روسيا وأفغانستان: يصبح الشر خيراً عند مواجهة الأسوأ

روسيا وأفغانستان: يصبح الشر خيراً عند مواجهة الأسوأ


كاتب ومترجم جزائري
02/11/2021

ترجمة: مدني قصري

مرّت سنوات عديدة منذ أن أقامت موسكو اتصالات مع طالبان في أفغانستان، منذ احتلالهم لكابول، وتكثفت هذه العلاقات؛ إذ إنّ هدف روسيا هو الاستفادة من الانسحاب الأمريكي، ومنع البلاد من أن تصبح قاعدة خلفية للإرهاب، لكن من دون الكثير من الأوهام.

في 3 تشرين الأول (أكتوبر) 2021، أدّى انفجار في كابول إلى مقتل ما لا يقل عن 19 أفغانياً وإصابة أكثر من 30 آخرين، وأعلن تنظيم الدولة الإسلامية في خراسان، أحد فروع التنظيم الإرهابي لداعش، مسؤوليته عن الهجوم على المسجد.

كانت موسكو من بين أوّل من دان الهجوم الوحشي، وتحرّت الأمر مع طالبان، التي اكتفت بضمان ألا تستهدف أيّة هجمات من أراضيها دولاً أخرى، وأصدر وزير الخارجية الروسي بياناً شدّد فيه على "ضرورة مواصلة الجهود للقضاء على الإرهاب في أفغانستان".

فهذا البيان، مهما كان موجزاً​​، كافٍ لتحديد أولويات روسيا فيما يتعلق بأفغانستان ونظام طالبان. في روسيا لا يتم تصنيف حركة طالبان كـ "منظمة إرهابية" منذ أوائل العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين، وكانت طالبان أيضاً الكيان الأجنبي الوحيد الذي اعترف بجمهورية إيشكيريا الشيشانية المُعلنة من جانب واحد، والتي كانت تمهد لدولة انفصالية حاربتها موسكو لعدة سنوات، إلى أن أنهى الرئيس فلاديمير بوتين الانفصال. لكن، كما يقال، يصبح الشر خيراً عند مواجهة الأسوأ: عندما تقدّم تنظيم داعش على الجماعات الإرهابية الأخرى ليصبح التهديد رقم 1، وأظهر نيّته اللجوء إلى العنف الجماعي لتحقيق أهدافها المتطرفة العالمية، جعلت موسكو تنظيم داعش الهدف الأساسي في حربها ضدّ الإرهاب. في الوقت نفسه، لم يعد يُنظر إلى طالبان إلا كظاهرة محصورة.

في الوقت الراهن تبنّت روسيا موقف الانتظار والترقب؛ فهي منخرطة مع أصحاب المصلحة الرئيسين في القضية الأفغانية، وتؤكد على الحاجة إلى تعاون إقليمي أكبر

حتى لو كانت الحركة موضع انتقادات كثيرة في موسكو، حيث يرى عدد قليل جداً قواعدها الأيديولوجية من منظور إيجابي، فإنّ عملية صنع القرار في روسيا تعتمد في الوقت الحالي على فكرة أنهم يهدّدون الأمن الروسي بدرجة أقل ممّا يهدّده داعش؛ نظراً لعدم وجود حلّ عسكري لقضية طالبان في موسكو، وبالنظر إلى أنّ اللاعبين الرئيسين الآخرين، بما في ذلك الصين والولايات المتحدة، قد تبنوا لغة طالبان، يعتقد كبار المسؤولين السياسيين الروس أنّه لا ينبغي لهم أن يظلوا بعيدين عن المسرح إذا أرادوا أن يحافظوا على أمن بلادهم بأفضل الوسائل الممكنة.

رسم خطوط حمراء

حتى قبل سقوط كابول، استضافت موسكو، في 9 تموز (يوليو) 2021، وفداً من "الجناح السياسي" لطالبان، خلال المناقشات، حدّد المبعوث الروسي الخاص لأفغانستان، زامير كابولوف، أربعة مواضيع انشغالات رئيسة تهم موسكو فيما يتعلق بالوضع في أفغانستان: مخاطر انتقال عدوى عدم الاستقرار المحتملة من أفغانستان إلى آسيا، التهديد الذي يمكن أن يشكّله داعش لروسيا وحلفائها، انطلاقاً من الأراضي الأفغانية، الزيادة المحتملة في تهريب المخدرات إلى روسيا، والمخاطر على أمن البعثات الدبلوماسية الروسية.

اقرأ أيضاً: لن تصبح أفغانستان مرة أخرى ملاذاً آمناً للإرهابيين

خلال الاجتماع، حاولت طالبان طمأنة محاوريها بشأن هذه النقاط الأربع، ووعدت "بعدم انتهاك حدود دول آسيا الوسطى"، و"منح ضمانات حول أمن البعثات الدبلوماسية والقنصلية الأجنبية في أفغانستان"، كما تعهدت "بالقضاء على إنتاج المخدرات في أفغانستان"،  وأعلن هؤلاء أنّهم "مصمّمون بحزم على إنهاء التهديد الذي يشكله داعش في أفغانستان".

بعد قرابة شهرين من وصولهم إلى السلطة في أفغانستان، يبدو أنّ طالبان يوفون بالتزاماتهم، لكن لا يكاد أيّ شخص في موسكو يأخذ تصريحاتهم على محمل الجدّ، لقد توصل القادة الروس إلى الاعتقاد بأنّ سبب إجراء طالبان لمحادثات خلف الكواليس مع الصينيين والإيرانيين والاتصالات المكوكية مع الروس والأمريكيين هو بهدف تحقيق الاستقرار في بيئتهم الدولية ريثما يوطدون قوتهم ويعززون قوتهم، وضمان شرعية فعلية، بل وحتى الحصول على مساعدات مادية؛ أي أنّ من مصلحة طالبان في الوقت الحالي الوفاء بالتزاماتها، وهو ما يتوافق مع المصالح الروسية في هذه المرحلة.

اقرأ أيضاً: حركة طالبان تحذر من موجات جديدة من النزوح لهذا السبب

في السنوات الأخيرة، تم استذكار الجيش والاقتصاد الروسيين على عدة جبهات، من أوروبا الشرقية والبحر الأسود إلى شرق البحر الأبيض المتوسط ​​والقوقاز، ومع ذكريات الإخفاق السوفياتي التي ما تزال ماثلة بقوة في الأذهان، من الواضح أن أفغانستان تمثل انحرافاً غير ذي نفع في عيون موسكو.

الاستقرار في آسيا الوسطى، وأمن روسيا على أطرافها الجنوبية، ومخاطر توسع الأيديولوجيات المتطرفة، تلك هي الموضوعات التي تهم الرئيس فلاديمير بوتين بشكل عام. هذه هي القضايا التي سيكون دائماً على استعداد لتكريس الوقت والموارد لها، وليُظهِر لها شهيّة سياسية حقيقية. خاصة الآن، بعد أن كان يعتقد أنّ الجيش الروسي لديه وسائل أكثر بكثير مما كان يملك السوفييت، لـ "تَعفين حياة" طالبان، حتى من دون الحاجة حتى إلى التدخل عسكرياً في البلاد؛ مما يعني أنّه، بالنسبة لروسيا، لم تكن محادثات تموز (يوليو) 2021 مع طالبان مجرد تبادل للمخاوف والالتزامات، بقدر ما هي فرصة لوضع خطوط حمراء.

ما فشل في العراق وسوريا نجح في أفغانستان

كثيرون من الناس في روسيا قلقون للغاية من انتصار طالبان، ويرون أنّ نجاح الإسلاميين وإعادة تأسيس الإمارة الإسلامية يرسلان إشارة خطيرة إلى الأشخاص الذين يحملون الأفكار نفسها في جميع أنحاء العالم، "درجات اللون الأخضر الخمسون"، أي الاختلافات السياسية والدينية بين طالبان وداعش، لا تبدو ذات دلالة إلا عند مجموعة محدّدة من الخبراء والأكاديميين، بالنسبة إلى معظم الناس، خاصة الشباب الذين لديهم هُوية إسلامية مبالغ فيها، كما قال الزعيم الصيني دنغ شياو بينغ: "لا يهم لون القط طالما أنه يصطاد الفئران"، على هذا النحو، لا يهم حقاً أن يكون لدى طالبان رؤية للدولة وشعارات، وقاعدة دعم، واتصالات تختلف عن داعش؛ إن ما يهمّ هو أنّهم جسّدوا قصة نجاح.

"ما فشل في العراق وسوريا نجح في أفغانستان"، بالتالي يمكن تكراره؛ لهذا السبب، فمع تواصلها مع طالبان عبر القنوات الدبلوماسية، تجري روسيا مناورات عسكرية مشتركة مع الجنود الطاجيك والأوزبكيين، وتعزز القدرات العسكرية لحلفائها في منظمة معاهدة الأمن الجماعي (CSTO)؛ التي تضمّ: روسيا، وأرمينيا، وبيلاروسيا، وكازاخستان، وقيرغيزستان، وطاجيكستان. تركز هذه التدريبات على محاكاة "الرد المشترك على الهجمات عبر الحدود"، مع تعبئة الدبابات وناقلات الجند المدرعة وطائرات هجومية من طراز Su-25 وطائرات هليكوبتر وأسلحة أخرى.

"ما فشل في العراق وسوريا نجح في أفغانستان"، بالتالي يمكن تكراره؛ لهذا السبب، فمع تواصلها مع طالبان، تجري روسيا مناورات عسكرية مشتركة مع الجنود الطاجيك والأوزبكيين

لا شكّ في أنّ روسيا ليست سعيدة بفكرة وجود إمارة إسلامية على مقربة من حدودها، لكن إذا  ظلّ مشروع طالبان محصوراً على المستوى المحلي، وإذا لم يطمح هؤلاء إلى هدف عالمي، على عكس داعش، وإذا ظلّ تركيزهم على فرض الشريعة الإسلامية في أفغانستان، مهما كان الثمن الذي سيدفعه السكان، ستفكر روسيا عندئذ في إمكانية التعايش معهم، وستبقى أجهزة المخابرات العسكرية الروسية في حالة تأهب لمراقبة الوضع، وسيتعين على وزارة الدفاع تطوير التعاون العسكري مع نظيراتها في آسيا الوسطى، وستظل مصالح الدفاع الفيدرالية (FSB) تترصد بوادر أيّ  تصاعد محتمل للإسلاموية في آسيا الوسطى وروسيا، وسيتم وضع دائرة مكافحة المخدرات الفيدرالية في حالة تأهب قصوى للكشف عن طرق إنتاج الهيروين الجديدة والتدفقات نحو روسيا. لكن، حتى الآن، يبدو أنّ هذا الخيار هو الأفضل في نظر موسكو، التي تراه أفضل من التدخل العسكري دون أهداف سياسية محددة وبتكاليف عالية محتملة، يبقى أن نرى إلى متى سيظل هذا التحليل مقبولاً.

إزالة الهيمنة الأمريكية على النظام العالمي

عند التساؤل حول رهانات الملفّ الأفغاني بالنسبة لروسيا، من المهم أن نأخذ في الاعتبار أنّ الموضوع لا يقتصر على أفغانستان وحدها؛ فالخطاب السائد عند السياسيين والخبراء الروس حول تطور الوضع في هذا البلد يتمحور حول ثلاثة محاور رئيسة؛ فلو تركنا جانباً المخاوف بشأن الأمن في آسيا الوسطى، فإنّ النقاش يهيمن عليه الانتقادُ ضدّ الوجود الأمريكي منذ 20 عاماً في البلاد، وضدّ السلطات الموالية للولايات المتحدة التي قادتها.

يركز المحوران الأوّلان على ما يُنظر إليه على أنّه فشل كامل للولايات المتحدة في بناء جيش أفغاني فعّال، قادر على مقاومة طالبان، تعرضت المحاولة الأمريكية، المسماة "بناء الدولة" لانتقادات شديدة منذ البداية، تعمل روسيا على التأكيد في شبكات الأخبار على أنّ انهيار الدولة الأفغانية ضدّ طالبان هو نتيجة مباشرة للفشل الأمريكي. يتمّ نقل هذا التفسير إلى البلدان، التي، من وجهة نظر روسيا، تعتمد بشكل كبير على الدعم الأمريكي، مثل أوكرانيا أو جورجيا، وقد قدّمت موسكو، في إطار مساعيها لإقناع قادة أو قوى معارضة في البلدان التي تمزقها الصراعات الدائرة حالياً، التحذير التالي: "لن يساعدكم الأمريكيون وحسب، بل قد يزيدون أموركم سوءاً"، الهدف هو جعلهم يغيّرون موقفهم، وإقناعهم بالتعامل مع روسيا، المعترف بها كشريك جاد. بعبارة أخرى، يوفر السيناريو الأفغاني فرصة لتعزيز "نزع أمريكا" عن النظام الدولي.

 

اقرأ أيضاً: طالبان وباكستان: علاقة مضطربة تنخرها الشروخ والمخاوف

في قمة جنيف للتعاون بشأن أفغانستان، في تموز (يوليو) 2021، لم يَعرِض بوتين على جو بايدن، على عكس ما ذكرته الصحافة، وضع المنشآت العسكرية الروسية تحت تصرف القوات الأمريكية؛ بل كان الهدف هو قطع أيّ احتمال لوجود عسكري أمريكي في أراضي حلفاء روسيا، في آسيا الوسطى.

 موسكو مستعدة لضمان تبادل المعلومات مع واشنطن، لكن دون أن يعني ذلك وجود موظفين أمريكيين.

في الوقت الراهن تبنّت روسيا موقف الانتظار والترقب؛ فهي منخرطة مع أصحاب المصلحة الرئيسين في القضية الأفغانية، وتؤكد على الحاجة إلى تعاون إقليمي أكبر، لكنّ إمكانية تدخل الاتحاد الأوروبي بطريقة إيجابية مسألة نادراً ما يتم طرحها.

اقرأ أيضاً: كيف نقرأ عمليات داعش ضد الشيعة في أفغانستان؟

سيتطلب التشكيل الجديد من روسيا تكريس المزيد من الموارد والاهتمام عن كثب بمحيطها المباشر وبالسياسات الداخلية لدول آسيا الوسطى، وأبعد من ذلك، لمنع اشتعال الموقف، يجب تفعيل "إدارة المسؤوليات" مع الدول المتحالفة، وإدارة  دبلوماسية دقيقة مع طالبان، يبدو أنّ هؤلاء على استعداد للتفاوض في الوقت الحالي، لكنّ القول المأثور: "الشهية تأتي مع الأكل" ينطبق على الجماعات الإسلامية، قد يسعى تنظيم طالبان إلى نشر أيديولوجيته والشروع في مغامرات جيوسياسية محسوبة، وقد ترى العديد من القوى الإقليمية، مثل باكستان وتركيا وبعض دول الخليج، أنّ الوضع في أفغانستان فرصة لها لزيادة نفوذها في المنطقة، وحتى خارجها. في السنوات الأخيرة، عزّز التدخلُ الروسي في سوريا ثقلَ موسكو، سواء في المنطقة أو على الصعيد الدولي، وقد تلعب السياسة الروسية في أفغانستان قريباً الدور نفسه.

مصدر الترجمة عن الفرنسية:

orientxxi.info/magazine




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية