هل يدفع الأتراك ثمن مغامرات أردوغان وحساباته الخاطئة؟

هل يدفع الأتراك ثمن مغامرات أردوغان وحساباته الخاطئة؟


16/08/2020

ترجمة: علي نوار

في خضم الحرب التي يشنها تنظيم داعش على العالم؛ يظهر ما يصفه عدد من المحلّلين بـ "الحليف الزائف"؛ رجب طيب أردوغان، الدور المزدوج الذي يلعبه، ونزعاته الاستبدادية التي لا تتوقف، والتهديد المستمرّ الذي يلوّح به في وجه الأكراد، كلّها أوراق يستغلّها التنظيم الإرهابي على أفضل نحو ممكن.

ومنذ بداية اندلاع الأزمة السورية، دأبت تركيا، ومعها قطر، على دعم المعارضين الإسلامويين بكلّ ما يحتاجون إليه، وبشكل يفوق المعارضة الديمقراطية، لتتعزّز بالتالي هيمنة الإسلامويين على ائتلاف المعارضة.

ترفع تركيا اللواء "الإسلامي العثماني" عند تدخلها في ليبيا، متحدّية كلّاً من الولايات المتحدة وفرنسا وروسيا، ولا ترى سوى احتياطات البلد العربي الهائلة من الغاز والبترول

 وإذا كان أردوغان قد فعل كلّ ما يلزم لإغلاق حدوده مع سوريا المحتلة؛ فإنّ داعش لم يكن لينجح أبداً في الحصول على التمويل عن طريق تهريب النفط واستقدام هذا الكمّ من المقاتلين الأجانب، أو حتى إرسال العائدين منهم، أم إنّ أجهزة استخبارات وشرطة أردوغان لم يكونوا على دراية بكلّ ذلك؟ لا، إنّ إمكاناته القمعية حين يتعلّق الأمر بالديمقراطية معروفة للجميع.

من الوارد أنّ الانقلاب العسكري الذي شهدته تركيا، في 15 تموز (يوليو) حقيقي؛ انقلاب هواة لم يجرِ التجهيز له جيّداً، إلّا أنّ ردة الفعل الحكومية في المقابل بدت مخطّطاً لها بعناية؛ فقبل انتهاء ذلك الشهر كان 50 ألف عسكري وشرطي وقاضٍ وأستاذ جامعي وعميد كلّية قد أقيلوا من مناصبهم، أو تعرّضوا للاعتقال، ومنذ ذلك الحين، يرتفع الرقم بشكل مستمر، كما تمّ إغلاق كلّ وسائل الإعلام المعارضة تقريباً، في سابقة لم تحدث من قبل.

حملات الملاحقة اللانهائية

وتضرب حملات الملاحقة الموسّعة واللانهائية هذه، بلا تمييز، جميع التيارات المعارضة للنظام، سواء كانت علمانية أو من أتباع فتح الله غولن، لكن يبدو أنّ الرئيس التركي صبّ جام اهتمامه على غولن، القيادي الإسلاموي الذي يمتلك إمبراطورية مالية، ويعيش في المنفى بالولايات المتحدة، معتبراً أنّه من يقف وراء محاولة الانقلاب.

والحقيقة؛ أنّه كانت هناك فترة، ليست ببعيدة للغاية، تعاون فيها أردوغان وغولن في التدبير لإسقاط النظام العلماني في البلاد، وبعد نجاحهما في تحقيق هذا الهدف، وقفز أردوغان على السلطة، حاول الأخير تأميم شبكة المدارس الدينية الكبيرة التابعة لغولن، بغرض تحويلها لمدارس عامة، الأمر الذي كان سيسمح بارتداء غطاء الرأس للإناث من سنّ مبكّر للغاية.

على أنّ غولن لم تظهر له أيّة بصمة في المحاولة الانقلابية، أو الصحف المؤيّدة له، أو حتى القضاة الموالين له؛ لكنّ أردوغان يرى ظلّ غولن في الفضائح الإعلامية والقضائية التي كشفت مؤخّراً حجم الفساد المستشري في نظامه، هذا هو الدافع الحقيقي وراء الحرب الضروس بين الأتراك الإسلامويين فيما بينهم، المال وليست الأيديولوجية.

اقرأ أيضاً: إمبراطورية أردوغان تجذب الأعداء وتنفر الأصدقاء

أدرك الأوروبيون، بعد الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، أنّه من الأفضل لهم الإبقاء على تركيا حاجزاً كي لا تكون لهم حدود مع العراق وسوريا وإيران

في المقابل؛ فإنّ الأمر كان يتعلّق بالأفكار فعلاً، حين وأد أردوغان كافة صور الحراك الديمقراطي والعلماني في البلاد، وبعد أن أخمد الاحتجاجات المطالبة بالديمقراطية في ميدان تقسيم، شنّ حملة تطهير في صفوف القوات المسلّحة، للتخلّص من المؤمنين بأفكار مصطفى كمال أتاتورك.

اقرأ أيضاً: كيف توسع أردوغان في الصومال؟ وما القطاعات التي وضع يده عليها؟

كلّ هؤلاء الذين كانوا يحاولون إشاعة الهدوء، ويتحدّثون عن إسلاموية معتدلة، ويقصدون بها أردوغان، ارتكبوا خطأً كبيراً، ينتهي الحال دوماً بالسياسيين الذين يدّعون أنّهم مسنودون بالسماء إلى الاستهزاء بالقوانين، وفي ظلّ إعادة انتخابه وسط ظروف مثيرة للشكوك، لا ينبغي، على الإطلاق، أن يتحدّث أردوغان اليوم باسم الديمقراطية، بينما يجسّد نموذج المستبدّ المعاصر: بداية من الحركات الإسلاموية التي نشأ في كنفها، وحلم إعادة إحياء النزعة الاستعمارية للخلافة العثمانية، والوسائل الشمولية لأتاتورك، وحتى الفساد.

 هذا هو الشخص الذي يجري الاعتماد عليه في الحرب ضدّ التطرّف، وقد أدرك الأمريكيون، كما اعتادوا، هذه الحقيقة متأخرين للغاية، رغم أنّهم لم يقرّروا التخلّي عنه بعد.

أردوغان يكشف عن لعبته المزدوجة

أما على الأرض؛ فإنّ أردوغان يكشف بوجه سافر عن لعبته المزدوجة، فيرسل دباباته لمواجهة أكراد روجافا (كردستان السورية)، وبدعم من ميليشيات شبه عسكرية من اليمين المتشدّد، مثل تنظيم (الذئاب الرمادية)؛ إنّه مستعدّ لبذل أيّ ثمن في سبيل الحيلولة دون تمكّن الأكراد من اجتثاث جذور تنظيم داعش، ومن ثمّ الحلم بإنشاء دولة كردية قريبة جداً من حدوده.

 والمثير للدهشة هنا؛ أنّ عناصر التنظيم الإرهابي تنسحب من مدن بعينها كي تسمح بنشوب مواجهة مباشرة تشقّ وحدة صفّ التحالف، ربما يكون لدى حزب العمال الكردستاني عيوب كبيرة، مثل تنفيذ هجمات انتحارية بذريعة الدفاع عن قضيّته، لكن في المقابل يطالب أوغلان بهدنة من زنزانته.

اقرأ أيضاً: طموحات أردوغان… مغامرات لا أفق لها

من الضروري منح الحماية للمسلّحين الأكراد، بما يشمل الكتائب النسائية ووحدات الحماية الشعبية في سوريا، فهم مقاتلون أشدّاء وحلفاء ذوو أهمية كبيرة في الحرب ضدّ التنظيمات الإسلاموية، تجب حمايتهم من قبضة أردوغان بأيّة طريقة، خاصة أنّ وضع أردوغان داخل التحالف لا يمكن أن يكون ذريعة يلاحق بها المعارضة في الداخل التركي، ويرتكب المذابح بحقّ الأكراد ويضرب وحدة المقاومة، وربما حتى تغذية مشروع خلافة تركية بديلة، قد تكون أخطر، وتستغرق وقتاً أطول وتشغل حيّزاً مكانياً أوسع من داعش.

لطالما أثارت دولة تركيا الجدل على مدى المراحل التي مرّت بها؛ بداية من الحقبة العثمانية، ثم العلمانية و"الحديثة"، انتهاء بالعصر "الأردوغاني" في الأعوام الأخيرة، لكنّ العامل المشترك بين هذه الفترات جميعها كان اضطهاد الأقلّيات العرقية والدينية، التي قاست ويلات آلة عسكرية ومنظومة فكرية لا تستطيع استيعاب الاختلافات، ولا حتى تقبّل المعارضة.

الخطّ المتأرجح بين الإبادة والقمع

وتاريخياً؛ يوجد في تركيا هذا الخطّ المتأرجح بين الإبادة والمذابح المخطّط لها، والقمع والقضاء على قطاعات واسعة من الشعب تحت ذريعة الأمة أو العلم أو الدولة، بدأ هذا النهج مع أواخر القرن التاسع عشر، بتفكّك الإمبراطورية العثمانية، ويُعاد إنتاجه بصورة طبق الأصل تقريباً، مع وصول الرئيس الحالي إلى سدّة الحكم.

اقرأ أيضاً: هل انقلبت جماعة إسماعيل آغا على أردوغان وحزبه؟

ويأتي تحويل آيا صوفيا من متحف إلى مسجد في هذا السياق، وتحديداً في التوقيت الحالي، من أجل محاولة إخفاء سلسلة من الإخفاقات التي وضعت حزب العدالة والتنمية ورئيسه أردوغان، وتبييض وجهه عن طريق إجراءات وشعارات قومية ودينية.

فحينما أشارت استطلاعات الرأي، عام 2019، إلى أنّ حزب العدالة والتنمية سيخسر الانتخابات البلدية في مدينة إسطنبول، بالغة الأهمية، وعد أردوغان خلال اجتماع بأداء الصلاة في آيا صوفيا إذا فاز الحزب ببلدية إسطنبول، لكنّه خسر رغم ذلك؛ ربما لم يتذكّر الرئيس التركي وقتها مقولة ماركس التي تقول إنّ "الاقتصاد له الكلمة العليا"، لذلك لم يكن مكان الصلاة هو الشاغل الأكبر "للمسلمين" العاطلين عن العمل في تركيا، والذين لا يملكون منازل تأويهم، علاوة على الدكتاتورية الوحشية التي يعيشون في ظلّها.

وتر الحنين إلى الماضي

ويحاول أردوغان اللعب على وتر الحنين إلى الماضي لدى غلاة القوميين الأتراك والمتشددين من المتدينين، بينما يبتعد عنه وعن خطابه الليبراليون.

كما أنّ الأزمة الاقتصادية التي تعانيها البلاد، تفاقمت حدّتها مع ظهور فيروس كورونا، الذي وجّه ضربة مؤلمة للسياحة التركية، والتي استقطبت العام الماضي 45 مليون زائر، أنفقوا 34 ملياراً و500 مليون دولار.

وتسبّب إضفاء نبرة عسكرية على السياسة الخارجية في زيادة الطين بلة، اقتصادياً واجتماعياً، خاصة أنّ تركيا متورطة بالفعل في حربين بسوريا والعراق علاوة على ليبيا، لاستعادة "أمجاد الماضي"، رغم أنّ بشار الأسد ما يزال في منصبه بسوريا، حتى مع إنفاق تركيا مليارات الدولارات في سبيل إطاحته؛ لذا كان تحويل آيا صوفيا إلى مسجد هو الانتصار الوحيد المتاح لأردوغان.

بالمثل، يحاول الرئيس التركي بهذه الخطوة زيادة شعبيته داخل أروقة حزبه نفسه، بعد ظهور أصوات ناقدة له بسبب إدارته للملفّ الكردي على وجه التحديد، فضلاً عن فضائح الفساد المالي التي تورّط فيها وأسرته، والاعتقالات التعسّفية لما يقرب من 150 ألف شخص، بينهم 120 صحفياً، ووقائع التعذيب والانتهاكات التي ترتكبها أجهزة الاستخبارات، التي تعيد إلى الأذهان أسوأ أعوام فترات الاستبداد العسكري.

ويظنّ أردوغان أنّه بتحويل آيا صوفيا إلى مسجد، ينتقم من أوروبا التي أوصدت أبوابها في وجهه إلى الأبد؛ فقد أدرك الأوروبيون، بعد الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، أنّه من الأفضل لهم الإبقاء على تركيا حاجزاً كي لا تكون لهم حدود مع العراق وسوريا وإيران، كانت هذه الصفعة بالتأكيد وراء توجه تركيا نحو التقارب مع روسيا وإيران والصين.

ومن شأن الانتقادات الدولية أن يستغلّها أردوغان ليقدّم نفسه في صورة الوحيد القادر على حماية تركيا، التي يدّعي أنّ الجميع يعاديها.

أزمة هوية

طوال عقود، كانت الدكتاتورية العسكرية هي الوصي على العلمانية بمفهوم معاد للدين، وهو ما كان عاملاً سلبياً في تبرير فصل الدين عن السلطة، كما أنّه مع إبعاد المؤسّسات الدينية عن الساحة العامة، ظهرت أفكار لملء الفراغ الناشئ، وبشكل سمح لأفكار الإخوان المسلمين بالظهور على السطح، لتبدأ في تلاعبها بالهويات وتشرع في إدخال تركيا إلى عملية "الجمهورية الإسلامية".

وتمحورت هذه العملية حول إضفاء مزيد من "الإسلام"، والحدّ من "القومية التركية"؛ حيث إنّ 20% من الأتراك هم أكراد مسلمون، بقيادة شخصيات مثل أردوغان، لكنّ إجراءات اتخذها أتاتورك، مثل اعتماد التقويم المسيحي-الغربي، أو تغيير العطلة الأسبوعية من يوم الجمعة الإسلامي إلى الأحد المسيحي، أحدثت اضطراباً في تركيا بين العلمنة و"التغريب"، ما نتج عنه استياء بعض الأوساط في المجتمع التركي.

وتنعكس كلّ هذه المتناقضات في صورة التدخل من المنطلق "التركي" في النزاع بين أرمينيا وأذربيجان، ومساندة أنقرة لباكو، ثم ترفع تركيا اللواء "الإسلامي العثماني" عند تدخلها في ليبيا، تحدّية كلّاً من الولايات المتحدة وفرنسا وروسيا، ولا ترى سوى احتياطات البلد العربي الهائلة من الغاز والبترول.

مصادر الترجمة عن الإنجليزية:

https://bit.ly/31KMAOg
https://bit.ly/31RI28M



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية