هل غابت المواطنة عن الفقه السياسي الاثني عشري؟

هل غابت المواطنة عن الفقه السياسي الاثني عشري؟

هل غابت المواطنة عن الفقه السياسي الاثني عشري؟


15/08/2023

كامل الخطي

خلا الفقه الشيعي الاثني عشري في بداياته من نظرية فقهية سياسية واضحة المعالم حول الدولة، بل لنا القول: إن أصول الفقه عند الشيعة الاثني عشرية، أمر مستحدث نسبياً، وقد أخذ علماء الدين الشيعة صنعة أصول الفقه من فقهاء المذاهب السنية، وانصبَّ اهتمام الفقه الشيعي الاثني عشري على العبادات والمعاملات، ولم ينخرط فيما اصطُلح على تعريفها بـ«الأحكام السلطانية».

وذلك لأن الأصل في الفقه السياسي الشيعي –الجعفري تحديداً– أن الدولة الوحيدة المعتبرة شرعاً، هي الدولة التي ينتظر الشيعة تأسيسها على يد الإمام الثاني عشر، الإمام محمد المهدي بن الإمام الحسن العسكري، وهناك فقرة من دعاء مثبت في كتاب «الكافي» للكليني، على أنه دعاء كان يدعو به الإمام جعفر الصادق، هذه الفقرة من الدعاء من رواية منسوبة للإمام جعفر الصادق ومستقرة منذ قرون في كتب الحديث المعتبرة عند الشيعة، انتشرت ورسخت في الخطاب المذهبي السياسي الشيعي عشية صعود نجم رجال الدين في إيران.

والغرض من الترويج المكثف لهذه الفقرة حينذاك، نشر رسالة من الخميني ورفاقه إلى الشيعة في أرجاء الأرض تذكِّرهم بأن الله سبحانه وتعالى قد استجاب لدعاء الإمام الصادق بأن مكَّنهم في الأرض فأسّسوا فيها دولة إسلامية، ونص تلك الفقرة من الدعاء: «اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تُعزّ بها الإسلام وأهله وتُذلّ بها النفاق وأهله وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة». فكل دولة -عند الشيعة- قبل الدولة الإسلامية التي يُنْتَظَر قيامها مع ظهور الإمام المهدي، هي دولة جور وضلال؛ ففي أساس العقيدة السياسية للشيعة الاثني عشرية: «كل راية تُرفع قبل قيام القائم، فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله عز وجل»، وهذه قاعدة مأخوذة من حديث منسوب للإمام جعفر الصادق أيضاً.

أحمد النراقي والنظرية المتماسكة لولاية الفقيه

مما يستوجب الذكر أن أول من أثار الجدل حول الدور الواجب على الفقيه الشيعي أداؤه في الحياة العامة، ووضع قاعدة نظرية متماسكة لولاية الفقيه، هو فقيه إيراني اسمه أحمد النراقي (ت: 1245هـ)، وللنراقي كتاب اسمه «عوائد الأيام» يعرفه جيداً طلبة العلوم الدينية من الشيعة.

وخصص النراقي قسماً واسعاً من كتابه لطرح آرائه حول ما للفقيه من سلطات وصلاحيات على سائر الشيعة، وحمل هذا القسم من الكتاب عنوان «عائدة ولاية الفقيه». كلمة «عائدة» مفرد كلمة «عوائد» بمعنى «فوائد»، وقَسَّم النراقي هذا القسم من الكتاب إلى أقسام فرعية تناولت وظيفة العلماء وحدَّ ولايتهم: الإفتاء، والقضاء، وأموال السفهاء والمجانين، وأموال الغيب، والولاية على الأيتام واستيفاء أموالهم، والأنكحة، وولاية أموال الإمام الغائب نيابةً والتصرف فيها.

ليس من أهداف هذا المقال مناقشة أفكار أحمد النراقي حول ما للفقيه من سلطات وصلاحيات بشكلٍ مفصل، وإنما وجبت الإشارة إلى عمل أحمد النراقي وتاريخه بقصد توضيح حداثة التأسيس النظري لولاية الفقيه؛ كما تجدر الإشارة إلى أن أحمد النراقي لم يواجهه معاصروه من الفقهاء الشيعة بتهم تُخرجه من الملّة، وإنما حُمِلَتْ أفكاره على محمل الاجتهاد، بل إن أفكاره حول حدود سلطات وصلاحيات الفقيه الشيعي قد فتحت مجالاً أوسع لانخراط الفقهاء الشيعة في الحياة العامة لسائر الشيعة، بحكم أن الفقيه في نظر مقلديه هو الحاكم الشرعي واجب الطاعة، وأن الفقيه يؤدي وظيفة لا غنى عنها نيابةً عن الإمام الغائب. كما أن رصد الواقع لممارسات الفقهاء الشيعة، يُفضي بالراصد إلى نتيجة مفادها أن هناك حالة من الإجماع على ولاية الفقيه على الشؤون العامة، وما نشهده من اختلاف بين الفقهاء الشيعة، ينحصر في حدود ولاية الفقيه، لا في مبدأ ولاية الفقيه.

وهنالك سؤال: هل بعد هذا يمكن للدارس احتساب الدولة التي اعتلى سدتها الفقهاء الشيعة في إيران بدعة حادثة في الفقه السياسي الشيعي؟

لإجابة هذا السؤال على الدارس الاطلاع على مطارحات حسين منتظري بهذا الشأن (حسين منتظري: فقيه شيعي إيراني من مواليد عام 1922 تولى رئاسة مجلس قيادة الثورة، ومجلس خبراء القيادة، وكان نائباً للخميني كمرشد أعلى للثورة، والرجل الثاني في هرمية سلطة الثورة في إيران إلى حين عزله من جميع مناصبه عام 1989 نتيجة الصراع على السلطة الذي دار بين تيار سياسي في إيران أراد الانعطاف بإيران نحو مسلك الدولة مقابل توجه حسين منتظري الذي كان يرى ضرورة استمرار الحالة الثورية والعمل على تصدير الثورة. وحسين منتظري غير مطعون في فقهه في أوساط الفقهاء الشيعة، بمن فيهم الفقهاء الذين لا يقرُّون ولاية الفقيه المطلقة).

وورد في الجزء الأول من كتاب حسين منتظري «دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية» أدلة كافية لإقناع المتابع بأن نظرية ولاية الفقيه إنما اسْتُنْبِطَت من مجموعة أحاديث منسوبة لرسول الله (عليه أفضل الصلاة والسلام)، ولأئمة الشيعة، ودُوِّنت في كتب الحديث المعتمَدة لدى الشيعة الاثني عشرية، وكثير من هذه الأحاديث تواتر عبر سلاسل من رواة ثقات لدى الشيعة.

أثار حسين منتظري في مطارحاته نقاشاً حول عددٍ من المسائل الجوهرية في العقيدة السياسية عند الشيعة الاثني عشرية، ومن الموضوعات التي أثار النقاش حولها: أن التقية لا يُراد بها المنع من الجهاد، وإنما المراد منها حفظ النفس، مع الاشتغال بالوظيفة الدفاعية؛ حيث يدفع منتظري بالقول إن التقية سلاح يتسلح به المؤمن في ميدان المبارزة مع العدو، وله التخلي عنه حين بلوغه المأمن. استفاض منتظري أيضاً في إعادة تفسير الأحاديث والأخبار المروية عن أئمة الشيعة والتي تحمل دلالات بالنهي عن الخروج؛ حيث لم يقر منتظري النهي عن الخروج، بل اختلف مع من فسّر الروايات الناهية، ورأى أن تلك الروايات إنما نهت عن الاستعجال، وأن ذات الروايات حبّذت الاشتغال على تهيئة الظروف المناسبة للخروج ومجاهدة الطواغيت، واستغرق في حشد الأحاديث الدالّة على فضل أهل المشرق عموماً وبخاصة أهل قُم في حمل رايات الحق والنهوض بأمر آل محمد؛ كما دفع بالقول: إن راية أهل قم هي راية حق لأنها راية أهل التمهيد لظهور المنتظر، واستدل على ظهور رايات الحق قبل ظهور القائم، بمجاهدة علي لمعاوية، وخروج الحسين على يزيد بن معاوية، وخروج زيد على هشام بن عبد الملك، وتبلغ مطارحات منتظري في هذا الشأن ذروتها بنقله حديثاً منسوباً إلى الإمام علي؛ حيث يرد في كتاب «بحار الأنوار» لمحمد باقر المجلسي، في باب «علامات الظهور» نصاً: «رجل من أهل قم يدعو الناس إلى الحق، يجتمع معه قوم كزُبَرِ الحديد، لا تزلهم الرياح العواصف، ولا يملّون من الحرب، ولا يَجبنون، وعلى الله يتوكلون، والعاقبة للمتقين»، ورجح منتظري انطباق مفاد هذه الأخبار على الثورة الإسلامية في إيران.

المواجهة الحادثة بين من يتبنى نظرية ولاية الفقيه المطلقة، وبين من يرى أن ولاية الفقيه تنحصر في الأمور الحسبية، والولاية على أموال القاصر، والسفيه، ومجهول المالك، ونحوها من شؤون لا ترقى إلى مستوى مسؤولية تأسيس دولة وتولي قيادتها؛ هي مواجهة تعتمد بكليتها على الموروث الحديثي المعتبر عند الشيعة الاثني عشرية، وبقدر اختلاف المدرستين حول حدود ولاية الفقيه، فإن بين المدرستين ذات القدر من الاتفاق حول ركائز أساسية أخرى منها: أن الدولة الإسلامية الحقّة هي دولة قائم آل محمد، وإن تيار ولاية الفقيه المطلقة يروّج عن نفسه فكرة مفادها أن الإطاحة بنظام الشاه واعتلاء سدة الحكم ليس هدفاً نهائياً، بل إن ذلك خطوة في طريق الجهاد الطويل الذي من شأنه تمهيد الأرض لظهور الإمام المنتظر، وتسلمه دفة قيادة البشرية نحو الخلاص، وذلك بدحر الظلم وإقامة العدل المطلق.

دولة الضلال

إذن فأي دولة عند فقهاء الشيعة هي دولة ضلال، بما فيها دولة ولاية الفقيه في إيران، إذا كان القائمون عليها يدعون لأنفسهم، أو لا يعدون أنفسهم مجرد ممهدين لظهور الإمام المنتظر، وعليه فإنه حتى «تيار الموادعة»، وهو تيار ذو وزن معتبر في أوساط الفقهاء الشيعة، لا يلزم نفسه ببيعة لحاكم، وما رفض تيار الموادعة الشغب والخروج والتمرد إلا من باب حفظ الأموال والأعراض والدماء، تأسيساً على الحديث المنسوب إلى الإمام علي، والوارد في «نهج البلاغة» نصاً: «وإنه لا بد للناس من أمير بَرٍّ أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمع به الفيء، ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل».

الولاء المطلق للدولة

تبقى مسألة الولاء المطلق للدولة عالقة دون حسم، لأنها مسألة من صميم المعتقد، وهي أخطر شأناً مما يرغب الفقهاء الاثني عشرية مناقشته، وطريقها أطول مما يطيق فقهاء الشيعة قطعه من مسافات؛ فالفقه من الناحية النظرية، كائن حي قابل للتطور والتفاعل مع المستجدات، ودليل ذلك ما وقفنا عليه من منهج استنباطي أصولي اتبعه حسين منتظري وآخرون، وقدموا من خلاله قراءات جديدة لأحاديث موجودة منذ قرون في بطون كتب الحديث عند الشيعة؛ كما أن هذا المنهج الاستنباطي الأصولي الذي اتبعه منظِّرو الثورة الإيرانية، لم يُخرجهم من الملّة، وأسباب ذلك كثيرة، ومنها أن الفقهاء التقليديين يعلمون يقيناً أن المنظِّرين الثوريين في إيران ليسوا مهرطقين، وأنهم استنبطوا رؤاهم من الموروث الحديثي المعتبر عند الشيعة، والاستنباط مدماك المدرسة الأصولية التي ينتمي إليها فقهاء الثورة الإيرانية بقدر انتماء الفقهاء التقليديين إليها.

أردت بهذه المقدمة الوصول إلى مناقشة مسألة سِمَتها الرئيسية تتمثل في حملها تحدياً وجودياً يواجه المواطن الشيعي؛ فبعض المصطلحات المتداولة إلى اليوم في أوساط طلبة العلوم الدينية تحمل في طياتها إحالات مذهبية خاصة لا تتفق البتة مع إحالات العلوم السياسية لذات المصطلحات، وتصطدم بأحدث مبادئ المواطنة، وأكثرها أمناً، وأحفظها للتنوع، وأكثرها قدرة على صون الخصوصيات. أقصد معضلة مفهوم «الحاكم الشرعي» ومؤديات المفهوم في الأدبيات الفقهية الشيعية؛ فإحالة العلوم السياسية لهذا المفهوم تنصرف لنظام الحكم القائم والمستقر والمتولدة شرعيته من رحم إطار ثقافي - اجتماعي محدد الملامح، بينما تنصرف الإحالة الشيعية لذات المفهوم إلى مرجع التقليد وإن لم يكن من متبني نظرية ولاية الفقيه المطلقة.

مفهوم الدولة الوطنية

لا يزال مفهوم «الدولة الوطنية» يعاني غياب «الإجماع الاصطلاحي»، إلا أن غياب الإجماع الاصطلاحي حول المفهوم لم ينفِ أن تصور «الدولة الوطنية» القائم على «الإقليم» كحقيقة جغرافية، هو أفضل التصورات، وأكثرها قدرة على توليد منظومة ثقافية - اجتماعية وطنية، وقد يتفوق عنصر من العناصر المكونة للمنظومة الثقافية - الاجتماعية الوطنية على باقي العناصر التي ائتلفت معه لتكوين تلك المنظومة، وفي الغالب فإن العنصر الذي يتفوق على أقرانه يكون قد لعب دوراً أكبر في تأسيس الدولة الوطنية، وقد يتمثل تفوق عنصر ما على الأقران في بعض صيغ الاستئثار، لكني أتصور أن الاستئثار، وإن كان من موجبات القلق، فإن ذلك القلق الذي يساور بعض الشركاء لا ينبغي له أن يتحول إلى حالة مَرضية دائمة تجترّ المظلومية، وتقتات عليها، وتبرر بها العجز والتقاعس؛ فعلى الجانب الآخر علينا النظر ملياً في المجريات التنظيمية ومدى فاعليتها، فكلما نضجت الأطر التنظيمية والقانونية الضابطة لعلاقات الأطراف ضمن العقد الاجتماعي المعين، انخفض أثر الاستئثار، وازداد النسيج الوطني تناغماً ومتانةً بما يدفع بالمساواة القائمة على معيار الكفاءة إلى مكانتها المستحقة.

مفهوم الدولة الوطنية حديث، وفي محيطنا هو مفهوم حديث جداً، ولا يزال يتجوهر شيئا فشيئاً، وتجوهُر المفاهيم وانصقالها لا يأتي صدفة، بل يأتي نتيجة تضافر عدد من العوامل، منها إعادة التفكير في بعض الأسس، والتخلي عمّا يمكن منها أن يعيق نمو الشعور بصدق الوحدة الوطنية بين أبناء الإقليم الجغرافي الذي تأسست فيه أو في جزء منه دولة ذات سيادة تعمل جادة في جعل مواطنيها متساوين في الحقوق والواجبات بموجب نظم وقوانين واضحة تساندها أجهزة تنفيذية قوية وجاهزة للتدخل لإنفاذ القانون متى ما مسّت الحاجة.

التجربة السعودية

الدولة الوطنية الحديثة التي تطابق ملامحها النموذج الذي نناقشه هنا، تتمظهر كأوضح ما يكون في تجربة المملكة العربية السعودية، فالمملكة بكيانها الحالي، دولة فتية بكل الأبعاد، وهي دولة تختزن القدرة على التطوير والتجديد الذاتي حسب مقتضى الحال، وفي الوقت الراهن فإن المملكة عبارة عن ورشة تطوير عظمى، وتتيح لجميع مواطنيها فرصة المشاركة في عمليات التطوير الشاملة التي تستهدف في مداها الأقصى رفاهية وتقدم الإنسان، والمملكة بلد مترامي الأطراف ويختزن قدراً هائلاً من التنوع، وهذا التنوع كان يتمثل في شكل هويات فرعية، ولا يعنينا في هذا النقاش إن كانت تلك الهويات الفرعية متخيَّلة أم غير ذلك، والذي يعنينا من تلك الهويات أن وجودها والشعور بها وتعريف الذات من خلالها، لا ينبغي له أن يكون عامل إضعاف لقوة النسيج الوطني، وإن تلك الهويات التي سبقت الدولة ينبغي لها أن تسهم في تشكيل الهوية الوطنية إسهاماً إيجابياً ينعكس ثراءً وتنوعاً، وعلى تلك الهويات التراجع عن مكانتها التي كانت تحتلها قبل نشوء الهوية الوطنية الجامعة؛ فالهوية الوطنية الجامعة هي ضامن المساواة، وهي المضمار الذي يضمن عدالة تسابق الأكْفَاء.

إنَّ من يجد أن هويته الفرعية بها ما يمكن أن يعيق اندماجه الكامل مع محيطه الوطني، عليه العمل الجاد لإزالة العوائق، والعمل الجاد لإزالة العوائق ليس من الأمور مستحيلة التحقق، فقد رأينا من خلال ما استعرضناه كيف أن من نَظّر لجواز قيام دولة ثيوقراطية في إيران، قد اعتمد على موروث حديثي معتبر عند الشيعة، وهذا يقودني إلى طرح سؤال مشروع حول المانع من قيام فقهاء معتبرين بإعادة النظر في مفهوم «الحاكم الشرعي» ومؤديات هذا المفهوم.

أعلم أن بعض من سيقرأ هذا المقال سيقلل من أهمية هذا الطرح بحجج منها الاعتقاد أن الولاية في الأمور الحسبية التي تشكل الأساس لصلاحيات «الحاكم الشرعي» وفق الفقه الشيعي الاثني عشري، لا خطر منها، فهي لا ترقى إلى التوجيه السياسي الملزم، وإنها منحصرة في شأن عباديّ صِرف. كما أن بعض مَن سيقرأ هذا المقال سيودّ أن يجر النقاش ناحية صحة الأحاديث والروايات وناحية العلوم المتعلقة بالجرح والتعديل والرجال، وهذه تفرعات لا يستهدفها هذا المقال، فليست مهمة عندي صحة الأحاديث من عدمها وفق معايير أهل علم الحديث وعلم الجرح والتعديل وعلم الرجال، وإنما المهم عندي هو الأثر الفعلي الناتج عن الاشتغال على تلك الأحاديث.

الفقه والتطوير

إذن فالتقليل من أهمية مساءلة المشتغلين بالفقه عمّا يمنعهم من إعادة النظر في بعض التعريفات الفقهية المؤثرة في حياة الناس، هو تقليل في غير مكانه، وقد تختلف دوافع المقاومين لهذا الطرح؛ فبعضهم يقاوم لأسباب تتعلق بمصلحة له في بقاء الحال على ما هي عليه، وبعضهم سيقاوم لأنه فاقد المؤهلات اللازمة لاستقبال مثل هذا الطرح، والاستعداد لمناقشته.

وددت القول قبل الختام إن نزوع الدولة تجاه إنضاج الحالة المدنية لمعنى المواطنة، يستوجب العمل على ما يضمن سلاسة وسلامة التحول إلى الحالة المدنية الناجزة التي لا تهدد الأسس العقائدية لأي فئة كانت، ما لم تكن تلك الأسس في ذاتها تحمل ما يهدد سلامة الوطن ووحدته؛ فتحول الدولة إلى الحالة المدنية الناجزة لا يسعى بأي شكل إلى المساس بالعقائد الأساسية، ولا يعدو الأمر حدود الحاجة إلى شيء من الحداثة الفقهية؛ حيث يُفترَض في الفقه أنه كائن حي قابل للتطور ومواكبة متطلبات الحياة، وإذا أظهر الفقه جرعة فائضة من الجمود والسكينة، والتجأ مستسلماً إلى ما كتبه الأولون في ظل ظروف حياتية مختلفة عن الظروف الحياتية الراهنة ومتطلباتها، فإن الاجتهاد والاستنباط يصبحان بلا معنى. وما الفقاهة دون الاجتهاد والاستنباط؟!

عن "الشرق الأوسط" اللندنية




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية