من كمون "الفوضى الخلاقة" إلى كمون "طوفان الأقصى"

من كمون "الفوضى الخلاقة" إلى كمون "طوفان الأقصى"

من كمون "الفوضى الخلاقة" إلى كمون "طوفان الأقصى"


27/11/2023

لازمت ظاهرة المراجعات أداء الجماعات الإسلامية في المنطقة العربية، منذ لحظة التأسيس مع حسن البنا، ابتداءً من عام 1928، حتى أحداث الساحة الراهنة، بدليل وجود عدة أسماء فكرية وإعلامية وسياسية ودعوية وغيرها، من التي نشرت بعض الأعمال، سواء كانت في صيغة مذكرات ومقالات كانت مخصصة لاستعراض تجاربها الشخصية، والتي تصنف في خانة المراجعات، بشكل أو بآخر، أو تعلق الأمر بأسماء كانت تنتمي إلى حركات إسلامية جهادية أو حركات إسلامية سياسية، وتنظيمات أخرى.

من نتائج ذلك أنّنا أصبحنا نعاين تعددية في طبيعة هذا التيار، إن صح وصفه كذلك، من قبيل وجود إسلاميين تحرروا تنظيمياً من المشروع الإسلاموي، لكنّهم لم يتحرروا كليّاً من إيديولوجيا التنظيم، أو تيار آخر كابد لكي يتحرر كليّاً من الشق التنظيمي والأفق الإيديولوجي، وهكذا الأمر مع تيارات أخرى، مع الإشارة الضرورية هنا إلى أنّ هذه الظاهرة لا تهم الإسلاميين وحسب، وإنّما تهم أيّ تيار إيديولوجي، بصرف النظر عن مرجعيته، بدليل وجود أسماء كانت محسوبة على تيارات اشتراكية أو ماركسية أو محسوبة على مرجعيات أخرى، إلّا أنّ هذه المقالة تهم الحالة الإسلاموية.

لازمت ظاهرة المراجعات أداء الجماعات الإسلامية في المنطقة العربية، منذ لحظة التأسيس مع حسن البنا، ابتداءً من عام 1928، حتى أحداث الساحة الراهنة

تعرضت هذه الظاهرة إلى عدة اختبارات بسبب تطورات أحداث الساحة التي أفضت إلى ما يُشبه اختبار أفق أو حقيقة تلك المراجعات، وقد كانت أحداث 2011، التي توصف عند البعض بأحداث "الفوضى الخلاقة"، أو أحداث "الربيع العربي" عند البعض الآخر (من قبيل أقلام التيار الإسلاموي ونسبة من أقلام التيار اليساري)، إحدى الامتحانات التي تعرّض لها التيار المصنف في خانة المراجعات، ونخص بالذكر التيار الذي كان منتمياً إلى مرجعية إسلاموية جهادية.

ولعل أشهر الأمثلة في هذا السياق ما عاينا في الساحة المصرية، مع مراجعات الرموز الجهادية، والتي كانت منخرطة قبل اندلاع تلك الأحداث في إصدار مجموعة من أدبيات المراجعات، من قبيل سلسلة "نهر الذكريات"، أو كتاب "تنظيم القاعدة: الأخطاء والأخطار"، وأعمال أخرى، كانت من بين أهم الأدبيات التي ساهمت في إقناع الشباب والمراهقين المعتقلين أو خارج السجون، من المتأثرين بالأدبيات الإسلاموية الجهادية، بل تفوقت بعض مضامينها على خطاب المؤسسات الدينية، بحكم سمعة هذه الأخيرة لدى المخيال الإسلامي، وبالتالي كان أيّ نقد يصدر عن هذه المؤسسات مصاحباً بنظرة سلبية مسبقة حول علماء وفقهاء ووعاظ تلك المؤسسات، بخلاف الأمر عندما تصدر أدبيات نقدية ضد الأدبيات الجهادية، عن رموز الجماعات الإسلاموية نفسها، أخذاً بعين الاعتبار ثقلها الرمزي أو مكانتها لدى أتباع هذه الجماعات.

ما جرى مع أحداث 2011، وتفاعلاً مع الفورة الإسلاموية التي عرفتها المنطقة، سواء مع الإسلاموية السياسية المجسدة في الحالة الإخوانية، أو الإسلاموية الجهادية في العديد من دول المنطقة (سوريا، العراق، ليبيا، مالي، ودول أخرى)، أنّنا عاينا انقساماً صريحاً في مواقف رموز المراجعات:

هناك تيار بقي وفياً لخيار المراجعات، رغم الإغراء الإسلاموي الذي ارتفعت أسهمه، إلى درجة أنّ بعض الأحزاب الإخوانية صعدت إلى سدة الحكم أو ساهمت في تدبير الحكم، كما هو الحال مع النماذج التونسية والمصرية، وبدرجة أقل الحالة المغربية، موازاة مع صعود أسهم الإسلاموية الجهادية في العديد من الدول، كما اتضح ذلك أيضاً مع بزوغ تنظيم (داعش)، وإعلان التنظيم نفسه عن "قيام الخلافة الإسلامية"، وتنصيب (أبو بكر البغدادي) "إماماً وخليفةً للمسلمين في كل مكان"، داعياً "الفصائل الجهادية في مختلف أنحاء العالم لمبايعته". 

من الملاحظ تفاعل نسبة من تيار المراجعات بالتحديد، سواء من التيار الإخواني أو التيار الجهادي، كشف عن تفاعلات تفيد أنّها عادت إلى مرحلة ما قبل المراجعات، كما لو أنّها لم تمارسها أساساً

مقابل هذا التيار، عاينا تياراً مضاداً في الرموز نفسها، عاد إلى خطاب ما قبل المراجعات، كأنّ مساهمته في أدبيات المراجعات لم تكن عن قناعة، أو أنّه كان في مرحلة كمون، أو لاعتبارات أخرى، لكن الشاهد هنا أنّ مواقف ناجح إبراهيم مثلاً، أحد أهم رموز المراجعات في الحالة المصرية، الذي بقي وفياً لهذا الخطاب، لم تكن مواقف جميع الرموز، بما أنّ فئة منها عادت إلى خطاب "المراهقة الجهادية"، في حقبة كنّا نعتقد أنّها ولّت إلى غير رجعة.

نعاين الظاهرة نفسها منذ أسابيع على هامش أحداث "طوفان الأقصى"، وهي الأحداث التي تميزت بتعاطف إقليمي وعالمي مع الشعب الفلسطيني، وبما أنّها تميزت بعودة قوية لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، مجسدة في جناحها العسكري، فطبيعي أن تحظى بتعاطف الإسلاميين أيضاً، وهذا تحصيل حاصل بتعبير المناطقة.

لكن الملاحظ هنا أنّ تفاعل نسبة من هؤلاء، من تيار المراجعات بالتحديد، سواء من التيار الإخواني أو التيار الجهادي، كشف عن تفاعلات تفيد أنّها عادت إلى مرحلة ما قبل المراجعات، كما لو أنّها لم تمارسها أساساً، ومن كثرة الأمثلة نتوقف عند نموذجين اثنين:

يهم الأوّل حالة باحث مغاربي يقيم في بريطانيا، وصل به الأمر في حسابه على موقع التواصل الاجتماعي إلى درجة تمرير بعض الأحكام السياسية النقدية ضد أنظمة المنطقة وضد الحكام، وبدت في عدة مناسبات أقرب إلى التكفير، أو تتقاطع مع أدبيات الجهاديين، ومن يقرأ أو يتأمل مضامين تفاعلاته الرقمية قبل تاريخ 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، فسيعاين أنّ خطابه كان بعيداً عن هذه النبرة الإسلاموية الحادة.

ومن ذلك مثلاً نشره تدوينة جاء فيها أنّه "من المباحث التي يجب تحريرها تحريراً مفصّلاً، هو مصطلح "الخروج عن الحاكم"! [كذا!] كيف ظهر هذا المصطلح؟ وما السياقات التاريخية التي أنتجته؟ وكيف تطور مفهومه عبر العصور؟ وما ضوابط هذا المفهوم؟ وما الذي يعتبر خروجاً عند السلف؟ وما المشترك بين مصطلح الخروج وأصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟".

لم نكن نقرأ مثل هذا الخطاب قبل اندلاع أحداث غزة في الحسابين معاً، لأسباب تحيلنا على طبيعة ونوعية ومؤشرات هذه المراجعات الإسلاموية؛ الإخوانية والجهادية

ومن يقرأ هذا الخطاب، يعتقد أنّه صدر قبل 1928، أو على الأقل، ينهل مؤلفه من أدبيات "السياسة الشرعية"، مع أنّنا نتحدث اليوم عن أنظمة عربية وطنية حديثة، بصرف النظر عن طبيعة النظام السياسي العربي المعني، كأن يكون نظاما ملكياً، أو نظام إمارة، أو نظاماً جمهورياً أو رئاسياً.

أمّا النموذج الثاني، فيهمّ حالة باحث مشرقي، سبق له أن مرّ بتجربة جهادية في مرحلة المراهقة والشباب، لكنّه انخرط بدوره في مراجعات، وشرع في نشر العديد من الأبحاث حول الإسلاموية، السياسية والجهادية وغيرها.

عاينا مؤخراً أنّ الباحث المعني أصبح ينشر تدوينات نقدية حدية ضد الأنظمة العربية، إلى درجة أنّ عبارة "الأنظمة [العربية] الاستبدادية" تكاد تصبح لازمة في تدويناته تلك، ومن بين الأمثلة في هذا السياق نذكر:

ـ "الأنظمة الاستبدادية حليف استراتيجي للإمبريالية الأمريكية والاستعمارية الصهيونية، ولا أمل بتبدل مواقفها وتغيّر تحالفاتها إلا بالتخلص من طبيعتها الدكتاتورية والتصالح مع هويتها الإسلامية، وهو مسار يتحقق من خلال ثورات شعبية أو تحولات ديمقراطية".

ـ "التأويل الاستبدادي الحديث للدين ظاهرة مذهلة، يصبح معنى "ففروا إلى الله" اكتفوا بدعائه، مع إجماع المفسرين أن فروا من معاصيه إلى طاعته، أمّا "انفروا خفافاً وثقالاً" أي غنياً وفقيراً، وقوياً وضعيفاً، فليست في مصحف الديانة الاستبدادية للدولة القومية الحديثة".

ـ "كلما صعّد الاستعمار الصهيوني من وحشيته وعنفه تجاه الشعب الفلسطيني، يرتعب النظام الاستبدادي العربي، ويزداد شراسة وضراوة نحو شعبه".

لم نكن نقرأ مثل هذا الخطاب قبل اندلاع أحداث غزة في الحسابين معاً، لأسباب تحيلنا على طبيعة ونوعية ومؤشرات هذه المراجعات الإسلاموية؛ الإخوانية والجهادية.

مواضيع ذات صلة:

أحداث غزة والمراجعات النظرية حول الظاهرة "الجهادية"

أحداث فلسطين وارتدادات العقل الباطن لإيديولوجيات الساحة



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية