك اليقظة." يقول له فرويد: "أحدنا هو الأحمق، إن كنتَ محقاً فستُعَيِّرُني بذلك في الآخرة، أمّا إذا أصبتُ أنا، فسيبقى الأمر بيننا، لن يعرف بذلك أحد."

ما بين سطور الكلمات وما وراء الصورة

تشي ملامح وجه لويس وردوده بأنّه اختار الإيمان هرباً من معاناة أخرى ماثلة في الشك. إعمال العقل مهمة شاقة نرى آثارها على وجه فرويد. يخلص من تحليله للويس بقوله: "أنت تدرك أنّ الله غير موجود لكنك تعمل جاهداً لإخفاء شكوكك؛ لأنك في صميم كيانك جبان." يعترف فرويد بأنّه جبان؛ كحالنا جميعاً: "جميعنا نخاف وجبناء أمام الموت." لكنّه ليس جباناً فيما يتعلق بالتعبير عن شكوكه العقائدية أو بالرجوع عنها. 

يتمتع فرويد بشجاعة الاعتراف، وكذلك يفعل لويس بتحفيز من أسئلة فرويد

في المقابل، يتوقف لويس عند زلة لسان فرويد حين قال: "شكراً لله؛ لأنني لن أعيش طويلاً لأرى نسخة أخرى من هتلر." والهفوات، أو زلات اللسان، أو "منزلق فرويد"، هي مصطلح أساسي في التحيل النفسي عند فرويد. تكشف الهفوة اللغوية عن رغبة غير واعية. عن هذا الجانب المضمر في النفس الذي تفضحه اللغة أتذكر تساؤل دوستويفسكي: "لماذا هناك أشياء نقولها لجميع الناس وأشياء نقولها للخاصة، وأشياء لا نقولها لأحد؟"، والإجابة نجدها عند شكسبير في قوله: "لأنّ الجزء المحذوف من كلماتنا والأحلام التي لا نخبر عنها أحداً هي نحن في الحقيقة." فرويد نفسه يعبّر عن المعنى نفسه في اقتباس، من خارج الفيلم: "الجزء من مشاعرنا التي نحاول إخفاءها هو الجزء الحقيقي منّا."

ينتهي الحوار، الذي استمر أكثر من ساعة ونصف، بابتسامة لويس، ابتسامة رضا تشي براحة ضمير، ابتسامة اطمئنان نراها على وجوه المؤمنين، ليس لكونها حقيقة ولكن للراحة التي تولدها بعيداً عن إجهاد العقل. وفي المشاهد الأخيرة نرى نوراً ساطعاً يُعمي بصر لويس، ثم نرى القطار وهو يمضي في طريق بمسارين مختلفين، وفي الأفق المظلم ثمة ضوء، ويمكن أن نرى في كلا الضوءين رمزاً للأمل.

كان فرويد قد حذّر لويس، مازحاً في بداية اللقاء، ألّا يجلس على أريكة "التحول"، (الأريكة التي يستلقي عليها مرضاه) في إشارة إلى أنّ جلوسه عليها سيجعله يغير آراءه. تلك الأريكة التي سيتمدد عليها فرويد نفسه في الجزء الأخير من الفيلم ليتبادلا الدورين، فيقوم لويس بدور المحلل النفسي، خلافاً لما كان عليه الحال في بداية لقائهما. يأخذ التحليل صيغة الاستجواب، في سياق الحديث عن علاقة فرويد بابنته آنا، مع ذلك فتبادل المكانين/ الدورين لا يخلو من تلميح إلى تغيير فرويد لرأيه. نرى أمارات السيطرة على وجه لويس وهو يلاحق فرويد بأسئلته عن عقدة آنا الناتجة عن ارتباط أبوي غير صحي، بينما ترتسم على وجه فرويد ملامح الاستسلام. تبادل المكانين والدورين سيذكرنا بما قاله فرويد لآنا في سياق حديثه عن آينشتاين وتعريفه للجنون بأنّه "تكرار الفعل نفسه وتوقع نتائج مختلفة"، لتستنتج آنا من قوله أنّ "الدليل الدامغ على الحكمة هو قابلية تغيير الرأي." لكن ليست هذه هي رسالة الفيلم الأخيرة في حوار أريد به أن يكون معركة كرّ وفر، أو كُرة معرفية فلسفية يتقاذفها طرفان يتخذان من تفكيرهما الذاتي ومن الشك مرجعية أساسية.

تبدو الكلمة الأخيرة للويس، هذا في الفيلم، أمّا في الواقع فالكلمة الأخيرة لفرويد، حين قرر الانتحار ليتخلص من عذاب السرطان

ينهي لويس استجوابه لفرويد أو تحليله له بأن يحيله إلى ملاحظة كان فرويد قد أبداها في بداية اللقاء من أنّ "التحليل النفسي جنسي بطبيعته، وما يقوله الناس أقلّ أهمية ممّا يضمرونه أو ممّا لا يستطيعون قوله." والمعنى أنّ ما لم يقله فرويد، ولويس، أهم بكثير ممّا قالاه. تلك الأقوال المضمرة بين سطور الكلمات وما وراء الصورة.

ما يقال بين سطور الحوار أهم من الحوار نفسه. كان فرويد قد عبّر عن استيائه من سماع الفواصل الموسيقية بين نشرات الأخبار؛ لأنّه يرفض التلاعب به؛ فجميع أنواع الموسيقى تذكره بموسيقى الكنيسة، أو لأنّه يخشى الشعور بها كما قال له لويس. لكن في نهاية الفيلم نرى فرويد وهو يستمع إلى موسيقى تعزفها أوركسترا (BBC) السيمفونية، في إشارة إلى تصالح فرويد مع الموسيقى/ الإيمان. 

تبدو الكلمة الأخيرة للويس، هذا في الفيلم، أمّا في الواقع فالكلمة الأخيرة لفرويد، حين قرر الانتحار ليتخلص من عذاب السرطان. وثمة كلمة أخيرة أهم يزرعها فرويد في تعليقه على كتاب لويس: "من خطأ إلى خطأ، يكتشف المرء الحقيقة كاملة." في دلالة على أنّ الإيمان والإلحاد ليسا معطى أو منجزاً نهائياً ولا يمكن بالتالي استعارته أو تملكه أو وراثته من الآخرين أو تعلمه من الكتب، وإنّما هما رحلة طويلة تستغرق حياة المرء بكاملها. وكأنّي به يقول: ليس النهاية هي المهمة بل الرحلة نفسها هي الأهم.

والكلمة الأخيرة نستقيها أيضاً من عنوان الفيلم "جلسة فرويد الأخيرة"، لا جلسة لويس. ومن خلال هذه الجلسة أو المحاضرة الأخيرة يعلمنا الفيلم درساً عن فن إدارة الاختلاف وأخلاقياته، عن اليقين في حالته الفردية، لا الجماعية. عن الدين والشك كوجهة نظر لا كإيديولوجيا تتسلح بالعنف بدلاً عن الحوار؛ حوار يتخلله المرح والسخرية وتقديم يد المساعدة والحنان واللطف، والبعد عن لغة الكراهية، والرغبة في المعرفة لا في المقارعة.

في الحديث المقتضب الذي دار بين لويس وآنا يتشاركان إلقاء مقطع من قصيدة "لا يقهر" (invictus) لويليام إرنست هينلي التي تتحدث عن فخر المرء بما حققه رغم تعرضه لصعوبات أو خسائر كبيرة:

"في قبضة الظروف الوحشية، ما جفلتُ لحظة ولا بكيت. وتحتَ هراوات القدر تلطخ رأسي بالدم، لكنّه لم ينحنِ. ووراء هذا المكان الحافل بالغضب والدموع، ما من شيء يلوح سوى رهبة الظل، ورغم ذلك فإنّ وعيد السنين وتهديداتها تجدني وستجدني غير خائف." ومن قرأ قصيدة هينلي يعرف أنّه بدأها بحمد "الآلهة أيّاً تكن" على روحه التي لا تُقهر، وأنهى القصيدة بقوله: "لا يهم مدى ضيق البوابة، ولا كم هي القائمة مشحونة بالعقوبات؛ فأنا سيد قدري ورُبّان روحي." بهذا تحيل القصيدة ومضمون الفيلم إلى المسؤولية الفردية في قضية الإيمان التي لا يمكنها إلا أن تكون فردية، وإلا لتحول الإيمان إلى إيديولوجيات مفرقة وهويات قاتلة.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية