كيف نقرأ مستقبل تناقضات تركيا بين واشنطن وموسكو؟

كيف نقرأ مستقبل تناقضات تركيا بين واشنطن وموسكو؟


10/11/2021

ربما لا تثير المواقف السياسية والعسكرية للقيادة التركية الكثير من دهشة المتابعين، في ظل "براغماتية" غير معهودة يمارسها الرئيس أردوغان، وهي التي تفسّر تلك الانتقالات والتحولات السريعة من النقيض إلى نقيضه بين عشية وضحاها، بما في ذلك علاقاته الدولية مع أوروبا وأمريكا، وعنوانها عضوية تركيا في حلف الناتو، وعلاقاته مع إسرائيل؛ ما بين خطاب إعلامي يهاجمها، وعلاقات دبلوماسية واستخبارية وتبادل تجاري معها، بالتزامن مع علاقات غير ثابتة مع الدول العربية والإسلامية، وتحوّلات عميقة في العلاقة مع الدول الإقليمية الفاعلة في المنطقة "إيران والسعودية ومصر".

اقرأ أيضاً: روسيا وأفغانستان: يصبح الشر خيراً عند مواجهة الأسوأ

ورغم ذلك، فإنّ قدرة تركيا على الاحتفاظ بعلاقات استراتيجية مع الولايات المتحدة وروسيا باستثمار تناقضاتهما تجاه التطورات في مناطق مختلفة تبدو أمام امتحان عسير أكثر من أيّ وقت مضى، لا سيّما أنّ هناك كتلة وازنة في الدولة الأمريكية العميقة، "من جمهوريين وديمقراطيين"، لم تغادر مربع أنّ القيادة التركية لا تعدو أكثر من حليف متمرّد ذهب بعيداً في علاقاته مع روسيا والصين، وتحديداً صفقة صواريخ "إس 400" الروسية، التي تشكّل نقطة مفصلية في الخلاف مع تركيا، بالإضافة إلى سياسات تركيا التي تندرج تحت عناوين إعادة الخلافة العثمانية؛ وما يتبع ذلك من سياسات في أوروبا والبلقان تنتمي إلى قرون مضت، في إعادة إنتاج الخلافة العثمانية، وهو ما يتناقض مع التزاماتها تجاه عضويتها في حلف الناتو وتقاربها مع أوروبا.

القيادة التركية، خلال الشهور الأخيرة، قدّمت العديد من الرسائل المتناقضة باتجاه واشنطن وموسكو، فقد خفضت مستوى التصعيد في شرق المتوسط بخلافها مع اليونان ومناطق التنقيب عن النفط والغاز في المتوسط، وبالتزامن تراجع في ليبيا بعد نكسة النهضة في تونس وخسارة السودان، وقد ذهبت باتجاه تبريد ملفاتها الساخنة مع الرياض وأبو ظبي والقاهرة، بل انتقلت إلى فتح أبواب تعاون جديدة تحت عناوين استثمارية واقتصادية، وبالتزامن شهد تدخلها في سوريا انخفاضاً في مستوى العمليات العسكرية والمواجهات في جبهتي الأكراد في شمال سوريا، وفي إدلب.

تجليات تناقض السياسات التركية تبدو أكثر وضوحاً ما بين القمتين اللتين عقدهما أردوغان مع بوتين، وبعدها مع بايدن، وكان القاسم المشترك فيها شكوك عميقة لدى واشنطن وموسكو بسياسات وتعهدات أردوغان

 

هذه التهدئة التي قادتها تركيا مع القوى الدولية ومع القوى الإقليمية، سرعان ما تراجعت عنها تركيا، فعاد التصعيد شرق المتوسط مع اليونان، وإن كان بمستوى أقلّ ممّا كان عليه سابقاً، وتواصل تعامل أنقرة مع الملف الليبي باتجاهات ترسم صورة انتظارها فيما ستؤول إليه الأوضاع هناك، بما في ذلك عنوانها الرئيسي إخراج المرتزقة، والتأكيد على دورها ومكاسبها في ليبيا، وفي الوقت الذي لم تحقق فيه علاقات تركيا تقدّماً مع العواصم العربية "القاهرة والرياض وأبو ظبي"، باستثناء التهدئة، وخاصة على صعيد تخفيض مستوى الحملات الإعلامية، واتخاذ إجراءات ضد الإخوان المسلمين، إلا أنها ما تزال الدولة غير المقبولة أوروبياً، والمشكوك في سياساتها والتزامها بتعهداتها من قبل واشنطن وموسكو.

اقرأ أيضاً: استئناف جولات اللجنة الدستورية السورية.. هل ضغطت روسيا على الأسد؟

تجليات تناقض السياسات التركية تبدو أكثر وضوحاً ما بين القمتين اللتين عقدهما الرئيس أردوغان مع الرئيس بوتين، وبعدها القمة التي عقدها مع الرئيس بايدن، وكان القاسم المشترك فيها شكوك عميقة لدى واشنطن وموسكو بسياسات وتعهدات الرئيس أردوغان، رغم محاولات الطرفين استثمار تركيا بوصفها ورقة في نزاعاتهما، وهو ما تدركه القيادة وتحاول استثماره، منذ التدخل الروسي في سوريا عام 2015.

في لقاء القمة مع بوتين، لم يستطع الرئيس أردوغان الحصول على موافقة موسكو على مقاربته "حرب تركية ضد الأكراد في شمال سوريا، مقابل تنازلات تقدّمها أنقرة في إدلب"، وكانت العبارات الدبلوماسية حول استمرار التعاون في المجال العسكري وفي أذربيجان وليبيا عبارات "مطّاطة" تعكس عمق تلك الشكوك، أمّا في القمة مع الرئيس بايدن، فقد أرسى الرئيس بايدن قواعد وحدود العلاقة مع تركيا، وهي عضويتها في الأطلسي، ودورها المطلوب في إطار ذلك بأفغانستان، وصفقة الصواريخ الروسية المرفوضة، وإمكانية موافقة أمريكا على صفقة طائرات "إف 16" بدلاً من صفقة "إف 35"، وضرورة احترام حقوق الإنسان...إلخ.

قدرة تركيا على استمرار "اللعب" بين متطلبات واشنطن وموسكو أصبحت موضع تساؤلات، ويبدو أنّ واشنطن تمتلك إمكانيات تأثير فيها أكبر ممّا تملكه موسكو، وهو ما تدركه أنقرة جيداً

لقد كان لافتاً للنظر قبيل قمة أردوغان ـ بايدن محاولة الرئيس أردوغان تقديم تنازلات لبايدن عبر العديد من المحطات؛ من بينها: التراجع عن طرد سفراء أمريكا والدول الأوروبية، والإعلان عن مشاركة المسيّرات التركية "بيرقدار" إلى جانب الجيش الأوكراني ضد روسيا، وتصدّي تركيا للصين في مجلس الأمن، على خلفية قضية الأقلية المسلمة في الصين "الإيغور".

اليوم يشهد الشمال السوري عمليات قتالية بين الأكراد "قسد"، وبين تركيا والفصائل السورية المسلحة الموالية لها على عدة محاور، وهو ما يشير إلى احتمالات حصول تركيا على ضوء أمريكي أخضر، وهو ما يفسّر الدعم والوساطات الروسية بين قسد والجيش السوري، وإدراك موسكو أنّ تركيا أصبحت أكثر ميلاً إلى واشنطن، وأنها أداة أمريكا لمواجهة مشروعها في سوريا، وهو ما يتوقع معه أن تذهب موسكو إلى مواجهة جديدة مع تركيا والفصائل الجهادية في إدلب.

اقرأ أيضاً: روسيا تحبط مخططاً إرهابياً للنازيين الجدد... تفاصيل

وفي الخلاصة؛ فإنّ قدرة تركيا على استمرار "اللعب" بين متطلبات واشنطن وموسكو أصبحت موضع تساؤلات، يبدو أنّ مرجعياتها مستقبل الأوضاع الداخلية في تركيا ، سواء على صعيد مستقبل حزب العدالة في الحكم، أو الأوضاع الاقتصادية، التي يبدو أنّ واشنطن تمتلك إمكانيات تأثير فيها أكبر ممّا تملكه موسكو، وهو ما تدركه أنقرة جيداً.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية