هل تحول الاحتجاجات في السويداء مجرى الأحداث في سوريا؟

هل تحول الاحتجاجات في السويداء مجرى الأحداث في سوريا؟


21/01/2020

الحرب، التي ما تزال مستمرة على جبهات القتال، منذ تسعة أعوام، وإن في مناطق محددة، والتي حصدت حتى الآن أرواح ما يقرب من مليون شخص من الرجال والنساء والشباب والأطفال، وما يقرب من مليوني جريح وذوي إعاقة، وهجّرت أكثر من نصف السكان، في الداخل وإلى الخارج، ودمّرت البنى التحتية والمرافق العامة والمصانع والورش، سبّبتها ورافقتها حرب أخرى على المجتمع كلّه، قادتها قوى التسلط والاستبداد والفساد. 

اقرأ أيضاً: تركيا وازدواجية المواقف بين سوريا وليبيا
أسلحة هذه الحرب الممهدة والموازية هي التخويف والترهيب والتجويع، لا سيما أنّ التجويع صار سياسة معلنة لسلطة الأمر الواقع في دمشق وحلفائها، تحت شعار "الجوع أو الركوع"، وهذا تعبير صريح عن سياسة قديمة جعلت الاقتصاد والمال أداتين من أدوات السيطرة، ومصدرين لثروات المسيطرين كبارهم وصغارهم؛ فالأزمة الاقتصادية والمالية والمعيشية ليست جديدة؛ إذ كان أكثر من ثلثي السكان، قبل عام 2011، يعانون من الفقر العام، وحوالي ثلث السكان يعانون من الفقر المدقع أو الفقر الشديد، بحسب المكتب المركزي للإحصاء وأبحاث أخرى.

حفلت مواقع التواصل بمناشدات متتالية من مواطنين سوريين لتدارك أزمة الغاز ووقود التدفئة والكهرباء والغلاء وفوضى الأسعار

الجديد في الأزمة الاقتصادية والمالية أنّها بلغت مستويات غير مسبوقة، لم يعد يمكن تحملها، وفي المقابل بلغ الفساد والنهب والابتزاز والتعفيش وفوضى السوق وانهيار سعر الصرف مستويات غير مسبوقة، وزاد عدد أغنياء الحرب وتضاعفت ثرواتهم، وتذكر بعض البحوث الحديثة أنّ نسبة الفقر العام بلغت 92% وزادت نسبة الفقر المدقع أو الفقر الشديد عن 45%، وارتفعت نسبة البطالة إلى 40%، وليس انهيار قيمة الليرة السورية المريع سوى دليل واحد من أدلة كثيرة على تحويل سوريا الغنية بشعبها ومواردها دولة فقيرة وفاشلة ومدينة بعشرات المليارات لإيران وروسيا وغيرهما، فإذا كان هناك من يعتقد بالفعل أنّ الحرب على جبهات القتال هي مؤامرة كونية؛ فالحرب الممهدة والموازية سياسة وممارسة أكثر خطورة من أيّة مؤامرة.

اقرأ أيضاً: ما هدف أردوغان الحقيقي من التدخّل عسكرياً في سوريا وليبيا؟
حفلت مواقع التواصل الاجتماعي بمناشدات متتالية من مواطنين موالين، من فنانين وكتّاب وناشطين، لتدارك أزمة الغاز ووقود التدفئة والكهرباء والغلاء وفوضى الأسعار، التي التهمت الزيادة الهزيلة في الرواتب والأجور، لتأتي الإجابة عبر وسائل الإعلام الحكومية بـ "أنّ الأوضاع الاقتصادية أفضل خمسين مرة مما كانت عليه عام 2011".
الكذب و"التصحيف" من شيم كثير من وسائل الإعلام السورية، التي وصفها الراحل ممدوح عدوان بأنّها "تكذب حتى في نشرة الأخبار الجوية"، الكذب لا يسدّ الجوع، ولا يجلب حليب الأطفال، ولا يجلب دواء المرضى، ولا يدفئ أجسادهم، ولا ينير المنازل، ولا يلبّي حاجات المحتاجين.

اقرأ أيضاً: ما هي رسالة طهران إلى واشنطن من خلال وجودها في العراق؟
في ظلّ هذه الأوضاع الكارثية والسوريالية في الوقت نفسه لا عجب أن يدير شباب وشابات من محافظة السويداء حملة "بدنا نعيش"، وأن يتظاهروا، بأعداد قليلة في اليوم الأول (15 كانون الثاني/ يناير 2020)، وأكثر منها في اليوم الثاني في مدينة السويداء (مركز المحافظة)، وفي مدينة شهبا الواقعة بين دمشق والسويداء.
تعتمد محافظة السويداء على الزراعة، خاصّة الكرمة والتفاح، وعلى العمل في مؤسسات الدولة، وعلى تحويلات المغتربين، بصورة أساسية، ولم تنخرط في الانتفاضة الشعبية، عام 2011، بل وقفت على الحياد، منذ البداية، إنما كانت هناك تدخلات من جانب بعض المعارضين للنظام في المحافظة، دُفع مقابلها غالياً دماء عشرات من الشباب قضوا تحت التعذيب، ويعود عدم الانخراط في الثورة إلى عدة أسباب، منها؛ أنّ غالبية أهالي المحافظة من الأقليات الدينية في سوريا، وهم دروز ومسيحيون وبدو، خوّفتهم السلطة من التكفيريين. والسبب الثاني؛ ربما لأنّ المحافظة بدأت تستقبل الوافدين إليها "النازحين"، هرباً من الموت، فحافظت على عاداتها وتقاليدها في إكرام الضيف وإيوائه، وقد اتهمتها بعض التيارات من المعارضين للنظام بالموالاة الكلية له، وفي الحقيقة كانت السويداء ترقد على بركان خامد سينفجر في أيّة لحظة من اللحظات الحاسمة، وقد تكون تلك اللحظة تغييراً لمجرى ما حدث قبل تسعة أعوام، وما يحدث الآن على الأراضي السورية.

اقرأ أيضاً: هؤلاء يدفعون ثمن تطلعات أردوغان في سوريا..
شهدت الليرة السورية في الأيام العشرة الماضية انخفاضاً كبيراً في سوق الصرف المالي، مما أدى إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية والتموينية ارتفاعاً كبيراً، انعكست آثاره على المواطنين، وارتفاع الأسعار يطال محافظة السويداء أكثر من بقية المحافظات السورية، نظراً لبعدها عن العاصمة دمشق وارتفاع أسعار نقل البضائع التي تضاف على سعر المادة المستهلكة، ونظراً لتردي الحالة المعيشية في سوريا عامةً، وفي السويداء على وجه الخصوص، فقد خرجت المحافظة عن صمتها الذي وضعها في خانة الموالاة المطلقة للنظام في أعوام خلت، وانتفضت تندد بالوضع المعيشي المتردي، مثلما يردد المنتفضون في لبنان والعراق.

اقرأ أيضاً: لماذا انقلب أمراء الحرب في سوريا إلى مرتزقة تقودهم تركيا؟
وإذ أطلق بعض الناشطين حملة "بدنا نعيش" على شبكات التواصل الاجتماعي، ودعوا فيها للنزول إلى الشارع للمطالبة بالحقوق المدنية للمواطنين، وتحسين الخدمات، لبّت شريحة واسعة من الشباب والشابات النداء لتلك الحملة، واعتصموا أمام السراي الحكومي في المحافظة، مطالبين الحكومة بالحدّ من الفساد، وتحسين الوضع المعيشي للشعب السوري كافة من دون تمييز بين محافظة السويداء وغيرها من المحافظات السورية. 
التحرك الشعبي، الذي بدأ في 15 كانون الثاني (يناير) الجاري، ما يزال مقتصراً على مدينة السويداء، ثم مدينة شهبا، ولم تشارك فيه أية محافظات أخرى، إلا بالمباركة والدعم المعنوي والشدّ على أيادي المحتجين والمحتجات من البعض، الذين يعانون مما تعانيه السويداء، والبعض الآخر يُبخس الحراك على أنّه "حراك من أجل العلف لا من أجل الكرامة".

أطلق بعض الناشطين حملة "بدنا نعيش" على شبكات التواصل الاجتماعي، ودعوا فيها للنزول إلى الشارع للمطالبة بتحسين الخدمات

وفي اليومين التاليين 16 و17 كانون الثاني (يناير) الجاري، تزايد عدد المحتجين وجابوا شوارع السويداء وشهبا، رافعين لافتات "بدنا نعيش"، هذا المطلب الذي يعني الفقير والغني في كافة أنحاء سوريا، قوبل بالتعتيم الإعلامي والتسخيف من قِبل الحكومة السورية والأوساط الشعبية، التي تميل إلى المواقف الرمادية منذ بداية الأزمة السورية حتى الآن.
لم يكن الشارع في السويداء هادئاً، إنما صاخب وساخط على كلّ من له يدٍ في تردي عيش المواطن وهدر كرامته الإنسانية، فقد التحق بالاحتجاجات الكثير من المواطنين على غير موعد مسبق؛ أي من المارة في الشارع، والغالبية العظمى هم من فئة الشباب الذين غرقوا في أوهام الوعود الكاذبة، التي أغرقتهم أيضاً في البطالة وعدم الجدوى، وقد تحول الشعار من "بدنا نعيش" إلى "بدنا نعيش بكرامة"، فربما تحول انتفاضة السويداء مجرى الأحداث في سوريا ما دامت انتفاضة حقّ مسلوب ومنهوب.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية