"بيدرو بارامو" لخوان رولفو: تاريخ بأكمله في مئة صفحة مدهشة

"بيدرو بارامو" لخوان رولفو: تاريخ بأكمله في مئة صفحة مدهشة


26/11/2018

إبراهيم العريس

لى الأقل في قلة إنتاجه ولكن أيضاً في لغته الشاعرية المكثفة، يكاد الكاتب المكسيكي خوان رولفو، يبدو في مسيرته الإبداعية كما في مسيرته الحياتية الى حد ما، شبيهاً بالكاتب المصري الراحل إبراهيم أصلان. فرولفو، كما أصلان، يكاد يكون معروفاً في جميع أنحاء العالم برواية واحدة قد لا يتجاوز عدد صفحاتها في أية لغة ترجمت اليها ولا سيما في أصلها الإسباني، المئة صفحة- كذلك حال «مالك الحزين» رواية أصلان الأساسية، كما نعرف -، كذلك فإن الرواية التي نحن في صددها للكاتب المكسيكي حُوّلت ذات عام فيلماً قد لا يعتبر من تحف السينما العالمية، لكنه بالتأكيد- وكما حال «الكيت كات» المقتبس عن «مالك الحزين»- واحد من أغرب الأفلام المكسيكية وأكثرها إثارة للحيرة. وطبعاً لن نستطرد هنا في هذه المقارنة إنما نريد أن نقول فقط إن خوان رولفو - وكما أصلان - لم ينعم طويلاً بالاعتراف العالمي المتأخر به. إذ رحل عن عالمنا وهو في قمة عطائه، لتبقى «بيدرو بارومو» درّته وحيدة في تاريخ الأدب العالمي. لكن هذا لم يكن حالها أواسط خمسينات القرن العشرين حين صدرت للمرة الأولى من دون أن ينتبه اليها أحد. ولكن بالتدريج راحت الرواية تكتسب مكانتها ولا سيما عندما راح يكتب عنها كبار الكبار في أدب أميركا اللاتينية معتبرينها نيزكاً وعملاً رائداً وقطعة من «حلم أو كابوس سوريالي».

كلهم إذاً، من غابريال غارسيا ماركيز الى بورخيس ومن كارلوس فوينتيس الى بارغاس يوسا وصولاً الى آليخو كاربانتييه، على تنوع مشاربهم وتوجهاتهم، نظروا الى «بيدرو بارامو» بوصفها «أعجوبة أدبية» ورأى كبار النقاد والمؤرخين أنها كانت وراء الكثير من الاندفاعات التي تبعتها وأنتجت لأدب تلك القارة المدهشة أعمالاً أقل ما يقال فيها أنها أعادت الحياة الى فن الرواية نفسه. ولئن كان في إمكاننا أن نفهم حماسة بورخيس حين قال أن «بيدرو بارامو» هي واحد من أهم مئة عمل أدبي أنتجها الإنسان في تاريخه، فإن من الصعب علينا أن نفهم حماسة كتاب واقعيين بل حتى أيديولوجيين ما كان من شأن هذه الرواية أن تغريهم بـ «مقابريتها» وسورياليتها وحتى بـ «وقاحتها» ناهيك بامتلائها بالحوارات على حساب الفعل على عكس الحادث عادة في أدب أميركا اللاتينية. ومع هذا حققت «بيدرو بارامو» معجزتها الصغيرة وحازت خلال مسيرة تزيد الآن عن نصف قرن، على مكانتها المتقدمة في أدب لا يزال قادراً على أن يفاجئنا. فما الذي يغري في هذه الرواية؟

ليس موضوعها بالدرجة الأولى. فهي أولاً وأخيراً تتخذ سمات أدب البحث عن الأب، لكنها من خلال هذا البحث تتسم أيضاً بكونها رواية بحث عن الذات. كما أنها رواية تقوم على البحث عن الزمان والمكان متضافرين. حيث إن الشخصية المحورية هنا، خوان بريسيادو، يقوم طوال الرواية بتلك الرحلة التي يفتح الحديث عنها بصورة مباشرة منذ السطور الأولى «لقد أتيت الى كومالا إذ قيل لي أن هنا في هذا المكان كان يعيش أبي، المدعو بيدرو بارامو. كانت أمي هي من أخبرني بهذا فوعدتها حينها بأنني سوف أتوجه للبحث عنه ما إن تُسلم هي الروح، ولقد شددت على يدها على سبيل تأكيد الوعد أنا الذي كنت في تلك اللحظة مستعداً لأن أعدها بأي شيء. وهي قالت لي موصية: لا تستنكف عن الذهاب للعثور عليه(...) وانني واثقة من أنه سيسر بالتعرّف اليك...». وعلى هذا النحو، ينطلق خوان في رحلة البحث التي تشكل أساس موضوع الرواية، بيد أن هذه لا تتوقف هنا بالطبع.

وذلك لأن البحث عن الأب لن يقود خوان في نهاية الأمر إلا الى مدينة أشباح حقيقية، أي ليس بالمعنى المجازي للكلمة. وهو يحكي لنا انطلاقاً من مقاطع من حوارات تروى له، أو حتى ترد هكذا من دون أن يرويها أحد، وتعزى غالباً الى أبيه الذي كان يعيش في تلك البلدة ويتزعمها في وقت كانت فيه مزدهرة عامرة بالبشر والأعمال والمطاعم والحانات. كانت مدينة حية لكن خوان لم يعرفها حين كانت على تلك الحال، بل يعرفها من خلال الحكايات وكذلك الحال بالنسبة الى أبيه الذي سيعرفه من خلال الرحلة أكثر وأكثر، إنما بما تنقله اليه مجموعة من نساء يقابلهن في طريقه وكل واحدة منهن ارتبطت ذات يوم بأبيه امرأة له أو عشيقة أو خادمة. ثم بخاصة من خلال ذلك السائق الذي كان يمر صدفة بشاحنته فطلب منه خوان أن يقله وقد أضحى على مشارف البلدة فيفعل ليكتشف أن ذلك الرجل هو بدوره... ابن بيدرو بارامو ويدعى ميغيل بارامو. مهما يكن فإن خوان الذي يطالعنا منذ بداية الرواية بإخبارنا عن سبب قيامه برحلة البحث، سوف يتوقف عن إخبارنا بما يحدث له في منتصفها وذلك بالتحديد لأنه سيموت خلال رحلته، سيموت لخوفه مما يكتشف في المدينة: لقد باتت مدينة أشباح وكل الكائنات التي سيلتقيها هناك ليست في حقيقتها سوى أشباح يلاحقونه بحكاياتهم وشكاواهم هم الذين كانت لكل منهم حكاية مع بيدرو بارامو. أما بقية الحكاية والتي تلي موت خوان المفاجئ فترويها لنا دوروتيا، متسولة البلدة التي تروي لنا ولخوان حكاية كومولا وما حدث فيها قبل موت بيدرو... لكن حكايتها التي تصل مباشرة الى أسماع خوان إلا وهو في قبره إذ تدفن الى جانبه حين موتها فتتابع الحكاية وهي معه في العالم الآخر وقد أصبحا معاً من «سكان» هذه البلدة. ومع هذا كله تبقى الشخصيتان الرئيسيتان في الرواية بيدرو نفسه، وسوزانا سان خوان. ولسوف نعرف بالتدريج من خلال ما تحكيه الأشباح لبيدرو فيُنقل إلينا ثم من خلال ما تحكيه دوروتيا، أن بيدرو كان وبلدة كومالا شيئاً واحداً. فهي كانت قبله مرجاً خاوياً - وهذا ما يعنيه اسمه بارامو على أي حال - لتصبح من بعده مدينة أشباح لا حياة فيها.

كل شيء هنا إذا بما في ذلك حياة البلدة وموتها، يرتبط ببيدرو بما في ذلك انتماء عدد كبير من سكانها اليه برابطة البنوة. فهو أقام عدداً كبيراً من العلاقات مع نساء أنجبن له عدداً لا يحصى من أبناء سنتعرف خلال الرواية على ثلاثة منهم، فإلى جانب بيدرو، راوية النصف الأول والسائق ميغيل، لدينا أيضا أبونديو مارتينيث الأصم قليل الكلام والذي يقوده انفعاله، ودائماً كما يُروى لنا، الى قتل زوجته فيقبض عليه ويساق الى مركز الولاية ما ينقذه ربما من المصير المقابري الذي كان لكومالا. صحيح أن صفحات الرواية المئة تزدحم بعدد كبير من الشخصيات الثانوية الى جانب تلك الرئيسية. ومع هذا، فإن الاسم الذي يعود الينا في كل فقرة وأخرى هو بالطبع اسم بيدرو الذي نتابع حكايته منذ طفولته التي يطبعها هيام مستحيل بسوزانا وصولاً الى موته وقد بلغ أوج قوته وجبروته وتحكّمه في البلدة وسكانها، إذ حولته خيباته في الحب وانهماكه، في المقابل في العلاقات الجنسية حتى مع نساء لا يبالي بأن يعرف أساءهن تاركاً عند كل واحدة من هنّ ابناً لن يقيّض له أن يتعرف اليه أبداً. فهو بعد كل شيء منهمك في بناء هذه البلدة التي اتفق مع الثوار حين وصلوا الى الحكم أن يكون هو راعيها وحاكمها، وبالتالي طاغيتها المتحكم بكل شيء ولكن بخاصة باقتصادها وزراعتها وتوزيع الحبوب فيها ما يجعله متملكاً لمصيرها. وهذا ما يفسّر بالطبع كون كومالا قد ماتت بعد موته وتحولت الى مقبرة كبيرة، هي تلك التي يكتشفها خوان في نهاية رحلة بحثه عن ذلك الأب الذي يبدو في نهاية الأمر وكأنه منتم الى الأساطير اليونانية باحثا بدوره عن مطلق لا يتمكن من العثور عليه على الإطلاق.

مهما يكن من أمر لا بد من الإشارة الى أن قوة «بيدرو بارامو» لم تكن أبداً في موضوعها فهو يتكرر بوفرة في أدب أمريكا اللاتينية، وإنما في لغتها وفي هندستها خاصة، حيث يقول لنا رولفو (1917 - 1986) نفسه أنه إنما صاغ مقاطع الرواية كما يفعل النحات «بالحذف، حيث انني كتبت أولا مئتين وخمسين صفحة ثم رحت الغي وأختصر متخلياً عن كل زيادة»، حتى استقرت الرواية على شكلها المتقشف الذي وصلنا حاملاً ما هو أساسي في لغة ندر ما عرف الأدب العالمي شبيها لها في تكثيفها.

عن "الحياة" اللندنية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية