الإسلاميون في تونس: الديمقراطية المسقطة وصدمة السقوط

الإسلاميون في تونس: الديمقراطية المسقطة وصدمة السقوط

الإسلاميون في تونس: الديمقراطية المسقطة وصدمة السقوط


21/05/2023

مختار الدبابي

لم يكن فشل الإسلاميين في تونس في استثمار لحظة الديمقراطية لاعتبارات تتعلق بهم فقط ككيان قادم من منظومة فكرية تعتبر الديمقراطية شكلا دخيلا ومسقطا ولا يعبر بأي شكل عن الهوية الإسلامية، ولكن وهذا الأهم أيضا لغياب الشروط الموضوعية التي تتقبل الديمقراطية الوافدة وإخراجها من الكتب إلى أرض الواقع.

لا مجال للمقارنة مع تركيا، فالديمقراطية التركية، التي صرنا نقارن بها ونبحث عن صلة لها بالديمقراطية التي قادت الإسلاميين العرب إلى السلطة، لم يؤسسها رجب طيب أردوغان بل هو مرحلة من مراحلها وهي آلية سمحت له بالوصول إلى الحكم. بمعنى أن الديمقراطية التركية تعبير عن نظام سياسي علماني غربي، وليس جسما مسقطا.

أسس مصطفى أتاتورك ومن بعده عصمت إينونو الدولة التركية الحديثة، ورغم انقلابات الجيش بين حين وآخر، إلا أن الدولة وصلت إلى بر الديمقراطية بشكل طبيعي وأخذ الأمر وقته. وسواء تنحى أردوغان هذه المرة بالصناديق أم استمر، فإن الديمقراطية ستدفعه دفعا في اللحظة المناسبة وتحمل غيره من داخل حزبه أو من خارجه، فالديمقراطية لا تقبل الملك العضوض حتى ولو جاءت به هي نفسها.

وهنا يبدأ الخلاف وتتعدد المسارب، فالديمقراطية التركية، التي يتباهى بها الإسلاميون ويروجون أنها تلائمهم وتؤمّن وصلوهم إلى السلطة بيسر، ديمقراطية طبيعية وليدة نظام حكم بني على التنوع وهي وليدة القطيعة التي أسس لها أتاتورك مع ثقافة الخلافة العثمانية، التي شرّعت للاستبداد والفساد والقبضة الحديدية مقابل ضمان الوحدة والاستقرار.

في المقابل، ديمقراطية العرب مسقطة ثقافيا، لم تحصل أيّ قطيعة فكرية وثقافية يمكن أن تقلب الشورى التي تقف عند الاستئناس بالرأي مع حرية الأخذ به من عدمه، إلى ديمقراطية تجبر الحاكم على الأخذ برأي من انتخبوه عن طريق مؤسسات منتخبة.

هي شورى الصفوة المقربين من الحاكم، الذين بايعوه لحظة استلام السلطة، وليس العامة والرعاع الذين تحض الأدبيات الفقهية على معاملتهم بالسوط والحبس، وتحذر من أن الاستماع إليهم مفسدة وتهديد لاستقرار المملكة أو الإمارة التي هم يعيشون في ظلها وخيرها وليسوا مواطنين لهم حقوق عليها وواجبات بالتساوي.

هل أحدث الإسلاميون هذه القطيعة فكريا وثقافيا حتى يمكن الحديث عن الديمقراطية. لا شيء، فالديمقراطية عند العرب لا تعني سوى بوابة لتأمين الوصول إلى السلطة والاستمرار فيها، وهي أيضا بوابة للغنيمة، ومواجهة للخصم بهدف تصفيته وإنهائه تحت شرعية الصندوق.

في الغرب، وبينه التجربة التركية، تعني الديمقراطية التهيؤ للشراكة في الحكم عبر البرلمان. ومن الصعب أن يحقق حزب حاكم لوحدة انتصارا بينا، ولذلك فإن أقرب طريق إلى الفوز بالانتخابات ثم الحكم هو بناء تحالفات حزبية حقيقية، وليس تحالفات صورية لا يجمع بين أطرافها هو الإمساك بالسلطة ثم التفرغ لتصفية الخصوم بمن فيهم الحلفاء الذين أوصلوا الحاكم إلى القيادة.

وفيما تتحمس الشعوب، التي تؤمن بديمقراطيتها، للذهاب إلى صناديق الاقتراع، تتراجع الشعوب اليائسة من التغيير، وتظهر عدم مبالاتها.

لهذا صوت 90 في المئة من الأتراك في انتخابات الأحد الماضي مقابل 11 في المئة في تونس في آخر انتخابات. ويعرف الأتراك أن الديمقراطية شيء حقيقي يمكن الاعتماد عليه بينما التونسيون فقدوا الأمل بها مثلما فقدوا الأمل بالأحزاب وفكرة التغيير عبر إرادتهم.

نقطة الخلاف الرئيسية في التعامل مع الديمقراطية هي أن الغرب يراها أداة للتغيير من بوابة شراكة حقيقية فيما يراها العرب آلية للسطو على الحكم بأسلوب ناعم لا يثير ردات فعل غاضبة كتلك التي يثيرها انقلاب عسكري أو حكم بالتوريث. كما توفر ملاذا آمنا يجنب أيّ سلطة ناشئة انتقادات منظمات حقوق الإنسان وضغوطا غربية توظف الوضع الطارئ لتحقيق نتائج لا علاقة لها بالديمقراطية ونظام الحكم، ولكن بمصالحها في المنطقة.

هل ينافح الإسلاميون في تونس عن الديمقراطية كقيمة ومقاربة للتغيير، أم لا يعدو الأمر أن يكون تسويقا للذات وإقناع الغرب بأنه من الممكن أن يحدث شرخ داخل الفكر التقليدي المحافظ الذي تنطلق منه الحركات الإسلامية لتخرج منه أفكار وقناعات تدافع عن الديمقراطية؟

إلى حد الآن، لا شيء يوحي بأن الشرخ قد حدث وأن الإسلاميين قد فتحوا طاقة أمل بديمقراطية عربية، فالشروط الموضوعية غير متوفر والبنى الذهنية والثقافية العربية ما تزال هي نفسها، والمجتمعات لم تحرص يوما على الدفاع عن الديمقراطية، وعلى العكس فهي تصفق لمن يطيح بها. والسبب أن تجربة تونس، وهي التجربة الديمقراطية الأطول عربيا، قد ظهرت في صورة مناقضة لنظيرتها الغربية، فهي تقوم على الفوضى، وتتناقض مع خدمة الناس وتحقيق مكاسب اقتصادية تحسّن مستوى عيشهم.

كانت حركة النهضة الإسلامية تريد تأسيس ديمقراطيتها مع تأسيس الديمقراطية في تونس، انتهت بفوضى لا مسؤولة أودت بها وكادت تهلك البلاد وتقودها إلى أن تصبح بلدا فاشلا اقتصاديا وتنمويا.

وبعيدا عن التوظيف السياسي لهذا الفشل، ذلك أن خصومها لا يختلفون عنها على هذا المستوى، فإن المشكلة ليست في النوايا ولا النصوص التي تكتب بحثا عن تأسيس “ديمقراطية إسلامية” بهوية ليبرالية، وإنما في الشروط الموضوعية لنقل هذا الشكل الوافد من حضارة تؤسس للتعدد إلى مناخ فقهي وثقافي يرى في الحاكم ممثل الله في الأرض ولا يحتاج إلى شرعية انتخابية ولا مؤسسات تنافسه أو تحدّ من سلطته.

لن نذهب بعيدا في امتحان مقاربة الديمقراطية داخل منظومة الإسلاميين. ففي حركة النهضة التي تضع نفسها ضمن قائمة “الإسلام الديمقراطي” نجد أن رئيسها راشد الغنوشي ما يزال في كرسي رئاستها لأكثر من نصف قرن، أي منذ تأسيس الجماعة الإسلامية بداية السبعينات وحين كان يوصف بالأمير في كناية عن انتمائه للموروث السلطاني في الثقافة الإسلامية.

يمكن لأيّ إسلامي أن يجد تبريرا فقهيا أو سياسيا لاستمرار الغنوشي في منصبه كأكبر جالس على كرسي للسلطة (سلطة الجماعة التي تتطلب الولاء والطاعة)، لكن في النهاية فإن هذه التبريرات تضع الحركة والغنوشي خارجية الديمقراطية التي هي قبول بالتداول على السلطة ولو داخل حركة سياسية يمتلك “الأمير” فيها كل عناصر القوة وأدواتها من ترغيب وترهيب وعزل وتنصيب.

وحين حاولت النهضة أن تطبق شعاراتها “الليبرالية” ومطالبة الغنوشي بقبول مبدأ التداول على القيادة انتهت الحركة إلى انشقاقات واستقالات. ولا يمكن الميل إلى أبسط التأويلات لفهم ما جرى، فليس السبب هو الغنوشي الذي تمسك بالبقاء في منصبه اعتقادا منه بأنه الأصلح والأحق بالقيادة، ولكن لقصور في الديمقراطية المعتمدة داخل النهضة، وهي ديمقراطية استيعاب المختلف كرقم وتوظيفه لتقوية الزعيم، وليست ديمقراطية حماية الاختلاف بقطع النظر عن “واجب وحدة الصف”.

عن "العرب" اللندنية




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية