الاتحاد التونسي للشغل وجدل العلاقة بين الدور الوظيفي والعلاقة مع الرئيس

الاتحاد التونسي للشغل وجدل العلاقة بين الدور الوظيفي والعلاقة مع الرئيس

الاتحاد التونسي للشغل وجدل العلاقة بين الدور الوظيفي والعلاقة مع الرئيس


06/05/2024

ثمّة قراءة واجبة وضرورية لكافة الفعاليات التي نظمها الاتحاد التونسي للشغل في عيد العمال العالمي، داخل حيز (3) رؤى أساسية وضرورية وملحة؛ الأولى منها مواكبة احتفال عيد العمال برمزيته التاريخية والسياسية، والثانية الظهور ميدانياً بعد غياب فترة طويلة، والإعلان عن فعالية وحيوية المنظمة الشغيلة، مرة أمام منتسبيه من خلال تحديث  المقر التاريخي، وأخرى أمام السلطة التنفيذية والسياسية من خلال التواجد النقابي في الساحات، وأخيراً اعتبار يوم عيد العمال فرصة مواتية وسانحة، لتوجيه جملة من الرسائل للحكومة التونسية؛ بالعودة إلى الحوار من جديد بخصوص رفع الأجور وتحسين أوضاع العمال، فضلاً عن ترك الخيوط اللازمة والضرورية لمؤسسة الرئاسة بأن تلتقطها للجلوس من جديد في دفع الوجه السياسي للمنظمة الشغيلة نحو الحياة من جديد.

رمزية المقر 

أتمّ الاتحاد التونسي للشغل تدشين المقر الرمزي والتاريخي للمنظمة الشغيلة مع الاحتفال بعيد العمال العالمي، بعد أعمال ارتبطت بتجديد وصيانة مقر الاتحاد بالعاصمة التونسية، واستغرقت (3) أعوام بكلفة أولية اقتربت من (30) مليون دينار. وقد صرّح السيد سامي الطاهري عضو المكتب التنفيذي للمنظمة الشغيلة والناطق الرسمي باسمها، في تصريح لوكالة (تونس أفريقيا) للأنباء، على هامش التجمع العمالي بساحة محمد علي، أنّ تدشين مقر المركزية النقابية في ثوبه الجديد يليق بعراقة الاتحاد ودوره التاريخي في البلاد، لافتاً إلى أنّ بناية الاتحاد كانت في السابق مقراً للجندرمة الفرنسية ورمزاً للقمع والاستبداد، ثم أصبحت منذ استلامها في 12 حزيران (يونيو) 1955 مقراً للاتحاد العام التونسي للشغل.

إلى ذلك، عاود الأمين العام للاتحاد التونسي للشغل نور الدين الطبوبي، دعوته إلى مسار الحوار الوطني لحلّ القضايا السياسية والاقتصادية التي تشغل بال المواطن التونسي. وقال الطبوبي في خطاب أمام تجمع للعمال بمناسبة الاحتفال بيوم العمال العالمي: إنّ الاتحاد سعى طوال الفترة الماضية إلى تجنيب تونس التوترات في ظرف وصفه بالصعب والدقيق على جميع الأصعدة، مؤكداً أنّه سيتصدى لما وصفها بالإجراءات "اللّاشعبية".

الاتحاد التونسي للشغل

وتابع الطبوبي قائلاً: "مصممون على الحفاظ على أهم مكسب اجتماعي، وهو الحوار الاجتماعي الذي ناضلت من أجله الأجيال، ولن ندخر جهداً من أجل إعادة الأمور إلى نصابها". مؤكداً أنّ الاتحاد الذي يضم نحو مليون شخص سيسعى إلى "فرض حق التفاوض، وحق تحسين أوضاع العمال والمتقاعدين، وصون حقوقهم، ولن نقبل أن تسحب تلك المكاسب".

في هذا السياق، يقول الكاتب الصحفي خليل الرقيق: إنّه رغم تصريحات الاتحاد، سواء في تجمع الثاني من شهر آذار (مارس) الفائت،  أو في الاحتفال باليوم العالمي للشغل مطلع شهر أيّار (مايو) الجاري، نستطيع تلمُّس عدد من التلميحات السياسية الواضحة، وربما للدقة نبصر تصعيداً في اللهجة السياسية إزاء السلطة القائمة. ولكن في الحقيقة كان هذا التصعيد غير ذي أجندة لتحركات واضحة ومحددة وبتواريخ معينة.

ويردف الكاتب التونسي في تصريحاته لـ (حفريات) أنّ ذلك يعني كون الاتحاد يكتفي الآن بتسجيل الاحتجاج، ربما لتوتر الصبغة العلائقية بينه وبين السلطة في الأشهر الأخيرة. 

بدا ذلك واضحاً من خلال انقطاع الاتصال، وربما هناك أيضاً تضييقات على تحركات بعض النقابيين، وذلك فيما يخص التفرغ النقابي أو محاسبات فردية في قضايا معينة لبعض النقابيين الآخرين. 

إذاً، وبحسب تعبير المصدر ذاته، خلق ذلك مناخاً ربما يشير إلى الخروج عن المألوف، بمعنى آخر أكثر وضوحاً إرسال إشارات سياسية ربما حول الانتخابات وغيرها. بيد أنّ الواقعية السياسية تفرض عليّ القول إنني لا أعتقد أنّ الاتحاد في وضعيته الحالية يستطيع أن ينجز تحركات معينة ذات مردودية شعبية احتجاجية، باعتبار أنّ هناك غياباً لأجندة التحركات بالأصل.

كل القطاعات الوظيفية تقريباً قامت بعمل تفاهمات مع السلطة فيما يخص الزيادات في الأجور، ووقّعت على هذه الأمور المتفق عليها. ويضيف الكاتب الصحفي خليل الرقيق في تصريحاته لـ (حفريات) تأكيده أنّ المنظمة الشغيلة ليست مهيّأة حالياً لخوض مواجهات كبرى بأيّ شكل من الأشكال، وذلك على خلفية وجود رؤيتين: رؤية أولى تتبلور في جزء من القيادة تتجه إلى الاقتراب من مربع المعارضة السياسية، ورؤية أخرى تجد نفسها متناغمة مع شعارات وفكر ومسار 25 تموز (يوليو)، باعتبار وقوفها مع السلطة على الرأي نفسه تجاه دعم الفئات الفقيرة تجاه عدم التفويت في المؤسسات العمومية للقضاء على آليات التشغيل الهش. كلّ ذلك يجعلنا ندرك أنّ الاتحاد التونسي للشغل هو جملة من الأصوات المتعددة، ممّا يدفعه بعيداً عن أطر المواجهة والضغط والصدام، بل سيواصل ربما في المراوحة ما بين التصعيد والتهدئة، لا سيّما على مستوى اللهجة، وسيكون ذلك ممتداً ومتصلاً حتى  ترتيب محددات علاقة تكون أفضل مع السلطة.

موقف سياسي وظيفي

يختتم الكاتب خليل الرقيق حديثه لـ (حفريات) بالإشارة إلى أنّ موقع المنظمة الشغيلة  حالياً، في المشهد العام الآمن، لم يخرج من  الحياة السياسية، ولكنّه حدد له مربعاً معيناً وظيفياً هو الوظيفة الاجتماعية.

ورأى الطبوبي أنّ الإجراءات التي تتخذها الحكومة "ألهبت الأسعار وأفرغت السوق من المواد، وأثقلت كاهل الأجراء مباشرين ومتقاعدين بالضرائب، وأنهكت العائلات بمزيد من الأعباء أمام تردي خدمات المرفق العمومي (المؤسسات العامة)".

وخلال حديثه عن ضرورة إجراء حوار وطني لحل المشاكل العالقة مع الحكومة أوضح الطبوبي أنّ الحديث عن حوار وطني "غير ممكن في ظل غياب حوار اجتماعي وعقلية غير مهيّأة ومكتملة الجوانب لبناء تونس وإيجاد الحلول للمشاكل، عكس ما هو موجود في تونس اليوم من هروب إلى الأمام، وضرب العمل النقابي والنقل التعسفي للنقابيين، والمحاكمات الجائرة بملفات كيدية لا أساس لها من الصحة"،  وأضاف الطبوبي: "إذا كانت هذه الوضعية لحوار اجتماعي، فكيف يمكن التطرق لملفات سياسية وتطوير الحياة السياسية؟".

من جانبه، وصف الأكاديمي التونسي مراد الحاجي أنّ الاحتفال باليوم العالمي للعمال بكونه مثيراً بالنسبة إلى اتحاد الشغل. فقد جاء الاحتفال قائماً على إعلان نهاية أشغال بناية الاتحاد وترميمها بتكاليف وصلت إلى (30) مليون دينار. 

...

ويتابع الدكتور مراد الحاجي في إطار تصريحاته لـ (حفريات) بقوله: كأنّ هذا الأمر منجز من منجزات المكتب التنفيذي التي يتباهى بها. لكنّ واقع الأمر ومعاناة العمال الذين أقيمت هذه الإنجازات من أموال انخراطهم، جعلت الإعلان عن هذه الأرقام والمصاريف مثاراً للسخرية والنقد اللاذع للاتحاد في شبكات التواصل الاجتماعي وحتى في وسائل الإعلام. بل ارتفعت بعض الشعارات أثناء إلقاء الأمين العام نور الدين الطبوبي كلمته ضد نهج المكتب التنفيذي مطالبة بمجلس وطني للاتحاد باعتباره أعلى سلطة قرار يمكن أن تنظر في انحرافات المكتب التنفيذي. وهذا ما يكشف تململ القواعد النقابية وغضبها من المسار الذي أدخل فيه المكتب التنفيذي الاتحاد.

ارتباك داخلي

ولعل من وجوه الغضب أنّ الاتحاد بعد أن كان طرفاً فاعلاً في واقع المجتمع التونسي وفي الحياة السياسية للبلاد فقد زخمه وبريقه. بل تأثرت صورته حتى لدى النقابيين أنفسهم بسبب الشرخ الذي أحدثته القيادة الحالية بتنقيحها للنظام الداخلي من أجل التمديد لأعضاء المكتب التنفيذي، وهو ما يتنافى مع روح الديمقراطية. فالمكتب التنفيذي في المدة السابقة كان همّه الأساسي التمديد لأعضائه على حساب مصالح العمال وبالاعتداء على قواعد الديمقراطية التي تسير هياكله. وهكذا استطاع أعضاء المكتب التنفيذي الحصول على مدة قيادية جديدة، ولكنّهم فقدوا مصداقيتهم لدى النقابيين، وأفقدوا الاتحاد صلابته بتلاحم العمال داخله، ممّا أثر أيضاً على تعامله مع الدولة. فقد وجدت قيادة الاتحاد نفسها في تجاذبات داخلية وصلت إلى حدّ طرح قضية من بعض النقابيين في المحاكم من أجل إثبات عدم شرعية التمديد، بحسب تعبير المصدر ذاته. 

هنا وجدت قيادة الاتحاد نفسها مجبرة على خوض صراع إثبات مشروعيتها في المحاكم. وتخلت عن دورها في الدفاع عن العمال لتهتم بالدفاع عن مصالحها في التمديد. وهكذا فقد الاتحاد تأثيره في الساحة السياسية وأصبحت قيادته منعوتة من خصومها بأنّها تعادي الديمقراطية، فكيف يمكن أن تطالب بها أو تلعب دوراً في الساحة السياسية؟ ويلفت الدكتور مراد الحاجي إلى أنّ مرحلة الضعف والتجاذب التي أدخلت فيها قيادة المكتب التنفيذي الاتحاد أثرت على تعامله مع السلطة. فقيس سعيّد الذي يرفع شعار مقاومة الفساد يصر مناصروه على نبذ الاتحاد من بوابة انعدام الديمقراطية فيه، وأنّ عليه أن يعالج مفاسده قبل الحديث عن أمور البلاد. كما تراجع دور الاتحاد بسبب صراع قيادة الاتحاد مع قيادة أهم فصيل نقابي وهو الجامعة العامة للتعليم الثانوي. وهو صراع أثر على قوة الاتحاد وتأثيره، كما أدى إلى تراجع دوره في إسناد نضالات العمال المنخرطين فيه، لأنّه دخل في مقايضات مع السلطة من أجل أن ينتصر على خصومه الداخليين.

ولعل إحدى العلامات التي يمكن قراءتها "سيميائيّاً" في فشل الاتحاد في تسيد الواجهة مع السلطة الحالية، هو أنّه يوم كان الاتحاد يتباهى بإنفاق هذه المبالغ على مقراته كان قيس سعيّد يلتقي عمال شركة الكهرباء الجرحى الذين أنقذوا مؤسسة مهمة من حريق  قد يؤدي إلى خسائر جمّة بالتضحية بأنفسهم ومواجهة الخطر. وهو بذلك كأنّما يسحب البساط من تحت أقدام قيادة الاتحاد.

ولعل هذا ما يكشف صعوبة المرحلة القادمة، فالاتحاد يتخبط في صراعاته الداخلية. كما أنّ جزءاً مهمّاً من اليسار الذي هو العمود الفقري للاتحاد مساند لقيس سعيّد. إضافة إلى أنّ الشعارات التي رفعها العمال أثناء احتفالية الأوّل من أيّار (مايو)، تدل على أنّ الصراعات الداخلية ما زالت تضعف الاتحاد، وأنّه لا يمكن أن يلعب دوراً مهمّاً ما دامت هذه الصراعات تمزقه، وهو ما يفسر عجزه عن مواجهة أيّ منحى تسلطي للسلطة الحالية، أو نقد الانحرافات التي قد تحصل، فهو لا يقلّ عنها تسلطية ومعاداة للديمقراطية.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية