أطفال الشوارع: صرخة تنتظر من يصغي إليها

أطفال الشوارع: صرخة تنتظر من يصغي إليها

أطفال الشوارع: صرخة تنتظر من يصغي إليها


11/06/2023

بات من المألوف مشاهدة الأطفال وهم يتسولون في الشوارع برفقة آبائهم أو وحدهم. لكنّ الأقسى من هذا هو منظر أطفال رُضّع وهم نيام على الأرصفة طوال الوقت، أو أطفال في أعوامهم الأولى وهم يغالبون النوم -بفعل التخدير أو المنومات- إلى جوار من نعتقد أنّهم آباؤهم، وأمام مرأى السلطات الحكومية والدينية والمدنية بمنظماتها التي تقتات على كل ما يتعلق بالطفولة. نحن أمام اتّجار بالبشر، والفارق هنا هو أنّ التاجر ليس غريباً. وربما لهذا السبب لا أحد يدق ناقوس الخطر، وصار المشهد المستهجن مع الوقت مألوفاً، وبات تحرير هؤلاء الأطفال مستحيلاً؛ لأنّ هؤلاء الأطفال، بحسب العُرف، ملك لآبائهم بصكّ الدم وبعقد موثق من الدين والقانون، ولغياب مأوى بديل أو قوانين ومؤسسات فاعلة تحمي الطفولة كما هو الحال في بلاد الله.

الشارع حلم ونقمة

يقرر مصطلح "أطفال الشوارع" أنّ الأطفال هم ملك للشوارع، وربما يظلون كذلك، في دول ينتظر مشرِّعوها مسلسلاً دراميّاً، وصل إلى مرتبة الترند، ليقرروا استصدار قانون قد يظل حبراً على ورق، إلى أن يأتي مسلسل أو فيلم آخر يجعله حقيقة ملموسة. مثل هذه الأعمال قد صُنعت بالفعل، لكنّها لم تأخذ حقها من الاهتمام. مثل الفيلم الوثائقي "البنات دول" عن بنات الشوارع، من إخراج تهاني راشد، 2007. وإضافة إلى قيمته الفنية، هو صرخة لم تجد من يصغي إليها؛ بشهادة الحال الذي لم يتغير، وهو واحد من الأفلام التي تشهد أنّ الواقع هو سينما مصر الحقيقية. سينما صادقة بدون تجميل أو تزييف. تصبح الكاميرا هي عينك، فتتوحد مع الـ "أبلة" التي تقف وراءها، ويصبح البوح والصدق هما رسالة البنات الأخيرة للعالم.

تذكّرني طاطا ومريم وعبير في "البنات دول" بالطفلة نجمية، (13) عاماً، في فيلم وثائقي بعنوان "غريبة في بلادها" لليمنية خديجة السلامي، 2005. ويذكرني بالفيلم الروائي "وجدة" للسعودية هيفاء المنصور، 2012. ويتخذ من الطفلة وجدة وأمها وجهين لحواء: وجه الأم التي تُسيّرها العادات والتقاليد، ووجه الطفلة العنيدة والمتمردة. الفارق هو أنّ البنات في فيلم تهاني راشد مضطرات للتشرد في الشوارع، بينما البنات في الأفلام الأخرى ممنوعات من الخروج إليه. وثمّة رابط يجمع الأفلام السابقة بالفيلم الوثائقي "وفي الليل يرقصن"، للمخرجة الكندية إيزابيل لافين، وتتتبع فيه حياة عائلة من الراقصات الشرقيات، رضا وبناتها الـ (3)، في أحد الأحياء الفقيرة في القاهرة.

لقطة من الفيلم الوثائقي "البنات دول" عن بنات الشوارع، من إخراج تهاني راشد، 2007

بعد أعوام من عرض فيلم السلامي، عادت شروق حسين إلى صنعاء القديمة لترى، في تحقيقها المنشور، أنّ أحلام نجمية قد تبخرت بفعل الضغط الأسري والاجتماعي الذي أجبرها على ارتداء النقاب والخروج من المدرسة، بعد (7) أشهر من تصوير الفيلم الوثائقي عنها. نجمية الطفلة التي تمردت على الحجاب، وكانت تحلم بأن تصبح مترجمة للسياح الأجانب، أصبحت ترتدي النقاب، وقد مرت بحالة زواج فاشلة من رجل يكبرها سنّاً.

العقاب: الأطفال ملك لأنفسهم، ورعايتهم والاهتمام بهم هي مسؤولية أولياء أمورهم بالدرجة الأولى. الأبوة والأمومة هي مسؤولية وليست تملكاً

نجمية هي رمز للأحلام الموؤودة، ليست أحلام البنات فقط، ولكن أحلام اليمنيين جميعاً. والنقاب الذي حجب وجه نجمية المشرق حجب بسواده وجه اليمنيات واليمن كلها. ونجمية هي نجم اليمن الذي أفل... والتي تحولت في إحدى صورها الرمزية إلى "نجوم بنت العاشرة ومطلقة"! في فيلم روائي لخديجة السلامي ومستوحى من قصة حقيقية لفتاة تُدعى نجود علي أرغمها والدها على الزواج من رجل يكبرها بـ (20) عاماً. و"البنات دول" بحاجة إلى عودة مماثلة، بعد مرور (16) عاماً على عرض الفيلم؛ لنرى إلى أين انتهت أحلامهن وتساؤلاتهن وخوفهن ممّا يخبئه لهن المستقبل.

ظاهرة عالمية نسبية

تُصنِّف اليونيسف أطفال الشوارع في (3) فئات: أطفال يعيشون في الشوارع بصورة دائمة أو شبه دائمة وليس لديهم أُسر، أو علاقتهم بهم ضعيفة. وأطفال يعملون في الشوارع في أعمال مختلفة لساعات طويلة يومياً، ومنهم من يعود لقضاء الليل مع أسرهم. وأطفال يعيشون مع أسرهم في الشوارع، وتبعاً لهذا التصنيف قدرت الأمم المتحدة عدد أطفال الشوارع في العالم بحوالي (150) مليوناً. وفي مصر وحدها بلغ العدد، حتى العام 2019، نحو (16) ألف طفل يتوزعون على (10) محافظات، بحسب تصريحات سابقة ليوسف حسني رئيس برنامج "حماية الأطفال بلا مأوى". ويصل عدد الأطفال العاملين في اليمن، قبل 2015، إلى حوالي (1.6) مليون طفل. وقد صاغت الحكومة اليمنية القانون رقم (45) لعام 2002م الخاص بحقوق الطفل في اليمن، ويتضمن مجموعة من الأهداف والتعريفات التي تبقى حبراً على ورق أو تنفذ في حال النزاع في المحاكم؛ فإذا كانت الحكومات لا ترى حقوق الطفل المهدرة في الشوارع، فكيف ستراها وهي منتهكة في البيوت؟

"أطفال الشوارع" ظاهرة عالمية، بحسب أنور العقاب -أخصائي اجتماعي وخبير في العلاقات الأسرية، مقيم في السويد- لكنّها، برأيه، تختلف من دولة إلى أخرى، باختلاف الأسباب التي تدفع بالأطفال إلى الشارع، وباختلاف العوامل الاقتصادية والثقافية والاجتماعية. وبالطبع هناك أطفال شوارع في أوروبا، لكن ليس بمفهوم الدول النامية؛ لأنّ للأطفال هناك حقوقاً كثيرة ووضعهم القانوني قوي، إضافة إلى وجود مؤسسات تعمل من أجل حماية الأطفال ورعايتهم، مثل الأطفال اليتامى أو الذين يعانون من إساءة معاملة من قبل ذويهم.

أطفال الشوارع هنا، وفقاً للعقاب، هم أولئك الأطفال القادمون من بلدان، مثل أفريقيا، ويتم استغلالهم بطرق مختلفة، لكن في نطاق ضيق وبعيداً عن أعين السلطات وغالبية المجتمع. هم أيضاً الأطفال الذين تصعب السيطرة عليهم؛ ولذلك هم لا يستقرون في مكان محدد، ويميلون إلى التمرد، وهنا يأتي دور المؤسسات في إعادة تأهيلهم بالعيش مع عوائل بديلة أو داخل مؤسسات توفر لهم بيئة عائلية شبيهة أو قريبة من أجواء البيت الأسري. لا توجد إحصائيات عن أعدادهم في السويد؛ فأيّ طفل مشرد، تحت سن الـ (18)، له الحق القانوني في الرعاية، بغضّ النظر عن وضعيته: مواطن سويدي أو لاجئ أو بدون أوراق... وثمّة أطفال يفرون من هذه البيئة العائلية البديلة ويفضلون الشوارع، وقد ينضمون إلى العصابات، لكنّ هذا الوضع لا يدوم؛ ويتم إعادتهم إلى مؤسسات الرعاية.

ربّما يكون الحل الذي طبقه محمد علي مناسباً لعصره، وقد يناسب البعض اليوم، لكن لا ينبغي النظر إلى أطفال الشوارع كعبء، فنسخّرهم لخدمتنا، أو تمييزهم عن بقية الأطفال

وعن مشاكل أطفال أوروبا، والسويد تحديداً، قال العقاب: إنّها تختلف عن مشاكل الأطفال في العالم العربي وفي أماكن أخرى في العالم الثالث، مثلما تختلف مشاكل الأثرياء عن مشاكل الفقراء. على سبيل المثال لا يعاني الأطفال هنا من المجاعة أو الفقر أو عدم القدرة على التعليم؛ فالتعليم مجاني، وقد تنحصر مشاكل البعض في التنمر في المدرسة أو في وسائل التواصل، وإدمان الألعاب، أو رغبتهم في الحصول على أحدث إصدار موبايل... إلى غيرها من المشاكل التي تُعدّ كماليات في دول أخرى يعاني الأطفال فيها من مشاكل أكبر وأخطر.

الطفل مواطن حُر

هل الأطفال ملك لآبائهم؟ أم للمجتمع والدولة؟ وبالتالي فتربيتهم في صميم مسؤولية الدولة؟

يجيب العقاب: إنّ الأطفال ملك لأنفسهم، ورعايتهم والاهتمام بهم هي مسؤولية أولياء أمورهم بالدرجة الأولى. الأبوة والأمومة هي مسؤولية وليست تملكاً. فالأطفال أحرار ولهم قراراتهم وأحلامهم، لكن لضعفهم، في هذه المرحلة من عمرهم، فهم بحاجة إلى رعاية وتوجيه الكبار حتى لا يقعوا في المشاكل. وعندما يكون هناك تقصير من قبل أولياء الأمور هنا تتدخل مؤسسات الدولة لتحمي الأطفال، باعتبارهم مواطنين، مثلما تتم حماية الكبار من العنف وغيرها من مصادر التهديد. والدولة هنا جهة محايدة تضع القوانين التي تنظم العلاقة بين الأفراد مثلما تضع القوانين التي تنظم العلاقة بين الكبار والصغار والآباء والأبناء والأزواج.

بوستر الفيلم الروائي المأخوذ عن قصة حقيقية: "نجوم بنت العاشرة ومطلقة"!

تُنظم الدولة أيضاً حدود الحريات، فالتعليم، مثلاً، إلزامي وليس من حق الآباء اتخاذ قرار تعليم الأبناء في البيت مثلاً أو إيقافه، كما يحدث في العالم العربي. ولأنّ الدولة تحارب العنف، فهي تتدخل في حماية أيّ فرد يتعرض له، سواء كان طفلاً أو بالغاً. الطفل في نظر الدولة الحديثة هو مواطن (مستضعَف)، ولأنّه غير قادر على الذهاب إلى الشرطة أو رفع قضية في محكمة تتدخل الدولة لحمايته، سواء من قبل الآخرين الغرباء أو الوالدين. وتدخُّل الدولة هنا مرهون بمصلحة الطفل، حتى لو كان هذا مخالفاً لرغبة الآباء أو الأطفال أنفسهم؛ مثلما هو الحال في إجبار مريض على تناول العلاج أو الطعام بالرغم من عدم رغبته في ذلك. بعبارة أخرى: تتدخل الدولة لحماية كل من هو فاقد للأهلية أو النضج لحماية نفسه.

ومثلما أنّ للطفل حقوقاً، فعليه واجبات: فهو لا يستطيع شرب الكحول أو قيادة سيارة أو الزواج... إلخ. الفارق هو أنّ الطفل يحتاج إلى حماية أكبر. والكبار يدركون تحديد ماهية الجريمة، وبالتالي لديهم القدرة على تقرير تدخل السلطات، أو لا. ففي حال تشاجر بالغان أو مارس أحدهما العنف ضد آخر فلديهم القدرة والحرية على التملص من تدخل الشرطة، بينما لا يملك الطفل الوعي الكافي لاتخاذ مثل هذا القرار، من هنا تتدخل الدولة لحمايته.

تجارب حديثة مثل هذه كانت أجدر بالدراسة للاستفادة منها في حل مشكلة "أطفال الشوارع". لكن بدلاً من استيراد الحلول أو استلهامها من أوروبا يذهب البعض لاستيرادها من الماضي، مثلما فعلت الدكتورة آيات الحداد، عضو مجلس النواب المصري، التي ترى أنّ هؤلاء الأطفال ثروة ولديهم مهارات عقلية وبدنية يمكن الاستفادة منها، وهي محقة في هذا التوصيف. ولذلك تقدمت بمقترح لوزارة التضامن للاستفادة من أطفال الشوارع المشردين في بناء المجتمع، مستشهدة بنموذج طبقه محمد علي، في القرن الـ (19) عندما استقدم مدربين فرنسيين في مجالات الحرف اليدوية لتدريب الأطفال المشردين على بعض الحرف اليدوية.

"أطفال الشوارع" ظاهرة عالمية

ربّما يكون الحل الذي طبقه محمد علي مناسباً لعصره، وقد يناسب البعض اليوم، لكن لا ينبغي النظر إلى أطفال الشوارع كعبء، فنسخّرهم لخدمتنا، أو تمييزهم عن بقية الأطفال. ما يحتاجه هؤلاء الأطفال هو التعليم، وبيوت بديلة توفر جوّاً عائلياً، وتفعيل التبنّي... إلى غيرها من الحلول التي سبقتنا إليها الشعوب المتقدمة وثبتت نجاعتها.

مواضيع ذات صلة:

مراكز الحوثيين الصيفية.. تجييش طائفي وأكبر أماكن تجنيد للأطفال في العالم

اليونيسف تتوقع زيادة وفيات الأطفال في السودان... تفاصيل

مسؤول إيراني يُحذر: أطفالنا يدفعون ثمن الأوضاع الاقتصادية المتردية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية