العلاقات العراقية-التركية: مواجهة الملفات الشائكة

العلاقات العراقية-التركية: مواجهة الملفات الشائكة

العلاقات العراقية-التركية: مواجهة الملفات الشائكة


10/09/2023

في حراك تركي رسمي مكثف، زار وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، العراق، بين يومي 22 و24 أغسطس 2023، شملت العاصمة الاتحادية، بغداد، وعاصمة إقليم كردستان العراق، أربيل. وبالتزامن، ذهب وزير الطاقة التركي، ألب أرسلان بيرقدار، إلى أربيل لينضم إلى لقاء وزير الخارجية مع رئيس وزراء إقليم كردستان، وليعقد لقاءات منفصلة مع مسؤولي النفط والطاقة في الحكومتين الاتحادية وحكومة الإقليم. في حين توجه وزير التجارة التركي، عمر بولات، إلى بغداد، يومي 28 و29 أغسطس، بصحبة مسؤولين آخرين ورجال أعمال. 

وبينما كان الهدف المعلن لهذه الزيارات التمهيد لزيارة من المزمع أن يقوم بها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إلى العراق، فإنّها كانت مناسبة لكي تفتح الحكومة التركية المُشَكَّلة حديثاً عدداً من الملفات الشائكة مع بغداد، وبشكلٍ خاص فيما يتعلق بقضايا الطاقة والأمن والمياه. ومع عدم ظهور مؤشرات على أنّ الحراك الدبلوماسي التركي نجح في الوصول إلى حلول للملفات الخلافية مع العراق، لكنَّه شكَّل مناسبةً لإطلاق حوار جدي حول القضايا العالقة واستكشاف إمكانية الوصول إلى صفقة شاملة بين البلدين بدل تجزئة الملفات. 

تُسلِّط هذه الورقة الضوء على الوضع الراهن للعلاقات العراقية-التركية، والملفات الخلافية الرئيسة بينهما، والسيناريوهات المحتملة لمسار العلاقات الثنائية في المستقبل القريب. 

خلفية عامة

اتَّسمت العلاقات التركية العراقية خلال السنوات الماضية بحالة من التذبذب وعدم الوضوح، نظراً لخضوعها لمؤثرين متناقضين: الأول، حاجة البلدين -بسبب الجوار الجغرافي بينهما وتشابُك العلاقات الاقتصادية والثقافية والأمنية- إلى التعاون والتنسيق؛ والثاني، عدم اتفاق أهدافهما في العديد من الملفات الأساسية، وبشكل خاص تلك المتعلقة بالخروقات الأمنية التركية للسيادة العراقية، وبإدارة ملف صادرات نفط كردستان، وبقضية المياه، وكذلك تباين مواقفهما بشأن العديد من القضايا الإقليمية، وخصوصاً النزاع السوري. 

وبينما ظهرت في السابق محطات بدا فيها أنّ هذه العلاقات أخذت تستقر عند مسار إيجابي يُفضي إلى تعاون أكبر بين الطرفين، فإنّها سرعان ما تأثرت بالتصعيد أو التوتر في أحد الملفات أو في عددٍ منها في الوقت نفسه، دون أن يظهر أن لدى الطرفين إرادة أو إمكانية للوصول إلى حلول جذرية ومستدامة. وربما كانت آخر تلك المحطات، زيارة رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، إلى تركيا في مارس الماضي، والتي صاحبها الكثير من التفاؤل حول إمكانية وضع علاقات البلدين على المسار الصحيح، خصوصاً في ظل إعلان الطرفين تبنِّيهما مشروع "طريق التنمية"، الذي يفترض أن يعزز التكامل الاقتصادي وفرص التعاون بينهما. لكن الخلافات طفت مجدداً على السطح بعد صدور قرار هيئة التحكيم التجارية الدولية بعدم قانونية سماح تركيا لإقليم كردستان بتصدير نفطه عبر ميناء جيهان، ونتيجة تصاعد الهجمات التركية في العراق التي تقول أنقرة إنّها تستهدف مواقع لحزب العمال الكردستاني (بككا).

وهناك عوامل أخرى تؤثر في عجز الطرفين عن الوصول إلى حلول للملفات الخلافية، أبرزها ضعف الحكومة العراقية وعدم قدرتها على اتخاذ -فضلاً عن تنفيذ- قرارات حاسمة في بعض الملفات، مثل وجود حزب العمال الكردستاني في الأراضي العراقية، وبالمقابل، الميل التركي إلى النظر إلى العراق بوصفه ساحة نفوذ ومواجهة وليس نداً، وتفضيل أنقرة التعامل مع الأطراف المتعددة في البلد بدل التعويل على الحكومة المركزية في بغداد. كما أنّ العلاقات تتأثر بالظروف السياسية الداخلية في البلدين، مثل مواسم الانتخابات التركية التي تشهد تصعيداً للنزعة القومية (التي تأخذ طابعاً استعلائياً أحياناً)، أو توازنات القوى الداخلية المتغيرة في العراق، خصوصاً فيما يتصل بعلاقة بغداد بأربيل، والقوى الشيعية بالقوى السنية والكردية. يُضاف إلى ذلك، تأثير الفاعلين الإقليميين والدوليين الآخرين ذوي النفوذ، في الساحة العراقية بشكل خاص، مثل ايران والولايات المتحدة. 

الملفات الشائكة بين العراق وتركيا

يمكن تحديد أربعة ملفات أساسية تؤثر في مسار العلاقة بين تركيا والعراق في الوقت الراهن، وكانت حاضرة في جدول أعمال زيارات وزراء الخارجية والطاقة والتجارة الأتراك إلى العراق. 

أولاً: حزب العمال الكردستاني (بككا PKK)

 تواصل تركيا شن هجمات في إقليم كردستان العراق ومناطق شمال العراق تقول إنّها تستهدف مواقع الـ "بككا" المعارض، وكان آخرها هجوم بطائرات مسيرة شمال محافظة أربيل، قالت السلطات التركية إنّه أودى بحياة سبعة من أعضاء التنظيم، وحصل بالتزامن مع زيارة وزيري الخارجية والطاقة التركيين إلى إقليم كردستان. وتشتكي الحكومة العراقية من أنّ هذه الهجمات تخرق سيادتها، وتتم بشكل أحادي من جانب تركيا، بينما تقول أنقرة إنّ الحكومة العراقية لاتتخذ إجراءات كافية لانهاء وجود مقاتلي الـ "بككا" على أراضيها. وبينما حاولت حكومة مصطفى الكاظمي الوصول إلى حل بهذا الشأن في منطقة سنجار التي أصبحت أحد معاقل الـ "بككا"، عبر اتفاق مع حكومة إقليم كردستان لتطبيع الأوضاع في سنجار، إلّا أنّ هذا الاتفاق لم يدخل حيز التنفيذ بشكل فعلي وكامل، ولقي مقاومة من الـ "بككا" وحلفائها المحليين في سنجار، فضلاً عن الفصائل المنضوية في "الحشد الشعبي". ويُضاف إلى تعقيد الوضع في سنجار الواقعة على الحدود العراقية السورية، أن مقاتلي الـ "بككا" منتشرون في مواقع أخرى في العراق، مثل جبال قنديل ودهوك. 

وما يزيد الأمر تعقيداً وجود تباين في مواقف الأطراف الكردية العراقية من هذا الموضوع؛ فبينما يميل "الحزب الديمقراطي الكردستاني" الحاكم في أربيل ودهوك إلى مسايرة الحكومة التركية ومحاولة التضييق على الـ "بككا"، فإنّ "الاتحاد الوطني الكردستاني" المهيمن في السليمانية يرتبط بعلاقات أفضل مع الـ "بككا"، وتتهمه تركيا بتوفير ملاذ آمن لعناصر التنظيم، وقد وصل التوتر بينها و"الاتحاد الوطني الكردستاني" إلى حد اتخاذ أنقرة في أبريل الماضي قراراً بإغلاق مجالها الجوي أمام الطائرات التي تقلع من السليمانية، وظلّ الإغلاق قائماً على رغم المطالبات المتكررة من "الاتحاد الوطني الكردستاني" بإعادة فتح المجال الجوي. 

ويجادل العديد من الأطراف العراقية، العربية والكردية، بأنّ المشكلة تكمُن في إصرار تركيا على اعتماد المقاربة الأمنية حصراً في التعامل مع ملف الـ "بككا" مُتجاهلة ما ينطوي عليه من أبعاد سياسية. وتشير تلك الأطراف إلى صعوبة تأمين المناطق الجبلية في شمال العراق التي طالما كانت ملجأً للقوى المتمردة، وأنّ الضغط التركي على العراق بهذا الشأن يهدف إلى تصدير أزمة تركية داخلية. ولجأ بعض الأطراف العراقية، وبشكل خاص الفصائل الشيعية المنضوية في "الحشد الشعبي"، إلى التصعيد اللفظي ضد تركيا بسبب توغلها العسكري في الأراضي العراقية، بل هاجم بعضها مواقع للقوات التركية كما حصل في فبراير الماضي. لكن يبدو أنّ الفصائل مالت إلى التهدئة في هذا الملف منذ تشكيل الحكومة العراقية الحالية برئاسة السوداني، والتي تُعَّد مُقربة للفصائل، في محاولة لتجنيب السوداني الحرج، وعدم إظهار حكومته فاقدةً للسيطرة. 

وفي زيارته للعراق، طالب وزير الخارجية التركي الحكومة العراقية بتصنيف الـ "بككا" رسمياً منظمة إرهابية، وهو ما بدا محاولة مباشرة لإجبار بغداد على اتخاذ موقف أكثر وضوحاً من هذه القضية. وعلى الأرجح فإنّ تركيا تراقب تعامل الحكومة العراقية مع جماعات المعارضة الكردية الإيرانية الموجودة في كردستان العراق، والاتفاق الأمني بين طهران وبغداد بهذا الصدد، مع ما تسرب من معلومات إيرانية عن تعهُّد بغداد بنزع سلاح تلك المجموعات، وهو إن حدث، سيعزز من مطالب تركيا بأن تتخذ بغداد موقفاً مشابهاً فيما يتعلق بالـ "بككا". إلّا أنّ حكومة السوداني ستتردد في اتخاذ هذا الموقف سريعاً، لأنها، أولاً، تخشى أن يعطي ذلك غطاءً رسمياً للنشاطات العسكرية التركية في الأراضي العراقية؛ ونظراً، ثانيا، للمعارضة المحتملة لهذا الأمر من قبل طهران وحلفائها العراقيين الذين تربطهم علاقات تنسيق مع الـ "بككا" والفصائل الكردية العراقية والسورية، خصوصاً في إطار المواجهة المشتركة مع تنظيم "داعش"؛ وثالثاً، وحتى في حال تمكَّنت حكومة السوداني من تجاوز اعتراضات بعض الحلفاء، فإنّها من غير الوارد أن تُعطي هدية مجانية لأنقرة دون الحصول على ثمن مناسب لهذا الموقف. 

ثانياً: ملف الطاقة وتصدير النفط 

على رغم أن تركيا هي البلد المجاور الوحيد الذي ظلّ النفط العراقية يتدفق عبر أراضيه ليصل إلى السوق العالمية، فإنّ المصلحة المشتركة التي حكمت علاقة الطرفين بهذا الشأن لم تمنع من تفاقم الخلافات بينهما بخصوص ملف النفط، وصولاً إلى وقف الصادرات النفطية عبر الأنبوب النفطي العراقي الذي يعبر الأراضي التركية. ويعود الخلاف إلى سنوات مضت حينما وقّعت أنقرة وحكومة إقليم كردستان اتفاقاً طويل الأمد يسمح لحكومة الإقليم بتصدير نفطها عبر الأنبوب العراقي - التركي دون العودة إلى بغداد. وقد رأت الحكومة العراقية في هذا الترتيب خرقاً لسيادتها، وللنصوص الدستورية التي تفسرها على أنّها تمنحها الحق الحصري بتصدير النفط، إلّا أنّها لم تكن قادرة على وقف تنفيذ الاتفاق، حتى جاء قرار المحكمة التجارية الدولية في مارس الماضي، بعدم قانونية تصدير النفط الكردي من ميناء جيهان التركي، وفرض على تركيا دفع تعويض للعراق بقيمة 1.5 مليار دولار جزاءً لخرقها الاتفاقية العراقية-التركية المتعلقة بأنبوب النفط المشترك. 

كان رد الفعل التركي المباشر إغلاق الانبوب، ووقف تصدير النفط العراقي عبر الأراضي التركية. وبينما دخلت حكومتا بغداد وأربيل في مفاوضات بهدف الوصول إلى ترتيب جديد يسمح باستئناف تصدير نفط الإقليم بإشراف الحكومة العراقية، فإنّ الموقف التركي لم يُظهِر أي استعجال بهذا الشأن، وجرى توظيف كارثة الزلزال الذي ضرب تركيا ذريعةً من الجانب التركي لتأخير استئناف تصدير النفط. وتُعّول تركيا على حاجة العراق وإقليم كردستان لاستئناف تصدير النفط من أجل الدخول في تفاوض من موقع أقوى، وهو ما ترجمته المطالب التي حملها وزير الطاقة التركي إلى العراق مقابل السماح باستئناف تصدير النفط. ومع أن تركيا تخسر ما يُقدَّر بمليار دولار سنوياً بسبب توقف تصدير النفط العراقي عبر أراضيها، فإنّ بعض التقديرات تذهب إلى أنّ العراق يتكبد خسارة تقدر بـ 33 مليون دولار يومياً بسبب هذا التوقُّف. وكان العراق يصدر حوالي 400-500 ألف برميل يومياً عبر تركيا، تبلغ حصة نفط كردستان منها حوالي 350 ألف برميل. 

وبحسب مستشار سابق لرئيس الوزراء العراقي، قدّمت تركيا مطالب تعجيزية، مثل تحمُّل العراق دفع رسوم المرور أثناء فترة توقف تصدير النفط عبر الأنبوب، والتنازل عن دعوى المطالبة بالتعويض من تركيا. بينما أشارت وكالة بلومبيرغ إلى أنّ تركيا طلبت من حكومة إقليم كردستان تحمُّل مبلغ التعويض الذي قررته المحكمة. ونقلت وسائل إعلام محلية عراقية، في 27 أغسطس، عن عضو في لجنة النفط والغاز البرلمانية العراقية، أن تركيا طالبت بخصم بقيمة 13 دولار للبرميل الواحد للنفط الذي تستورده من العراق. 

مع ذلك، قد لا تكون القراءة التركية دقيقة بشأن حاجة العراق لاستئناف تصدير النفط سريعاً. فمع أن العراق يسجل تراجعاً في حجم صارداته النفطية (وصل إلى 290 ألف برميل يومياً) في أبريل الماضي، إلّا أنه يحقق عوائد جيدة بسبب ارتفاع أسعار النفط (بلغت 8.239 مليار دولار في يوليو الماضي)، ممّا قد يجعل بغداد أقل استعداداً لتقديم تنازلات كبيرة في هذا الملف من أجل استئناف تصدير النفط. صحيح أن بغداد تخسر عوائد إضافية، وتترتب عليها أعباء تتعلق بتعويض إقليم كردستان بموجب موازنة العام 2023، إلّا أنّ بعض أطراف الحكومة المركزية قد تجد في ذلك ثمناً مقبولاً لقاء العائد السياسي المترتب على تأكيد سلطة بغداد السيادية في مجال الصادرات النفطية وإعادة ربط إقليم كردستان بالسلطة الاتحادية. وعلى رغم أن حكومة إقليم كردستان تظهر بوصفها الخاسر الأكبر من المعادلة الراهنة، فإنّها قد تستفيد من تحويل أعباء الديون المترتبة عليها إلى الشركات النفطية الأجنبية إلى بغداد، أو استغلال الفرصة للتفاوض على شروط جديدة لتقاسم تلك الأعباء. يُضاف إلى ذلك، أنّ المصادر على الأرض تشير إلى أن الإقليم لا يزال يُصدِّر جزءاً من نفطه عبر الشاحنات، وبطرق غير رسمية، والعوائد المتحققة عن ذلك تذهب إلى الأحزاب المهيمنة هناك. 

وفي ضوء ذلك، من المرجح أن تنطلق المطالب التركية في هذا الملف من سقوف عالية قد تُخفَّف لاحقاً، وقد يكون هدف إسقاط التعويض من قبل بغداد هو الثمن الأهم في أي ترتيب جديد، مع السماح بخصومات لتركيا من وارداتها من النفط العراقي. 

ثالثاً: ملف المياه 

في الوقت الذي يواجه العراق منذ سنوات أزمة جفاف حادة تسببت بخروج مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية من الخدمة، وتواجه تركيا نفسها نقصاً في الموارد المائية في بعض المناطق، تصبح قضية الحصص المائية للبلدين (إلى جانب سورية) في مياه دجلة والفرات أكثر خطورةً، وذات تأثير طويل المدى. حتى الآن، ساعد اعتماد العراق على الريع النفطي واتجاهه لاستيراد كميات كبيرة من المواد الغذائية على تخفيف تداعيات الأزمة، لكن يظل هنالك احتمال لإمكانية تفاقمها مستقبلاً في حال تراجعت العائدات النفطية، وحصل مزيد من الانهيار للزراعة المحلية. إنّ حوالي 71% من مياه نهري دجلة والفرات التي تدخل العراق تأتي من تركيا، مما يمنح الأخيرة قدرة كبيرة على التحكم بحجم التدفقات والتأثير على حصة العراق. وتشير التقديرات إلى أنّ حصة العراق قد تراجعت من حوالي 73 مليار متر مكعب عام 2003 إلى 50 مليار متر مكعب عام 2020، بسبب عملية ملء السدود التركية، ومن المحتمل أن تتراجع في السنوات المقبلة بنسبة أكبر إذا استمرت خطط الاستغلال التركية للمياه على حالها. 

من جانبها، تُلقي تركيا باللوم على سوء استخدام العراق لموارده المائية، وعدم تحديث نظم الري، وتؤكد أن إدارتها لملف المياه تستجيب لحاجة الاقتصاد المحلي، وللقوانين الدولية. وقد أصبحت هذه القضية حاضرة في معظم اللقاءات بين الطرفين، وأخذت تدريجياً تأخذ منحى سياسياً يؤثر ويتأثر بالملفات الأخرى. 

وقد شملت زيارات المسؤولين الأتراك إلى العراق تحضيراً للزيارة المرتقبة لأردوغان، قيام المبعوث الخاص للرئيس التركي لشؤون المياه، فيصل إيراوغلو، بزيارة بغداد، وعقد اجتماعات مع المسؤولين العراقيين بهدف مناقشة الخلافات بهذا الشأن، مما يؤكد أنّ قضية المياه صارت تحتل حيزاً أساسياً في تشكيل علاقات الجانبين. 

رابعاً: مشروع "طريق التنمية" 

قد لا يكون مشروع "طريق التنمية" الذي تُرّوج له الحكومة العراقية ملفّاً خلافياً، إلّا أنّه يتفاعل مع ملفات أخرى، وبشكل خاص التجارة بين الطرفين. لقد أعلنت تركيا دعمها للمشروع، وجاءت زيارة وزير التجارة التركي، عمر بولات، إلى بغداد، مناسبة لتأكيد الموقف التركي وتجديد مناقشة الموضوع مع الجانب العراقي. مع ذلك، ليست هنالك مؤشرات على أنّ الجانبين قد توصلا إلى اتفاق واضح بخصوص تنفيذ المشروع، خصوصاً ما يتعلق بمطلب الحكومة العراقية بأن يدخل الطريق الأراضي التركية من نقطة فيشخابور، وأن لا يمر عبر أراضي إقليم كردستان. 

ويحاول الجانب التركي تجنُّب الإشكالية الناتجة عن الاختلاف بين إقليم كردستان وبغداد بخصوص مسار الطريق، وطفا هذا الخلاف إلى السطح خلال لقاء رئيس وزراء إقليم كردستان، مسرور بارزاني، بوزيري الخارجية والطاقة التركيين، حيث طالب بأن يجري تنفيذ المشروع بموافقة إقليم كردستان والتعاون معه. ويعترض الجانب الكردي على محاولة بغداد استثناء الإقليم من مسار الطريق، وبالتالي فتح منفذ للتواصل البري المباشر مع تركيا، وهو أمر قد يضعف القيمة الجيوسياسية للإقليم، كما يضر بدوره التجاري مع تركيا. واتصالاً بذلك، ترغب تركيا بأن يخفف العراق من القيود التجارية والتعرفات المفروضة على بعض المواد الغذائية الأساسية كالدواجن والبيض، والتي فرضها العراق بغية دعم انتاجه المحلي، وأثارت اعتراضات كبيرة من المنتجين الأتراك إلى حد دفع السلطات التركية إلى التدخل لدى الحكومة العراقية للمطالبة برفع القيود. من جانبه، يشتكي الجانب العراقي بأن إقليم كردستان يتواطأ مع المنتجين الأتراك عبر استقبال صادراتهم وتسهيل عبورها إلى بقية الأراضي العراقية دون دفع الرسوم الجمركية

وقد قارب حجم الصادرات التركية إلى العراق 14 مليار دولار عام 2022، مع وجود طموحات تركية لزيادة هذ الحجم. وعلى الأرجح، ستسعى تركيا إلى ربط موقفها من "طريق التنمية" بإمكانية الحصول على المزيد من الامتيازات التجارية والاستثمارية في العراق، خصوصاً أنّها تواجه منافسة من إيران والصين في السوق العراقية، مع دخول تدريجي لدول الخليج العربية في هذه السوق. 

المسارات المحتملة للعلاقات

حَرَّكت سلسلة زيارات المسؤولين الأتراك إلى العراق، والتي يُفترض أن تمهِّد لزيارة الرئيس التركي إلى بغداد، المياه الراكدة للعلاقات العراقية - التركية، وحدّدت أجندة أساسية للعمل عليها بين الجانبين. وهنا يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات أساسية لمسار العلاقات في المدى المنظور. 

الأول، سيناريو الصفقة الكبرى، أن يُقرِّر الطرفان التعامل مع الملفات المتعددة ضمن صفقة واحدة وفق مبدأ رابح-رابح، وهو سيناريو ينبني على احتمال تبنِّي الحكومة العراقية موقفاً أكثر تشدداً تجاه نشاط الـ "بككا" في الأراضي العراقية، والسماح للجانب التركي بتصعيد عملياته داخل الأراضي العراقية، مقابل استئناف صادرات النفط العراقية عبر تركيا، والتوصل إلى ترضية فيما يخص التعويضات التي فرضت المحكمة التجارية الدولية دفعها على تركيا. وسيتطلب مثل هذا السيناريو إرادة من حكومة السوداني لإقناع الفرقاء العراقيين بمنافع مثل هذه الصفقة، وبشكل خاص التوصل إلى تسويات مع إقليم كردستان والحزبين الرئيسيين فيه من جهة، ومع الفصائل المقربة من طهران من جهة أخرى. 

ثانياً، سيناريو تجزئة الملفات، وقد يكون السيناريو المرجح، حيث يواصل الطرفان التعامل مع الملفات بشكلٍ منفصلٍ بسبب تباين أولوياتهما من جهة، ولصعوبة التوصل لصيغة شاملة بسبب تعدُّد الفاعلين المؤثرين الداخليين والخارجيين. وفي هذه الحالة، قد يحصل تقدُّم فيما يخص ملف الطاقة وملف الـ "بككا" لكنه لايرتقي إلى مستوى الصفقة الشاملة، بل الحلول الجزئية، ولا ينعكس على ملفات أكثر تعقيداً مثل ملف المياه. 

ثالثاً، سيناريو تصاعد التوتر، وقد ينتج عن فشل الجانبين بالتوصل إلى أي تسويات في الملفات الأساسية، واتجاه كل منهما إلى التعامل بشكل منفرد، كأن تُصعِّد تركيا هجماتها على الـ "بككا" في الأراضي العراقية دون استشارة الحكومة العراقية، وأن تتبنى منهجاً منفصلاً مع إقليم كردستان يحد من تأثير الحكومة العراقية، ويمتد ذلك ليشمل موضوع صادرات النفط المنتج في كردستان، وملف المياه. لكن هذا السيناريو يبدو أقل احتمالاً، نظراً لأن تكلفته بالنسبة للطرفين أعلى من تكلفة التنسيق والتعاون. 

الاستنتاجات

هناك فرصة جيدة لإعادة ضبط العلاقات التركية-العراقية في ظل حاجة البلدين للوصول إلى تسويات بخصوص الملفات الأكثر إلحاحاً (وتحديداً العمليات العسكرية التركية ضد عناصر الـ "بككا" في الأراضي العراقية، وموضوع استئناف الصادرات النفطية عبر الأنبوب العراقي- التركي). وعلى الأرجح، فإنّ الوصول إلى تسويات في هذين الملفين سينعكس ايجاباً على الملفات الأخرى، ويُعيد وضع العلاقات بين الطرفين على السكة الصحيحة. ولا يُشترط أن يحدث ذلك في إطار صفقة كبرى شاملة، ولكن عبر صفقة جزئية تُمهِّد الأجواء لبناء الثقة ولخطوات مستقبلية أخرى. 

والأمر الواضح هنا، أن الهروب من مواجهة الملفات الإشكالية لم يعد الخيار الأمثل للطرفين، نظراً لحاجة الحكومة التركية الجديدة لجوٍ إقليمي إيجابي، خصوصاً مع المصاعب التي تكتنف التطبيع مع دمشق، ما يجعل العلاقات مع بغداد ضرورية لتأمين الخاصرة الجنوبية لتركيا، مع ما تحمله هذه العلاقات من منافع اقتصادية وتجارية مهمة لتركيا. 

وفي المقابل، فإنّ مسعى حكومة السوداني لتطوير البنية التحتية، وتدشين مشاريع تنمية اقتصادية، وفك الاستعصاءات الأمنية، سيتطلب منها التعامل باهتمام مع المطالب التركية والعمل بجدية أكبر للوصول إلى تسويات مع أنقرة، خصوصاً أنّ السوداني نجح حتى الآن باتخاذ موقف متوازن بين الأطراف العراقية المختلفة والمعنية بملف العلاقات مع تركيا، وبشكل خاص إقليم كردستان والفصائل المقربة من طهران. 

عن "مركز الإمارات للسياسات"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية