الفتوى بين الانضباط والفوضى

الفتوى بين الانضباط والفوضى

الفتوى بين الانضباط والفوضى


06/04/2023

أحمد محمد الشحي

تعد الفتوى من أهم أشكال الخطاب الديني في المجتمعات، لأنها تتضمن تبيين الأحكام الشرعية للناس فيما يحتاجونه من أمورهم وشؤونهم، فهي ترتبط بالناس وواقعهم ارتباطاً وثيقاً، والفتوى الصحيحة المعتدلة تقوم على أسس شرعية حضارية تراعي المصالح العامة والخاصة، ومستجدات العصر، وفق ضوابط محكمة متينة، فالفتوى لما كانت في جوهرها تبييناً للأحكام الشرعية الصحيحة للأفراد والمجتمعات اقتضى ذلك أن تستند إلى أصول الاستدلال وقواعده المنضبطة.

ولذلك فإن شأن الفتوى عظيم، فهي تتضمن تنزيل الأحكام الشرعية على الوقائع والحوادث والنوازل، فمتى كانت الفتوى صحيحة منضبطة صادرة من أهلها المختصين بها تحققت آثارها الإيجابية، وحُفظت بها المصالح، ورُوعيت المقاصد، واستُرشد الناس، وحافظت المجتمعات على استقرارها، ومتى زاحم المختصين بالفتيا من ليسوا بأهلها من الدخلاء والمتعالمين أفسدوا فيها وبها، فنشروا الأحكام الشاذة والمختلقة، وعبثوا بساحة الدين، ونحوا بالناس منحى التشدد أو الانحلال، وصرفوهم عن جادة الوسطية والاعتدال.

وإذا كنا نرى اليوم من ابتلوا بالتساهل والجرأة في الفتوى، وخاصة في مواقع التواصل الاجتماعي، فإن العلماء الذين هم أعرف الناس به كانوا أهيب ما يكونون عن الخوض في الفتوى، تعظيماً لشأنها، وإحساساً بعميق المسؤولية أمام الله تعالى، فإذا استُفتي أحدهم جعل مراقبة الله تعالى نصب عينيه، فلم يتعجل ولم يتهور، ولم يفتِ إلا عن علم وثيق وتمكُّن عميق، وإلا سكت ولم يخض في المسألة استجابة لخاطر طارئ أو نظرة عابرة قاصرة، وسيرة العلماء زاخرة بهذه القيمة العظيمة، قال الإمام الشافعي: «ما رأيت أحداً جمع الله فيه ‌من ‌آلة ‌الفتيا ما جمع في سفيان بن عيينة، وما رأيت أحداً أَكَفَّ عن الفتيا منه»، فمع ما تمتع به هذا العالم الجليل سفيان بن عيينة من سعة العلم، وإدراكه أكثر من ثمانين نفراً من التابعين، وتلقِّيه العلم منهم، حتى شهد له بالتضلع أهل عصره، وقال فيه الإمام أحمد بن حنبل: «ما رأيت أحداً من الفقهاء أعلم بالقرآن والسنن منه»، مع هذه المكانة العلمية المرموقة كان من أشد الناس تهيُّباً من الفتوى وحرصاً على حمايتها وصيانتها وانضباطها.

وما أحوج كل صاحب خطاب ديني إلى هذا النهج التربوي، الذي يملي عليه مراقبة الله تعالى فيما يقول، والتمسك بالانضباط والوسطية والاعتدال، وعدم الخوض في الفتوى دون أهلية وتخصص، فإن ذلك بابٌ عظيمٌ للفوضى والفتن والتطرف والتشديد والانحلال، ومن أبرز أسباب هذه الفوضى الخروج عن ضوابط الفتوى وقواعد الاستدلال، وتقديس العقل الفرداني والفكر المنغلق، الناتج في كثير من الأحيان عن حالة من الغرور الفكري، الذي يظن صاحبه أنه مستغنٍ عن الالتزام بأي قواعد أو ضوابط أو فقه لغة أو أصول، فيُصدر الفتاوى بناء على نظرته الفردية السطحية ومقاييسه الخاصة وحالته النفسية، وكم رأينا من ذلك نماذج حملوا راية التطرف والتكفير بهذه المقاييس المنحرفة للإفتاء، والأمثلة على ذلك كثيرة، منهم على سبيل المثال صالح عبدالله سرية، الذي يعتبر من أبرز المتطرفين الإرهابيين الذين سعوا إلى قلب نظام الحكم في مصر إبان حكم السادات، والذي تأثر به من جاء بعده من جماعات التكفير، فقد اشتط به الأمر حتى رفض الالتزام بالضوابط والقواعد، ودعا إلى الأخذ من القرآن مباشرة بالعقل الفردي غير المنضبط، حتى قال في هذا الصدد: «مُنع المسلمون من الأخذ من الكتاب مباشرة، لأن من يسمونهم رجال الدين قد اقتدوا بالنصارى الذين حصروا الكتاب المقدس على طبقة رجال الدين ومنعوا أيّاً كان من فهمه وتفسيره»!! وبهذه الجرأة الشديدة الرافضة للقواعد والضوابط أصدر فتاوى التكفير والقتل والاغتيال، وأصبح رأساً من رؤوس الإرهاب في هذا العصر، وعلى هذا النهج الفوضوي المنفلت سار منظرو التيارات المتطرفة من جهة، ودعاة الانحلال والانفلات من جهة أخرى، فجنوا على أنفسهم وعلى غيرهم، إلى غير ذلك من النماذج والأمثلة الكثيرة، التي تؤكد الأهمية الكبيرة لضبط الفتوى، وخاصة في هذا العصر، عصر العمل المؤسسي وتكنولوجيا الاتصالات.

ومن الدول الرائدة في مجال ضبط الفتوى دولة الإمارات، التي لها جهود كثيرة متميزة في هذا المجال، منها إنشاء مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، الذي يُعنى بإصدار الفتاوى الشرعية بضوابطها الأصيلة، التي تراعي المقاصد العليا والمصالح الكبرى، لتعزز دولة الإمارات شأن الفتوى، كرافد حضاري يسهم في تلبية احتياجات المجتمع وسعادته ورقيه وتعزيز القيم الإيجابية والمبادئ الراقية والرؤية المستنيرة للقيادة الحكيمة.

عن "البيان" الإماراتية




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية