هل يؤثر المثقف في مجتمعه أم يتأثر به؟

هل يؤثر المثقف في مجتمعه أم يتأثر به؟

هل يؤثر المثقف في مجتمعه أم يتأثر به؟


11/03/2021

يتواتر الحديث في الآونة الأخيرة عن دور المثقف في المجتمعات المأزومة سياسياً، واجتماعياً والتي تعاني من توترات ونزاعات إثنية وطائفية، والأهم من ذلك كله المجتمعات المنهارة اقتصادياً، كسوريا والعراق ولبنان، فهل بوسع المثقفين أن يسهموا في تعافي مجتمعاتهم وإحداث تغييرات جوهرية في بنياتها المعرفية والثقافية والأخلاقية؟ والسؤال الأهم: هل تلك المجتمعات قابلة للتغيير الثقافي والمعرفي والأخلاقي أو جاهزة له؟ لعل الإجابة عن أحد هذين السؤالين، بالسلب أو بالإيجاب، تحدد الإجابة عن السؤال الآخر، لأن قدرة المثقف على التأثير مشروطة بقابلية المجتمع للتأثر.

 يعتبر البعض المثقف مسؤولاً لا عن الجرائم المرتكبة بمجتمعه فقط بل وعن التي يمكن أن تُرتكب

نعني بالمثقف في هذين السؤالين المثقف التنويري والمثقفة التنويرية؛ لأن تأثير المثقف التقليدي والمثقفة التقليدية ليس موضع شك وتساؤل، والثقافة المعنية، من ثم، هي الثقافة التنويرية الحديثة، المتمحورة على كرامة الإنسان (الإنثى والذكر، الرجل والمرأة) وجدارته/ـا وحرياته/ـا وحقوقه/ـا، قبل أي شيء آخر.

اقرأ أيضاً: كيف ساهمت السياسة في صناعة مفهوم المثقف مجتمعياً؟

عرّف "ماكس فيبر" المثقف بأنه "من يحمل صفات ثقافية وعقلانية مميزة، تؤهله للنفاذ إلى المجتمع"، ورأى "إدوارد شيلز" أن "المثقف هو المتعلم الذي يملك طموحاً سياسياً للوصول إلى مراكز صنع القرار"، أما "هشام شرابي" فرأى في المثقف أنه "الشخص الملتزم والواعي اجتماعياً بحيث يكون بمقدوره رؤية المجتمع والوقوف على مشاكله وخصائصه وملامحه".

اقرأ أيضاً: المثقف والمسدس

تشير التعريفات السابقة، كما تشير تعريفات كثيرة غيرها، إلى أهمية المثقف في مجتمعه وإلى الدور الريادي النهضوي أو التقدمي أو التنويري الموكل إليه وأثر هذا الدور في تنمية الوعي الاجتماعي وتطويره أولاً، وتنمية الوعي السياسي وتطويره ثانياً، مع أنه يصعب فصل الحياة السياسية عن الحياة الاجتماعية. ويذهب بعضهم إلى اعتبار المثقف مسؤولاً لا عن الجرائم المرتكبة في مجتمعه فقط، بل هو مسؤول عن الجرائم التي يمكن أن ترتكب أيضاً، والمثقفة كذلك بطبيعة الحال.

اقرأ أيضاً: المثقف والسلطة: في سبيل من يجب أن تضحي الجماهير؟

لكن ما نراه جلياً في المجتمعات المأزومة، كالمجتمع السوري أو العراقي أو اللبناني يبين ضمور التأثير الإيجابي للمثقفين والمثقفات في هذه المجتمعات، بل يمكن الحديث عن تأثير سلبي جراء انغماس المثقفين والمثقفات في النزاعات الإثنية والطائفية والأيديولوجية عموماً، من جهة، وجراء تبعيتهم للسلطة القائمة أو الممكنة (المعارضة)، من جهة أخرى، باستثناء قلة من المثقفين والمثقفات المهمشين والمهمشات، والمنفيين والمنفيات إما داخل أوطانهم أو إلى خارجها.

اقرأ أيضاً: أي تأثير للكورونا على المثقفين؟

هذا ما يمكن لكل شخص أن يتبينه، في ضوء تلاشي الدور النهضوي والتنويري للمثقفين والمثقفات في سائر المجتمعات العربية، بعد سيطرة القومويين والإسلامويين على الفضاء الثقافي، وفي ضوء تدني مكانة المثقف في المجتمع مقارنة بمكانة الزعيم التقليدي أو رجل الدين أو بمكانة ضابط في الجيش أو المخابرات أو بمكانة زعيم عصابة أو قائد ميليشيا.

السلطة لا تنتج إلا ثقافة سلطوية تعيد إنتاج التسلط والاستبداد والتخلف والإقصاء

ما تقدم يجعلنا نفترض أن تأثير المثقفات والمثقفين في مجتمعاتهم يتحدد بثلاثة عوامل أساسية: أولهما مكانة المثقف والمثقفة في المجتمع المعني، والثاني هو استقلال الثقافة، بصفتها سلطة معرفية وأخلاقية ناعمة، عن السلطة السياسية الغاشمة في البلدان المأزومة المشار إليها، وفي سائر البلدان التي تعيش تحت نير التسلطة والاستبداد، وفي مستنقعات الفساد، والثالث هو طبيعة العلاقة بين ثقافة المركز وثقافة الهامش، ومدى توازن الحياة الثقافية أو عدم توازنها تبعاً لتوازن الحياة الاجتماعية والحياة السياسية أو عدم توازنهما، إذ لا يتحقق هذا التوازن إلا حين تكون العلاقة بين ثقافة المركز وثقافة الهامش تفاعلية وتكاملية، وإلا تكف الثقافة عن كونها حقلاً وطنياً عاماً، وتتكرس في كل من المجتمعات الصغيرة، وفي المجتمع الكبير، ثقافتان: سائدة ومسودة، (مركزية وهامشية)، وتكون العلاقات الاجتماعية والسياسية علاقات غلبة ومغلوبية.

اقرأ أيضاً: هل ينطق المثقف بلسان مجتمعه؟

منذ عشر سنوات مضت؛ القسم الأكبر من المثقفين والمثقفات السوريين والسوريات منغمسون في الحرب القذرة، التي لمَّا تنتهِ بعد، ومنقسمون ومنقسمات بين موالين ومواليات لسلطات الأمر الواقع ومعارضين ومعارضات لهذه السلطات، حتى باتت مواقفهم لا تختلف عن مواقف العامة، ففقد كل فريق منهم ثقة الفريق الآخر واحترامه، وفقدوا جميعاً القدرة على التأثير في المجتمع، وتشظى الحقل الثقافي وفق تشظي الحقلين الاجتماعي والسياسي، وتصحّرت الحياة الثقافية، وطغت ثقافة الأمر والطاعة والخوف والانقياد.

اقرأ أيضاً: المثقف إذ ينسحب تاركاً الساحة للتفاهة وللتشدّد والإرهاب

"الخبرة العملية هي الدليل الذي يميّز المثقف أو المفكر في كل مجتمع" حسب رأي "إدوارد شيلز"، إذا تساءلنا: من أين تنبع تلك الخبرة العملية، هل هي من حاجة المجتمع التي يلتقطها المثقف لكونه الأكثر تميزاً بين الأفراد، أم من حاجة المثقف نفسه لزيادة المعرفة والوعي؟

انعدمت الثقة بين أفراد المجتمع ومثقفيه ومثقفاته وانتقلت إلى الجهة الأكثر أماناً لضمان استمرار الحياة

تلك الجدلية أو الإشكالية التي قد تكون معقدة إلى حدٍ ما، يجيب عليها "شيلز" نفسه في تتمة حديثه "... يمثل المثقف طرفين متباعدين: إما أن يعارض المعايير والأعراف السائدة، أو يتخذ الموقف الذي يسمح بالتكييف والتوافق، إذ ينحصر في توفير النظام والاستمرار في الحياة العامة"، وفي تقديرنا أن الشق الأول من حديث "شيلز" هو ما يجب أن يكون عليه المثقف، أي معارضة المفاهيم السائدة، وتلك المفاهيم هي التي تجعل من الوعي المجتمعي قاصراً وناقصاً، لأنها من المسلمات الناجزة غير قابلة للنقاش أو التغيير، وبالتالي هي التي تُشعر المثقف بالحاجة الماسة إلى زيادة المعرفة لتصحيح تلك المسلمات، وإلاّ فقد تُنتج تلك المفاهيم "مثقف سلطة" كما أسماه "إدوارد سعيد" لأن "تلك المفاهيم ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالأمة، والأمة هي التي تأمر وتنهي وتؤمن بمذهب النصر والغلبة" حسب تعبيره، كما أنها تفرض مبدأ الولاءات والخضوع، لا مبدأ البحث والتفكير والاستقصاء، ومبدأ الشك في المعرفة الذي يأخذنا إلى اللاحتمية.

اقرأ أيضاً: المثقف والفقيه.. هل من قطيعة بينهما؟ وكيف يمكن أن يواجها التطرف؟

أجل، لقد انعدمت الثقة بين أفراد المجتمع وبين مثقفيه ومثقفاته، وانتقلت الثقة إلى الجهة الأكثر أماناً لضمان استمرار الحياة، وهي الجهة الأكثر ضيقاً والأكثر تخلفاً، كالعائلة والعشيرة، والطائفة، وإلى الفصائل المسلحة وقوى الأمر الواقع أيضاً. فالسلطة لا تنتج إلا ثقافة سلطوية تعيد إنتاج التسلط والاستبداد والتخلف والإقصاء، وتبني سداً منيعاً بين الفرد وبين حرية التفكير، لتبقى المجتمعات كما تريد السلطة وتشتهي.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية