السُّلْطان حامد وسِرُّه الباتع

السُّلْطان حامد وسِرُّه الباتع

السُّلْطان حامد وسِرُّه الباتع


30/03/2023

عمرو فاروق

ما زال التراث التاريخي للدولة المصرية مملوءاً بمئات الشخصيات البطولية التي تحتاج إلى بعث جديد ينفض عنها ركام النسيان، كي تقدم كنماذج يحتذى بها في خضم حالة التلاشي لدور "القدوة الشعبية"، وعلى رأسها "السلطان حامد" الذي سرد أحداث قصته الكاتب والأديب يوسف إدريس، ضمن قصص روايته "حادثة شرف" عام 1958.

تحولت، أخيراً، رواية "السلطان حامد"، إلى عمل درامي على يد المخرج خالد يوسف، تحت عنوان "سِرْهُ الباتع"، من بطولة أحمد فهمي، وأحمد السعدني، وحنان مطاوع، وريم مصطفي، وحسين فهمي، وأحمد عبد العزيز، وخالد الصاوي، وصلاح عبدالله، ومحمود قابيل، ويعرض حالياً على القنوات المصرية، وذلك بعد سنوات طويلة من تجاهل توثيق بطولة الفلاح المصري في مواجهة المستعمر الفرنسي، وطرده من المحروسة. 

تتلاقى الخيوط الدرامية لرواية "السلطان حامد"، مع شهامة الفلاح الأصيل، والظاهرة الصوفية المهيمنة على الشخصية المصرية عبر الإطار التاريخي والشعبي، ومدى ارتباطها بتأثير المدد الروحي لأضرحة الأولياء والصالحين ومقاماتهم.

تحول "حامد"، من مجرد فلاح بسيط إلى بطل قومي خارق، لما قدمه من تضحيات دفاعاً عن أهل قريته ضد اعتداءات المحتل الفرنسي، والتي وضعته في مرتبة السلاطين والحكام، وفقاً للوثائق التاريخية التي قدمها يوسف إدريس نقلاً عن مؤرخي الحملة الفرنسية في تلك المرحلة الزمنية من تاريخ الدولة المصرية.

مجموعة الرسائل التي اعتمدت عليها رواية "السلطان حامد"، أرسلها روجيه كليمان أحد علماء الحملة الفرنسية الذين قدموا إلى مصر، إلى صديقه غي دو روان، فضلاً عن أن المطبوعة الفرنسية التي ضمت تلك الوثائق التاريخية جرت مراجعتها وتدقيقها على يد الأستاذ س. مارتان، عضو الأكاديمية الفرنسية التاريخية، ومن ثم فهي تحظى بثقة عالية.

يقول كليمان في رسالته الأخيرة إلى صديقه: "أمَّا المصريون، فبعضهم يسكن القاهرة والمدن، ومعظمهم يزرعون الأرض ويسكنون قُرَى سوداء مبنية بالتراب في الأرياف واسمهم الفلاحون. وآهٍ من هؤلاء الفلاحين يا غي! إذا رأيتَهم عن قرب، ورأيتَ وجوهَهم التي تبتسم لك في طيبة وسذاجة، وأدركتَ خجَلَهم الفطريَّ من الغريب، ربما يدفَعُك هذا إلى الاستخفاف بهم وتعتقد أنَّك لو ضربتَ أحدهم على قفاه لما جَرُؤَ على أن يرفع لك وجهَه، ولتقبل الإهانة بكل سعادة وخشوع. حذارِ أن تفعل شيئاً كهذا يا غي! فقد حاوَلَ الجنرال وكليبر وبيلو ذلك وندموا... ولكن المشكلة ليست في الغزو أبداً، المشكلة هي في ما يحدث بعد الغزو، وأتحدى التاريخ أن يثبت أن غازياً واحداً دخل هذه البلاد واستطاع أن يغادرها سالماً".

دوافع بحث الكاتب حول السردية التاريخية للرواية الشعبية، تمثلت في كشف أغوار حالة التعلق والتقدير والاحترام التي تنتاب المصريين تجاه مقام "السلطان حامد"، والتي شاهدها منذ نعومة أظافره بين أقرانه في أزقة قرية كفر شندي، في محافظة المنوفية، والتي تبدل اسمها على يد الفرنسيين إلى "شاتو نوف" أي القلعة الجديدة، وكانت بمثابة قاعدة عسكرية للقوات الفرنسية في القرن الثامن عشر، وتنطق حالياً باللهجة العامية المصرية، "شطانوف".

يحكي روجيه كليمان في رسالته عن "السلطان حامد"، والذي يصفه بأنه ليس زعيماً من زُعَماء المصريين، بل إنَّه إلى شُهور قليلة لم يكن أحدٌ يهتمُّ به أو يُقِيم له وزناً، فقد كان شخصاً مسالماً من فلاحي هذه القرية الذين يزرعون الأرض، ويصلّون الى الله في الجامع، لا يختلف عن بقية الفلاحين في المظهَر أو الشكل، لكنه تحول إلى رمز للمقاومة المسلحة، بعد قتل أحد ابناء القرية على يد جندي فرنسي، وغزا اسم "السلطان حامد" كل أنحاء الدلتا، ثم دخل القاهرة وانتشر بين أهلها انتشاراً جنونيّاً حتى أصبحوا في حلقات الذكر يقولون "مدد يا سلطان!".

رغبة المحتل الفرنسي في القضاء على أسطورة "السلطان حامد"، دفعت الجنرال جان كليبر، إلى تحطيم مقامه الذي اعتاد أهالي قرية "شطانوف" زيارته بعد مقتله، ونثر رفاته بين مدن الريف المصري، ليُبنَى له في كل قرية مقام رمزي تبركاً وتخليداً لسيرته، بعد أن ضرب مثالاً في مقاومة الاحتلال الفرنسي.

بناء المقامات الرمزية لـ"السلطان حامد" في نجوع الريف المصري، يشير إلى أن البناء الدرامي لرواية "السلطان حامد"، مستوحى من سردية واقعية تاريخية، تنفي مزاعم صوفها كليةً من وحي خيال الأديب يوسف إدريس، ويسقط عنها كذلك الاعتقاد بأنها لا تمت للواقع بصلة، إذ إن القاهرة عامرة بمقامات وأضرحة المتصوفة الذين اشتهروا ببطولاتهم التاريخية في مواجهة الاستعمار، أمثال "سيدي الغريب" الذي واجه القرامطة عام  936 ميلادي، والعارف بالله "سيدي إبراهيم الدسوقي"، الذي توفي عام 695م والذي رفع راية المعارضة ضد الحكم المملوكي، و"العارف بالله سيدي أحمد البدوي" المعروف بـ"شيخ العرب" الذي توفي 1276. 

يقول عبد الرّحمن الجبرتي (مؤرخ مصري عاصر الحملة الفرنسيّة على مصر)، في كتابه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار"، المعروف بـ"تاريخ الجبرتي"، في الجزء المسمّى "مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس": "ولكنّ آليّة الحرب الفرنسيّة المتطوّرة، وكفاءة التّدريب العالية للجندي الفرنسي، والوفرة من السّلاح والذّخيرة، والخطّة المدروسة منذ سنوات والخيانة الدّاخلية، كلّ تلك كانت من جملة العوامل المساعدة التي مكّنت فرنسا من كسب الحرب واحتلال مصر، ولكنّ شيوخ الصّوفية الذين هم زعماء الأمة واصلوا الجهاد وأعلنوا به مع الأذان في الصّلوات الخمس، ولقد حاول الجنرال نابليون بونابرت أن يشتري تعاونهم من طريق تعظيمهم وتشريفهم وتكريمهم فرفضوا جميع ذلك في إباء المسلم الذي لا يرضى إلا بربه". 

ذخرت الدولة المصرية كذلك بعدد من سلاطين الصوفية، أمثال ابن الفارض الملقب بـ"سلطان العاشقين"، والعزّ بن عبد السلام الملقب، بـ"سلطان العلماء"، والعارف بالله "السلطان الفرغل" المعروف بـ"سلطان الصعيد"، والشيخ الصالح الحسين أبي علي، المعروف بـ"السلطان أبو العلا" في القاهرة.

ويذكر الكاتب والشاعر أحمد الشهاوي، في كتابه "سلاطين الوجد... دولة الحب الصوفي"، الصادر عن "الدار المصرية - اللبنانية"، أن المتصوفة استحقوا لقب "السلطان"؛ لأنهم سلاطين زمانهم، وقد وقع الصدام بينهم وبين "سلاطين السياسة" من الخلفاء والحُكَّام والأمراء، ولذا عاش "سلاطين الصوفية" تحت سيف هؤلاء المتسلِّطين، فكانت النتيجة المُباشرة أنَّ منهم من قُتِل، ومنهم من سُجِن، ومنهم من نُفِي، ومنهم من عُذِّبَ وأُهِين، وقد كان أوائل الصوفية ينفرُون من السَّلاطين والأمراء.

عدم التيقن التام من حقيقة السياق التاريخي المحقق للبطولة الشعبية التي غلفت أسطورة "السلطان حامد"، لا يخرجها عن دورها في إثراء الوجدان القومي وتنميته، وترسيخ هوية الدولة المصرية، وتوثيق بطولات أبنائها على مدار تاريخها القديم والحديث، في مواجهة عدوها مهما تبدّل وتغيّر وتلوّن تبعاً للزمان والمكان والظروف والأحوال.

عن "النهار" العربي




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية