كيف تحايل التدين الشعبي على أجندة الإسلام السياسي؟

كيف تحايل التدين الشعبي على أجندة الإسلام السياسي؟

كيف تحايل التدين الشعبي على أجندة الإسلام السياسي؟


13/04/2024

حين رغِبَ أبو العلا عفيفي في كتابة مؤلف عن التصوف، قدّمه تحت عنوان: "الثورة الروحية في الإسلام"، ويُعدّ هذا العنوان معبّراً عن الطبيعة التي جاء بها التصوف؛ كرد فعل على حالة الجمود التي حصرت الدين في المذاهب الفقهية، ممّا أعطى الدين طابعاً شكلانيّاً يركز على المناسك وكيفية أدائها، والثواب والعقاب والالتزام بالصراط دون النظر إلى الطبائع البشرية المختلفة؛ ومن ثمّ خرج التصوف على الجمود الفقهي.

من جهته، خرج التدين الشعبي استجابة للواقع، بعقل متحايل يعمل على إرضاء جزئه الروحي وعدم التخلي عن حاجاته الإنسانية التي لا يمكنه التخلي عنها بأيّ حال من الأحوال. 

على الضفة الأخرى، جاء الإسلام السياسي في نشأته محاولاً تقييد المجتمع برؤيته السياسية للنصوص الفقهية، والزعم بامتلاك الدعوة السليمة التي قدّمها النبي، وحملها من بعده الصحابة والتابعون، فعدة الإسلام السياسي التي يبني عليها مشروعيته، ويحتمي خلفها ويصوغ أهدافه من خلال مفرداتها هي المدونة التراثية؛ بمكوناتها من الفقه والتفسير والمعارف المنجزة حول الخطاب القرآني، لذا يكون هو الأكثر حرصاً الزعم بأنّها تمثل طبيعة الدين وجوهره، متغاضياً عن الطبيعة الروحية للدين.

التدين الشعبي بوصفه تعبيراً عن المجتمع

حسب نشأة التدين الشعبي؛ فإنّه خرج بدافع من الاحتياجات الإنسانية، تمرداً على سطوة رجال الدين، باختيار نمط يعبّر عن احتياجات الإنسان الروحية، ولا يخضعه لآليات التكفير التي يملكها حراس النصوص العقائدية. وبهذه النشأة يُعدّ التدين الشعبي نمطاً من أنماط تعبير المجتمع عن ذاته، وتحايله على السياقات الدينية، وإنتاجه لنسقه التديني الذي يناسبه؛ ومن ثم يُعدّ التدين الشعبي أكثر ديناميكية من غيره من أنماط التدين وأكثرها قدرة على التعبير عن المجتمع، ممّا يجعله يحمل طابعاً اجتماعياً يختلف من منطقة إلى أخرى، ومن شريحة اجتماعية إلى أخرى. 

الإسلام السياسي لا يقبل المجتمع بتكويناته المتنوعة، ويطالبه بالامتثال لمقترحه السياسي الذي يعطيه طابعاً دينياً، وعدّته في هذه الناحية اتهام المجتمع بالجاهلية والكفر

 

ويفهم التدين الشعبي التنوع واختلاف أنماط الإشباع الروحي، حيث يحكمه في الأخير الواقع السياسي والاجتماعي، وكذا الغرائز الطبيعية، ويتحايل على نمطي التدين الرسمي والأصولي، ويعمل على سد احتياجاته بتقديم نسقه التديني المخالف لهما؛ في النظرة إلى الدين بوصفه مجموعة من الإرشادات الفقهية والنصوص المثالية، ويقدّمه بوصفه إشباعاً روحياً يحتاج إليه كل فرد، ولا ينكر الحق لكل فرد في أن يملك نمطه الخاص في هذا الإشباع، فكل فرد له رؤيته الخاصة لله، حتى داخل الأنساق التدينية الأصولية والرسمية.

ويعبّر التدين الشعبي عن تحايل العوام وصولاً إلى الإشباع الروحي، ورفض حصر الدين في النصوص، والتمرد على استنطاق النصوص استجابة لرغبات رجال الدين والسياسة. وفي الوقت نفسه عمل على سد احتياجات الإنسان التي يعجز عنها، بمنطق التحايل أيضاً، وذلك عبر الكرامات والتبرك. فالأنثروبولوجيون المعاصرون يدافعون عن قيمة الأسطورة والسحر والخرافة بالنسبة إلى المجتمعات التي أفرزتها، بداعي تكيف العقل مع أزماته، ومحاولة تجاوز التوتر بين الإنسان وبين الطبيعة من جهة، وبين عجزه وممكناته من جهة أخرى، ممّا نتج عنه رفع التوتر بين الإنسان وبين الطبيعة، وسد عجزه أيضاً، هكذا كانت الكرامات والتبرك بالأولياء حيلة تعمل على إرضاء عجز الفقير الذي لا يستطيع الذهاب إلى الطبيب، بالتبرك بولي يظن فيه الخير والوساطة لله، وأملاً لمن لا أمل له وتقطعت به السبل؛ ليبحث عن عون يتجاوز إطار الممكنات عبر هذا التبرك والدعاء. 

الإسلام السياسي بوصفه دخيلاً على المجتمع

إذا كان التدين الشعبي خرج من بنية الاجتماع؛ بوصفه تكيفاً بنائيّاً يعمل على المواءمة بين الواقع المتغير والحاجات الإنسانية والنص الديني،، فإنّ الإسلام السياسي جاء يعلن أنّه ينطلق من هذه النصوص، ويطالب المجتمعات الإسلامية بالمثول على الرغم من عجزها عن أن تكون غير شاهد تاريخي على مراحل إنتاجها، وحاجة الإسلام السياسي إلى هذه النصوص تعبّر عن عدم الكفاية لمشروعيته، التي جعلته يدعمها بهذه النصوص لما لها من قدسية داخل الأنساق الاجتماعية، وهو أمر معهود تاريخياً منذ رفعت المصاحف على أسنة الرماح في معركة صفين الشهيرة بنصيحة من عمرو بن العاص. 

وعلى خلاف التدين الشعبي الذي يحترم الاختلاف، يأخذ الإسلام السياسي على عاتقه مهمة توحيد المجتمع ونفي الاختلاف، وقيادته نحو هدف يحدده هو، ويقدّمه بوصفه طريق إنقاذ المسلمين في الحياة الدنيا والآخرة. فالإسلام السياسي لا يقبل المجتمع بتكويناته المتنوعة، ويطالبه بالامتثال لمقترحه السياسي الذي يعطيه طابعاً دينياً، وعدّته في هذه الناحية اتهام المجتمع بالجاهلية والكفر؛ ومن ثمّ الحاجة إلى الهداية التي تجعله يقدّم مشروعه بوصفه خطة إنقاذ من الهلاك، لا بدّ أن يخضع لها الجميع، وفي الوقت نفسه لا تحمل هذه الخطة في حساباتها النقص الإنساني الطبيعي، بل تحمل التكامل الإلهي بوصفها تعبّر عن المراد الإلهي من البشر، وذلك لانطلاقها من النصوص التي يقدمها في صورة مطابقة للدين.

كان التدين الشعبي أوّل وأكبر عقبة واجهت الإسلام السياسي؛ ومن ثم عمل على اختراقه، خاصة أنّه متغلغل داخل السياقات الاجتماعية بوصفه النمط التديني الذي أنتجته الجماعة وارتضته لنفسها، ولا يملك الإسلام السياسي نفيه أو تكفيره

 

ويعرف الإسلام السياسي التحايل، ولكن بشكل يختلف عن التدين الشعبي، حيث يمثل التحايل لدى الإسلام السياسي نمطاً من الانتقاء والتأويل، أو بالأحرى التلوين للنصوص التي يعلن أنّه ينطلق منها، ليتحايل على الموقف السياسي للصعود إلى السلطة، ويعرف أيضاً أنماط التحايل الاجتماعي التي لعبها في مراحل غياب الدولة، حين حاول لعب دورها من خلال تقديم الخدمات بوصفها مساعدات اجتماعية تحت غطاء ديني، ومن ثمّ استثمرها لبناء شعبية سياسية له؛ تمكنه من خوض المعارك السياسية والوصول إلى المقاعد النيابية، وربما لإدارة الدولة، مثلما حدث إبّان انتفاضات الربيع العربي، بيد أنّ نمط التحايل هذا يكون على المجتمع لا منه، فهو يعمل على استغلال احتياجات المجتمع لأغراضه السياسية، على خلاف التدين الشعبي الذي جاء متحايلاً على طبيعة الحياة، محاولاً إيجاد سبيل يرضي حاجاته الإنسانية الواقعية والروحية. 

محاولات اختراق الإسلام السياسي للتدين الشعبي

الإسلام السياسي، بوصفه دخيلاً يفرض نفسه على المجتمع، يعمل على اختراق أبنيته الاجتماعية، ويتضح هذا الاختراق في الجمعيات الأهلية التي أنشأها، لتقوم بدور خدمي بديلاً عن الدولة التي غابت عن هذه الناحية، وتمرير مشروعه من خلال البنية الدينية، بوصفه يمثل الدين ومراد الله.

كان التدين الشعبي أوّل وأكبر عقبة واجهت الإسلام السياسي؛ ومن ثم عمل على اختراقه، خاصة أنّه متغلغل داخل السياقات الاجتماعية بوصفه النمط التديني الذي أنتجته الجماعة وارتضته لنفسها، ولا يملك الإسلام السياسي نفيه أو تكفيره، وإلّا خسر قاعدة عريضة من شعبيته التي يعمل على بنائها. وفي ظل غياب الدولة وحاجة الأفراد والمجتمع للخدمات التي يقدمها الإسلام السياسي، أقام التدين الشعبي ارتباطاً نفعياً مع الإسلام السياسي، بيد أنّ التدين الشعبي كان أذكى من أن يقع في فخ الاستقطاب، وذلك لما رآه من ازدواجية قيمية حملها الإسلام السياسي في مشاريعه الخدمية، حيث يقدم المساعدات تحت مسميات دينية كالصدقات والزكاة، وفي اليوم التالي يطالب المنتفعين بالإدلاء بأصواتهم لمرشحيه في المجالس النيابية أو المناصب السياسية، فكان ينتفع بهذه الخدمات متحايلاً على احتياجاته اليومية، ولكنّه لم يقبل يوماً أن يمثلهم أو يتم الخلط بينها. 

وطبيعة التدين الشعبي المرنة تجعله يتحايل على احتياجاته، ممّا مكنه من امتصاص الإسلام السياسي والانتفاع منه وتجاوزه، والمساهمة في لفظه اجتماعياً، فالتدين الشعبي يدرك جيداً نظرة الإسلام السياسي والأصولي له؛ بوصفه متساهلاً في أمور العقيدة، وأحياناً مشركاً لتبرّكه بالأولياء، وهو لا يقبل التنازل عن التبرك بالأولياء أبداً، فبالرغم من التحريم الأصولي للتبرك بالأولياء جهاراً بشكل شبه دائم، إلّا أنّه يظل آلية أساسية يتميز بها التدين الشعبي، ربما لأنّ هذه الآلية تمثل بالنسبة إليه تعويضاً كبيراً عن حالة العجز التي يعيشها، وحين يحرمه التيار الأصولي والإسلام السياسي منها، لا يقدم البديل المكافئ لها، وتُعدّ هذه نقطة خلاف وخصومة شبه أبدية يدركها التدين الشعبي جيداً، ويدرك الاستغلال السياسي له من الإسلام السياسي. والتدين الشعبي بوصفه نمطاً متحايلاً على الواقع والنصوص الدينية، يعمل على إشباع وإرضاء حاجاته من بين هذه الصراعات التي تعمل على استغلاله، فلا يمنع التعامل مع الإسلام السياسي، وربما قبوله في سياق تحكمه المصلحة والعودة إلى لفظه مرة أخرى.

مواضيع ذات صلة:

لماذا أصبح الإسلام السياسي في عداء مع التدين الشعبي؟

التدين الشعبي وأهازيج البحث عن الخلاص

هكذا استثمر "الإخوان" بالتدين الشعبي لدى فلاحي مصر



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية