العصبيات القاتلة في اليمن تعود إلى الواجهة.. ما الجديد؟

العصبيات القاتلة في اليمن تعود إلى الواجهة

العصبيات القاتلة في اليمن تعود إلى الواجهة.. ما الجديد؟


27/07/2023

كأيّ مجتمع، هناك أشكال للعنصرية في المجتمع اليمني، كالعنصرية المتعلقة بلون البشرة، أو بالمهنة. وقد خفت حدة هذه العنصريات مع تمدن المجتمع، لكنّ هذه العنصريات لم تكن في أيّ وقت كالعنصرية التي تستمد السيادة من السلالة ومن فكرة "الحق الإلهي"، التي مارست باسمها تاريخياً جرائم إبادة في حق المعارضين. وقد عادت هذه العنصرية مع استيلاء الحوثيين على الحكم في صنعاء، وغيرها من المحافظات.

جذور التقسيم العنصري

العنصرية الطبقية التي يمارسها البعض اليوم هي نتاج تقسيم الإمام القاسم للمجتمع اليمني إلى فئات: فئة السادة، وهم الهاشميون أولاد البطنين، ومنهم وحدهم الأئمة والمناصب العليا في الحكم، وفئة القضاة الفقهاء، ويتولون مناصب إدارية وقضائية، وقد يرتفع قليل منهم إلى كتبة في ديوان الإمام، وفئة مشايخ القبائل، وفئة الزُّراع، وفئة التجار، وفئة أصحاب المهن: النجار، الحداد، البنَّاء... ثم تأتي الفئة الدنيا؛ أصحاب المهن الخدمية: مُزيِّن/ حلاق، وجزار، وحَمَّامي، وقَشَّام، زارع الفجل والكراث، وأمثالها في البساتين التابعة للمساجد، ويلحق بهم الدوشان، وهو شاعر شعبي يمدح الجميع. وما يزال هذا التقسيم سارياً حتى اليوم بين الناس، وإن كانت الجمهورية قد زعزعت الكثير داخل تلك الفئات، كما يقول المناضل محمد عبد الله الفسيل في مقابلة معه عام 2020.

لكنّ الجمهورية التي زعزعت التقسيم الطبقي العنصري لم تنجح في استئصاله تماماً. في محاضرة للدكتور المرتضى بن زيد المحطوري أمام مريديه انتقد سياسة الأمويين القائمة على اعتبار ما سواهم عبيداً. قال المحطوري على لسان الأمويين: "الله قدَّر أن نكون عليكم سادة وقادة وحُكَّاماً، وقدَّر أن تكونوا لنا خدماً وأتباعاً، وقدَّر الغنى لنا، وما نأكله هو بقضاء الله، والثروات هي بقضاء الله، والله هو الذي قدّرها لنا، وأنتم قدَّر عليكم الجوع والفقر والظلم بقدر. فأنت مهان بقضاء الله، فإن كسر ظهرك وناموسك وسلب مالك ورماك في السجن، فعليك أن تصبر؛ لأنّ هذا شرف بقضاء الله وقدره". لكنّ ما نسبه المحطوري للأمويين قولاً يمارسه الحوثيون اليوم واقعاً، مثلما مارسه أجداده الإماميون من قبل لمئات الأعوام. 

الإمام أحمد يحيي حميد الدين

يُتهم الأقيال- وهي حركة مضادة للعنصرية السلالية- بنفيهم ليمنية هواشم اليمن، لكنّ الواقع أنّ الهاشميين أنفسهم ينفون يمنيتهم أو يجعلونها في مرتبة أدنى. في لقاء على قناة معين، برنامج "رحلة العمر" الحلقة الثانية، سأل الإعلامي عارف الصرمي الدكتور المرتضى بن زيد المحطوري: "هل المذهب الزيدي مذهب يمني؟" على أساس أنّ "الإمام الهادي الرسي لم يكن يمنياً"، فردّ المحطوري بقوله: إنّ الإمام الهادي "أتى من المدينة المنورة من حيث أتى الإسلام." وأضاف: "فمن الذي أتى (لكم) بالإسلام غير النبي، ومن الذي نصر الإسلام غير (أجدادكم) اليمنيون؟" هذا التمييز استفز الصرمي فتساءل مندهشاً: "(أجدادكم؟) لماذا لا تقول أجدادنا؟" (باعتبار أنّ المحطوري يمني)، ردّ المحطوري: "أجدادكم أنتم، أنا أوجه (الخطاب) لليمن من خلالك؟" سأله الصرمي: "وأنت ألست منا؟" ردّ المحطوري، في صيغة ضمنية تتهرب من الرد الصريح: "أنا أكلمك عن آل البيت، وأنا باعتباري من آل البيت أقدّم الشكر لكم نيابة عن رسول الله لكم يا أهل اليمن؛ لأنّكم نصرتموه".

الرسول الذي أتى لليمنيين بالإسلام خلفه من ينتسبون إليه فأتوا لليمنيين بالموت. يوصف احتلال البلدان التي لم يدخلها الإسلام بالفتح، وهذا ما لا ينطبق على حالة اليمن حين قدِم أو استدعي إليها الإمام عبد الله بن حمزة. لم يكن الهدف نشر الإسلام في بلد مسلم، بل نشر المذهب بالقوة. فبعد أن أعلن نفسه إماماً، في نهاية القرن السادس الهجري، وبعد أن عجز عن مناظرة (المطرفية)، إحدى الفرق الزيدية الرافضة لمبدأ التفضيل، كفَّرهم وأعدمهم كلهم. قيل إنّه أعدم (100) ألف، وعندما سئل عن الفارق بين الهاشميين واليمنيين أجاب بأبيات شعرية:

"يا قوم ليس الدُّر قدراً كالبعر.. كلا ولا الجوهر مثلاً للمدر.. إنّ بني أحمد سادات الأمم.. بذا لهم ربّ السماوات حكم.. ليس على ربّي اعتراض لأحد... لم يجعل الكلب سواءً والأسد... فاطرحوا ثوب العناء والحسد...".

الهوية الوطنية والهويات القاتلة

ليس بالإمكان نزع هوية أحد يمتلك بطاقة شخصية وجواز سفر إلا إذا كان هذا الشخص يفتخر بهويته العائلية أكثر من هويته الوطنية ويريد لهويته الخاصة أن تكون معياراً لحكم العامة. في مقابلة مع المناضل محمد عبد الله الفسيل، قال: إنّ "اﻹمامة واﻷئمة دخيلة، كان هدفها عنصرياً يفرض السيادة، ويحتكر السلطة والدولة" ثم ميَّز الفسيل بين دخول الدين الإسلامي في عهد الرسول واحتلال اليمن في عهد الأئمة. ففي المرة الثانية التي دخل فيها يحيى بن الحسين الرسي إلى اليمن "جمع من أهله وأنصاره أكثر من (2000) مقاتل بنسائهم وأوﻻدهم، واستقدم من الديلم وطبرستان في بلاد فارس حوالي (8) آلاف مقاتل على دفعات، وانضم إلى هذا الجيش الآلاف من المقاتلين التابعين ﻵل الضحاك وآل الدعام الذين بايعوا اﻹمام الهادي يحيى بن الحسين الرسي. وكان المقاتلون القادمون مع الهادي هم حرسه الخاص وقوته الضاربة ﻹخماد أيّ تمرد. وجنَّد الجنود، وأعلن الجهاد ضد القبائل اليمنية، وضد وﻻة العباسيين، وضد الحواليين... وكان آل الضحاك والدعام من أوائل ضحاياه... واستنّ هدم البيوت، وقطع اﻷشجار؛ لتدمير وإرهاب المخالفين، وعندما تمردت عليه قبيلة بني الحارث في صعدة قتل المئات من رجالهم، ومنع دفن جثثهم لتأكلها الكلاب والوحوش. وهكذا استمر اﻷئمة في اليمن يعارضون كل القوى في اليمن، ويشكلون عصابات قبلية يتمددون بها إلى كثير من أنحاء اليمن، أو ينكمشون إلى جبال صعدة".

الجوع والشبع في صورة قبل العهد الجمهوري

للإشارة إلى حجم الكارثة التي خلَّفها حُكم الأئمة في اليمن أستشهد بما قاله (رالف بَنش) المبعوث الأممي لليمن، عندما وصل إلى مطار صنعاء في ستينيات القرن الـ (20)، قال للضباط المصريين: "هل ألقيتم هنا قنبلة نووية؟"، وما دفعه لهذا السؤال هو ذهوله من "مشاهد البؤس التي رآها عند وصوله إلى صنعاء... وكأنّ ما حدث حرب نووية قضت على كل معالم الحياة". وللمقارنة كان بنش مسؤولاً في لجنة تصفية الاستعمار التابعة للأمم المتحدة، ولكنّه رأى في اليمن جريمة أبشع من كل الجرائم التي خلفها المستعمرون. لم يترك أئمة بيت حميد الدين من دلائل الحياة في اليمن شيئاً، ولذلك قال بنش: "لقد كنت شاهداً على جرائم الاستعمار في الكونغو، ولكنّي أتمنى لو كان هذا البلد (اليمن) قد حصل على قليل من الاستعمار!" للتذكير شهدت الكونغو واحدة من الجرائم التي لا يمكن نسيانها "قتل ملك بلجيكا نحو (15) مليون كونغولي"، مع ذلك كانت جريمة الإمامة أسوأ، "من حيث إنّها لم تكتفِ بقتل الإنسان، بل جعلته عدماً مسلوب الكرامة، يعيش خارج مسار الحضارة البشرية."

العنصرية في ثوبها القانوني

العجيب، ونحن في القرن الـ (21)، أنّ للعنصرية شكلاً قانونياً! كما هو حال نقابات "السادة الأشراف" حول العالم! فهناك "نقابة الأشراف في العالم الإسلامي"، ويتفرع منها نقابات بعدد الدول العربية والإسلامية، ولهذه الفروع فروع أخرى في كثير من محافظات كل دولة! ولهم منشورات وكتب... ويتنافس للانتماء لهذه النقابات كثير من الأُسر، بل ويفتخر الكثير من الكُتَّاب والمثقفون بانتمائهم العنصري! والعجيب هنا أن يكون لهذه النقابات شكل قانوني، ومعترف بها من قبل مؤسسات الدولة! على سبيل المثال: تولى محمود أحمد كامل ياسين رئاسة "نقابة السادة الأشراف في مصر" عام 1991م، بقرار من الرئيس الراحل حسني مبارك، وخلفه شقيقه السيد أحمد أحمد كامل ياسين بموجب قرار جمهوري رقم (330) لعام 1994.

نقابة الأشراف عُرفت في البلاد الإسلامية منذ العهد العباسي، وكان الخليفة "يقيم على السادة الأشراف نقيباً لهم؛ إجلالاً لهم واعترافاً برفعة منزلتهم وعظيم مقامهم..."، على حدّ وصف نقابة الأشراف الطالبيين في العالم الإسلامي. وبسبب القداسة الدينية تحظى نقابات الأشراف باعتراف حكومي، رغم أنّها لا تقلّ خطراً عن جماعات الإسلام السياسي إلا في كونها لا تمارس السياسة، خارج اليمن، بشكل معلن ومباشر، وتزعم أنّ هدفها هو "خدمة ذرية آل بيت النبي"؛ وكأنّهم بحاجة إلى عناية خاصة خلافاً لغيرهم من "المواطنين"!

العجيب هنا أيضاً أنّ الحكومات العربية تخشى من خطر الإخوان، ولها الحق في ذلك، لكنّها لا تخشى على مجتمعاتها من خطر التمييز السلالي العنصري الماثل في تقسيم الناس/ المواطنين إلى سادة أشراف وإلى ما دونهم! تشترط هذه النقابات للحصول على العضوية "أصل الصك أو قرار النسب أو الشهادة التي تؤكد نسب مقدم الطلب أو أسرته"، إلى غيرها من الشروط التي إن تحققت يحصل بموجبها العضو على بطاقة هوية تثبت أنّه من نسل النبي! بالتالي تكون له مكانة ورتبة اجتماعية ودينية أعلى من سواه، بناء على هذه التراتبية يرفض الهاشميون تزويج بناتهم لليمنيين منذ (1200) عام إلى اليوم.

من تاريخ الاستعباد في اليمن

الجماعات التي تربط نسبها بالسماء يصعب عليها الارتباط بالأرض إلا لقطف ثمارها. وقبول هذه الجماعات بالديمقراطية يعني تخليها عن امتيازاتها السماوية، هذه الجماعات ترى نفسها "ظلّ الله على الأرض" و"شعب الله المختار"، وحين تضيق عليها الأرض تخترع "أرض ميعاد" وتتخيلها "أرضاً بلا شعب لشعب بلا أرض"، وسيكون على أصحاب الأرض أن يستسلموا لهذا الخيال السماوي السقيم، أو أن يقاوموه بالحقائق على الأرض. ومن سوء حظ الحقيقة أحياناً أنّها تُفرض بالقوة ولا تستجيب لمنطق العلم، وإلا لأمكن للحمض النووي العودة بأصول المحتلين أو الوافدين إلى المجهول، أو إلى مكان أو أماكن أخرى لن تكون السماء من بينها.

مواضيع ذات صلة:

طيران اليمنية: من مؤسسة مملوكة للدولة إلى شركة تديرها فئات متنفذة تلاحقها تهم الفساد

حزب الإصلاح الإخواني يفسد فرحة اليمنيين: من جعلهم حراس الله في الأرض؟!




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية