مسؤوليّة "التّسفير" في تونس.. مَن يتحملها؟

مسؤوليّة "التّسفير" في تونس

مسؤوليّة "التّسفير" في تونس.. مَن يتحملها؟


28/09/2022

أسامة الرمضاني

اسم المفعول صيغة صرفية رائجة جداً في الخطاب الإعلامي والسياسي في تونس. 

هناك مثلاً عبارة "المعطَّلون عن العمل" التي تُستعمل للحديث عن الأشخاص العاطلين من العمل، وذلك مهما كانت أسباب بطالتهم وظروفها. ما تعنيه ضمنياً هذه العبارة هو أن العاطلين من العمل محرومون من حقهم في العمل نتيجة تقاعس الدولة قبل غيرها وتلكّئها في تشغيلهم، رغم توفر مواطن الشغل. أو هكذا يفترض. 

وهناك "المهمَّشون". وهؤلاء يشتركون مع الفئة الأولى في كونهم أيضاً ضحايا. ولكنهم طائفة أوسع وجدت نفسها خارج دائرة التنمية والتشغيل والتمتع بالمرافق العمومية، نتيجة السياسات الحكومية والتوجهات الاقتصادية غير المنصفة. 

وهناك أيضاً "المفقَّرون"، أي أولئك الذين لم يكونوا أصلاً فقراء، لكن السياسات الخاطئة والممارسات الرأسمالية الجشعة جعلتهم ينزلون إلى أسفل الدرك الاجتماعي. وهؤلاء في نهاية المطاف ضحايا أيضاً ومظلومون. 

أكيد أن هناك ظلماً اجتماعياً تعرضت له مناطق وشرائح من المجتمع أكثر من غيرها على مدى عقود. ولكن الحديث عن العاطلين من العمل والفقراء وكأنهم أناس من دون إرادة أو قدرة على تحسين أوضاعهم أو القيام بمبادرات ذاتية، يكرّس مفاهيم لا يمكن إلا أن تعمّق الأزمة، أزمتهم وأزمة البلاد.   

وهناك كذلك المهاجرون غير الشرعيين الحالمون بالوصول إلى شواطئ أوروبا، الذين يُنظر إليهم على أنهم ضحايا شبكات الإتجار بالبشر التي استغلت فقرهم وبطالتهم، فوضعتهم على متن قوارب متهالكة في مقابل مادي من دون أي ضمانات للوصول إلى اللجنة الأوروبية الموعودة. 

هذه القراءة المنقوصة لا تأخذ بعين الاعتبار تطور ظاهرة الهجرة غير الشرعية التي أصبحت تجذب أُسراً بأكملها، وتشمل الموظف صاحب الشغل القادر كما العاطل من العمل والفقير. وأضحى واضحاً أن جانباً على الأقل من المسؤولية، وإن كان مسكوتاً عنه، تتحمله العائلات والدوائر الأوسع من المجتمع التي تشارك في عمليات الهجرة غير الشرعية تمويلاً وتشجيعاً وتبريراً. 

صيغة اسم المفعول أصبحت كذلك تنطبق هذه الأيام في تونس على طائفة جديدة من "الضحايا" المفترضين... وهي طائفة تم التعارف على تسميتها "بالمسَفّرين" أو ضحايا "التسفير" إلى ما اصطلح على تسميتها "ببؤر التوتر"، والتي يُقصد بها ساحات العنف والإرهاب تحت لواء "داعش" ومشتقاتها والتنظيمات المنبثقة من تنظيم "القاعدة"، في سوريا والعراق وليبيا بعد سنة 2012.

المفهوم من القاموس المستعمل أن هؤلاء "ضحايا" شبكات "تسفير" الجهاديين، وليسوا منخرطين في شبكات التطرف بمحض إرادتهم. يعني ذلك أن المئات والآلاف من الشباب التونسي كانوا مكرهين على ركوب الطائرات التي نقلتهم إلى ساحات وغى لا علاقة لها بأوطانهم ولا بقضاياهم. واللافت أن هذه السردية السائدة تتجنب التعرض لما فعله "المسفّرون" بعد "تسفيرهم". قد يكون الصمت تعبيراً عن حرج جماعي من أن يكون هناك تونسيون ضلعوا في يوم من الأيام في أعمال لا تشرّف أحداً في تونس.  

تسمع في وسائل الإعلام في هذا الإطار كلاماً عن "أُسر الضحايا"، فيتبادر إلى ذهنك أن الحديث هو عن أقرباء لضحايا العمليات الإرهابية التي تورطت فيها العناصر التونسية التي استقطبتها التنظيمات المتطرفة. لكن هناك لبْساً كبيراً، يوحي بأن "الضحايا" المشار إليهم هم في الواقع المتورطون في هذه العمليات وأفراد عائلاتهم الذين رافقوهم إلى الخارج.

الأكيد أن الكثير من الأسر المقيمة في تونس تعيش مأساة حقيقية. فهي لا تعرف شيئاً عن مآل أبنائها، من مات ومن لا يزال حياً في السجون السورية للنظام أو المعارضة الكردية المدعومة أميركياً.  

أبناء الجهاديين الصغار جداً في السن، والقابعون في المخيمات يمثلون مشكلة إنسانية معقدة، تحاول كل الدول المعنية إيجاد حل ملائم لها. 

ولكن الضحايا الرئيسيين ليسوا في الواقع من ضلعوا في إراقة الدماء ومن رافقهم وعاضدهم في ذلك. بل الضحايا هم من الذين قُتلوا أو تشردوا بسببهم.  

ومهما كانت الضغوط التي مورست على المقاتلين الذين انخرطوا في صفوف الحركات الجهادية أو الحوافز التي قُدمت لهم، فهؤلاء مذنبون في حق الآخرين الذين استهدفوهم. سواء كان ذلك في سوريا أم في العراق أم في ليبيا أم في أي مكان آخر من المنطقة العربية والعالم.  

وهم قبل كل شيء مذنبون في حق تونس التي شوّهوا سمعتها وأضرّوا بمصالحها، بخاصة أن البعض منهم لم يتورع بعد التمرس على العنف والقتل خارج الحدود عن العودة إلى بلاده، ليقترف أعمالاً إرهابية قُتل وجُرح فيها الأبرياء، وكاد يتزعزع جرّاءها  أمن البلاد واستقرارها وينهار اقتصادها.  

عندما يتوقف الحديث عن الضحايا الوهميين، سيبدأ الحديث عن المسؤولين عن موجات "التسفير" ونتائجها. 

وأول الأطراف المسؤولة من دون شك هي الدولة التونسية، وذلك من منطلق تواصل المؤسسات الرسمية للدولة واستمرارية مسؤوليتها، حتى إن تغيرت الحكومات والتحالفات الحزبية الحاكمة. تبقى الدولة ومؤسساتها في نهاية المطاف مسؤولة عن حالات التراخي والتهاون والتواطؤ التي خلقت الظروف الملائمة للتنظيمات المتطرفة بعد سنة 2011، كي تكثف أنشطتها الدعوية في المساجد والسجون والمخيمات وعلى الإنترنت لاستقطاب أعداد كبيرة من الشباب التونسيين واستخدامهم في مخططاتها الإرهابية.

هناك أيضاً أخطاء جسيمة، تتحمل مسؤوليتها المؤسسات الرسمية التي سمحت للتنظيمات المتطرفة بالحصول على التمويلات اللازمة، من أجل تنفيذ عملياتها اللوجستية المعقدة التي سمحت لها بإرسال المقاتلين إلى مناطق القتال البعيدة من الحدود. 

هناك إضافة إلى ذلك جوانب سياسية وأخلاقية وقانونية للمسؤولية. وسوف يتحمل القضاء من ناحيته مهمة المساءلة القانونية للساسة والأمنيين والمنظمات، ومختلف الأطراف المشتبه في تورطها في شبكات "التسفير".

ويُنتظر منه أن يحسم في تلك القضايا، بعيداً من تأثير المنابر العامة والاعتبارات السياسية، وإن كانت القرارات القضائية ستنجر عنها بكل تأكيد انعكاسات عميقة محتملة على المشهد السياسي، وبخاصة الأطراف المشاركة في الحكم خلال العشرية الماضية. 

أما البحث عن المسؤولية الأخلاقية فمسألة أكثر تعقيداً. إذ يتساءل الباحثون اليوم بعد عشر سنوات من موجات "التسفير" الكارثية: أين كانت أيامَها عائلات الشباب المستقطب من الحركات الجهادية، وأين كان أصدقاؤهم وأقرانهم ومشغّلوهم؟ من كان منهم يعلم ومن لم يكن يعلم بما يدور من مخططات خطيرة؟

وليس الجميع بالتأكيد ضحايا.

 والتحدي الأوسع لن يكون فقط تحديد المسؤوليات السياسية والقانونية والظروف الأُسرية التي حفّت بانجذاب شباب معظمه بين 18 و35 سنة، نحو التضحية بحياته في سبيل قضايا موهومة وأيديولوجيات تخريبية. بل هناك أيضاً مسؤولية للمجتمع أو على الأقل لشرائح واسعة منه ومن منظماته، تغلغل إليها المتطرفون أو مارسوا عليها تأثيرهم.

هناك بالطبع من رفع صوته وتحرك ضدهم وقتها، ولكن ذلك لم يكن كافياً. وما زال البعض إلى اليوم يتساءل كيف لم تتصدّ لهم قطاعات أكبر من المجتمع، برغم الإرث الجماعي المسالم والمعتدل لأهل البلاد.  وهو إرث كان من المفروض أن يؤهلها لذلك؟

ماذا حدث بالضبط يا ترى؟ كيف يمكن أن تتدحرج مصائر الأمم والشعوب نحو الكارثة في غفلة من الجميع؟  

 ومن أكثر المهام تعقيداً، حتى لو نجح الساسة والقضاة في فرز الأوراق الداخلية، ستكون مهمة تحديد المسؤوليات الإقليمية والدولية عن "تسفير" التونسيين إلى سوريا. 

خيوط متشابكة ولا أحد يعرف من أين تبدأ أو تنتهي. ولا  أحد يعرف من هو مؤهل أو مستعد لإثارتها وتسليط الضوء عليها، سواء اليوم أم غداً... 

لن يكون تحميل المسؤوليات في قضية "التسفير" مسألة سهلة.

وإذ نجحت تونس منذ سنوات قليلة في السيطرة عموماً على خطر الإرهاب، فهي لا تزال تواجه مصادر الهشاشة الاجتماعية نفسها التي جعلت من شبابها خزاناً استغلته التنظيمات المتطرفة لإشعال حرائقها، فيما فشلت الحكومات المتعاقبة في معالجة الأسباب التي كان من المفروض أن تجعل الأجيال الصاعدة في تونس مصدر أمل، لا مبعث خوف لأحد.

تلك معركة مترابطة يجب أن تخوضها الدولة بمعاضدة المجتمع من دون إنكار أو أحقاد لا تنتهي، وبروح من المسؤولية الجماعية، تسمح للبلاد بمعالجة نقاط ضعفها وتجاوز أزماتها.

عن "النهار" العربي




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية