المشهد الجهادي 2020... بين الجمود والتغيير

المشهد الجهادي 2020... بين الجمود والتغيير


20/12/2020

عبدالله سليمان علي

لم تطرأ خلال عام 2020 تغيّرات جذرية على المشهد الجهادي العام في شمال غربي سوريا، رغم أن الشهرين الأخيرين حملا تطورات واعدة في إمكان حدوث هزات عميقة في صفوف الجهاديين. وعلى خلاف المتوقع، لعبت التفاهمات الثنائية بين روسيا وتركيا دوراً حال دون اكتمال دائرة تلك التطورات وأسهم في إجهاض تأثيراتها المحتملة. وفيما كان المأمول أن تتدرج مفاعيل اتفاق الخامس من آذار (مارس) وصولاً إلى محاصرة "الجهادية" والعمل على عزل "المتطرفين" عن "المعتدلين"، أفرز المشهد تطورات معاكسة تمثلت من جهة في تكريس زعامة أبي محمد الجولاني زعيم "هيئة تحرير الشام" وتعميق أدواره المتشابكة أمنياً مع طرفي التفاهمات الثنائية في شكل مباشر أو غير مباشر، ومن جهة أخرى في بروز مصطلح "لا مركزية الجهاد" كقاعدة أساسية ستنبثق عنها بعض الجماعات الجديدة التي ستضع نصب أعينها هدفاً وحيداً هو العمل على تقويض التفاهمات الثنائية والحيلولة دون وضعها على سكة التنفيذ.

الجولاني راهن على المظلة الدولية

وكشفت الحملة العسكرية التي قادها الجيش السوري مطلع السنة الحالية واستمرت حتى السيطرة على مدينة سراقب الاستراتيجية، عن عدم الفاعلية العسكرية التي باتت تغلّف أداء الجماعات الجهادية، وعدم قدرتها على الوقوف في وجه آلة الجيش العسكرية، وهو ما استدعى في لحظة ما تدخلاً مباشراً من القوات التركية التي خسرت العشرات من عناصرها ما شكل تهديداً باحتمال اشتعال حرب إقليمية. وقد انتهى التصعيد من خلال توقيع اتفاق الخامس من آذار (مارس) بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان.

العبرة المستخلصة من ذلك أن الجماعات الجهادية في منطقة إدلب ومحيطها لم تعد تعتمد في البقاء وإثبات الوجود على الإمكانات العسكرية والفعالية القتالية، فذلك أمر تجاوزته التطورات ولم تعد جغرافياً إدلب قادرة على تحمل تبعاته خصوصاً في ظل عدم التكافؤ بين آلة الجيش السوري وحلفائه العسكرية وإمكاناتهم الضخمة مقابل القدرات المحدودة للجماعات الجهادية.

وقد استعاضت الأخيرة عن غياب التوازن الاستراتيجي من الناحية العسكرية من خلال التلاعب على حبال التفاهمات والمعادلات الاقليمية والدولية التي باتت تشكل المظلة الحقيقية التي تحمي هذه الفصائل وتطيل في أعمارها. وقد نقلت مصادر خاصة عن الجولاني في بداية حملة الجيش السوري قوله لقادة قطاعاته العسكرية "إدلب بخير ونحن متجهون إلى سلسلة طويلة من التهدئة والهدنات" ويعكس ذلك مدى عدم استشعار الجولاني بالخطر جرّاء حملة الجيش السوري وأنها لن تهدد "إمارته"، مقابل رهانه على وجود كوابح دولية ستعمل في لحظة ما على إحياء مبدأ وقف إطلاق النار والعودة إلى التهدئة.

ويتمتع الجولاني بحكم هيمنته شبه المطلقة على إدلب ومحيطها، بموقع خاص يتيح له الاستفادة من مميزات المعارضة السياسية المدعومة تركياً وغربياً مع توظيف ذلك في مراكمة أرباح خاصة بفصيله، حيث يدرك الجولاني أن إدلب هي الجغرافيا الأخيرة التي يمكنها منح المعارضة ورقة قوة على طاولة المفاوضات، وأن الدول الداعمة للمعارضة لا تقبل بالتنازل عن هذه الورقة للنظام السوري، لذلك ستعمل جاهدة على وقف أي عمل عسكري يهددها. ولكن بما أن الجولاني لا ينتمي إلى المعارضة السياسية وهو مصنف على قوائم الارهاب، فقد أسعفته براغماتيته في محاولة تقمّص دور المعارض وصولاً إلى حد الادعاء بأنه يقود حرب تحرير ضد الاحتلالين الروسي والإيراني. ولم تنطلِ هذه الألاعيب على بعض الدول الداعمة للمعارضة لا سيما الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية، غير أن الخيارات أمامها كانت أضيق من أن تسمح للجيش السوري وحلفائه بقضم جغرافيا إدلب لأنها تدرك أن معنى ذلك هو خسارة آخر ورقة من أوراق القوة ضد النظام السوري.

وقد جاء توقيع اتفاق الخامس من آذار (مارس) كي يؤكد صحة رهان الجولاني على الكوابح الدولية في وقف آلة الجيش السوري ومنعه من احتكار جغرافيا إدلب. ويبدو أن التطورات اللاحقة سوف تبقى خاضعة لهذه القواعد إلى أن تحصل تغييرات جذرية في المشهد تسمح بتغيير قواعد الاشتباك وبالتالي تزول العوائق الموضوعة أمام الجيش السوري لاقتحام إدلب، وهو ما لا يبدو متوافراً على المديين القريب والمتوسط.

ترحيل مشروع المجلس العسكري للسنة الجديدة

في إطار التحولات التي حاول القيام بها لاقتناص لقب المعارض واحتكار مكاسبه السياسية، طرح الجولاني مشروع المجلس العسكري الموحد بهدف إعادة هيكلة الفصائل المسلحة تحت إشراف ورقابة تركيين محاولاً من وراء ذلك التملص من مطالب "حل" "هيئة تحرير الشام" ودمجها في الفصائل الأخرى، وفق ما نص عليه كل من اتفاق سوتشي لعام 2018 واتفاق الخامس من آذار (مارس) الملحق به. وقد كانت فكرة الجولاني من خلال هذا الطرح تتمثل في الهيمنة على القرار داخل المجلس العسكري الموحّد ثم العمل على إنشاء مجلس سياسي يحتكر تمثيل منطقة إدلب على طاولة المفاوضات، ما من شأنه أن يخلصه من تبعات التصنيف على قوائم الإرهاب ويمنحه دوراً سياسياً طالما راود مخيلته على شاكلة الدور الذي اضطلعت به حركة "طالبان" الأفغانية في مفاوضاتها مع واشنطن أو حكومة كابول.

وكي يضمن الجولاني تحقيق أهداف طرحه، دعم في شكل سري محاولة انقلاب داخل صفوف "حركة أحرار الشام" الإسلامية بهدف التخلص من قيادتها الحالية الممثلة بقائدها العام جابر علي باشا ومجلس الشورى، وإيصال القيادة الانقلابية ممثلة بالقائد العام للجناح العسكري أبي المنذر درويش "عناد درويش" وحسن صوفان القائد العام الأسبق للحركة. وكان هدف الجولاني من وراء ذلك هو ضمان وجود تناغم بين توجهاته وتوجهات قيادة الحركة في حال تشكيل المجلس العسكري الموحد لأن قيادة الحركة الحالية ترفض توجهات الجولاني وترى في مشروع المجلس العسكري الموحد مدخلاً لبسط هيمنته المطلقة على إدلب عسكرياً وسياسياً وبالتالي إخراج كل الفصائل الأخرى من دائرة التأثير.

وإذا كان الانقلاب قد نجح في شق صف الحركة وتشتيت قادتها وعناصرها بين شرعيتين متناقضتين، إلا أنه لم يحقق هدف الجولاني في التخلص من قيادتها الحالية ووضع قيادة متناغمة مع توجهاته. وقد لوحظ أن أنقرة لم تكن بعيدة من توجهات الجولاني، حيث اقترحت لحل أزمة الحركة استقالة قيادتها الحالية مع مجلس الشورى وتأسيس مجلس قيادة جديد من ستة أعضاء يكون حسن صوفان وأبو المنذر درويش، قادة الانقلاب، من بينهم.

غير أن الاقتراح التركي لم يجد طريقه للتنفيذ، وهو ما أدى عملياً إلى ترحيل مشروع المجلس العسكري الموحد إلى السنة الجديدة. وقد يكون ذلك من سوء طالع الجولاني الذي لم يعد يملك هامشاً واسعاً من الوقت من أجل المناورة واللعب على حبال التناقضات لا سيما في ظل تغير الإدارة الأميركية وما يمكن أن يحمله من تغيير في طريقة التعامل مع "هيئة تحرير الشام" وأدوارها.

وبدأت إرهاصات ذلك بالظهور من خلال تذكير وزارة الخارجية الأميركية بالمكافأة، ومقدارها 10 ملايين دولار، الموضوعة لكل من يدلي بمعلومات تؤدي لمعرفة مكان الجولاني، الأمر الذي اعتبر بمثابة انعطافة أميركية بعد سياسة الترغيب التي قادها المبعوث الأميركي إلى سوريا جيمس جيفري، لاستقطاب "هيئة تحرير الشام" ودفعها إلى تبديل جلدها. وجاء تصنيف الهيئة باعتبارها ذات قلق خاص للإدارة الأميركية نتيجة انتهاكاتها للحريات الدينية كي يقضي على أحلام الجولاني في التحول من "جهادي عالمي" إلى معارض يقود حرب تحرير مشروعة.

"لا مركزية الجهاد" ضد الجولاني وتركيا

أنخرط الجولاني في جهود تنفيذ التفاهمات الثنائية التركية – الروسية بعدما تبين له أن التصدي لها عسكرياً أو شعبياً من خلال الاعتصام الذي أقامه لمنع الدوريات المشتركة على طريق M4 أصبح عديم الجدوى ولا يحقق مطامحه في إطالة عمر إمارته أطول فترة ممكنة. وقد وجد الجولاني أن أفضل طريقة للاحتفاظ بدوره وتحييد خصومه إنما تتمثل في مسايرة التفاهمات الثنائية وأن يكون هو، لا أحد غيره، وكيل تنفيذها على الأرض. وفي سبيل ذلك عمل على تقوية التنسيق الأمني بين جهازه الأمني بقيادة ابي أحمد حدود، وبين القوات التركية المسؤولة عن أمن الطريق الدولي M4. وتحوّل الجولاني من عدو للتفاهمات الثنائية إلى متعاون من أجل تنفيذها.

وقد أدى ذلك إلى شيوع مزاج في أوساط الجماعات الجهادية الموالية لتنظيم "القاعدة" يقوم على استعداء تركيا في شكل خاص باعتبار أن لها دوراً كبيراً في تضخيم ظاهرة الجولاني واعتماده كوكيل حصري لتنفيذ التفاهمات مع الروس، وينظر إلى الجولاني نفسه باعتباره الخصم الأول الذي ينبغي التخلص منه لمنع تدهور الساحة نحو مزيد من التنازلات والقبول بما تفرضه المنظومات الإقليمية والدولية.

ونتج من ذلك ظهور جماعات جديدة تضع نصب أعينها هدفاً وحيداً هو منع تنفيذ التفاهمات الثنائية، وقد كان استهداف الدوريات المشتركة الروسية – التركية هدفاً نموذجياً من أجل تحقيق ذلك، وهكذا ظهرت جماعة مثل "كتائب خطاب الشيشاني" التي تبنت المسؤولية عن العمليات التي استهدفت الدوريات. كما ظهرت جماعة "سرية ابي بكر الصديق" التي تنفذ عمليات ضد القواعد والقوات التركية الثابتة. وظهرت مجموعة ثالثة تحت اسم "حركة المجاهدين، في بلاد الشام" لم تتبنَ تنفيذ أي عملية حتى تاريخه لكنها اعتبرت التخلص من الجولاني الهدف الأول الذي تسعى الى تنفيذه.

وقد جاء ظهور هذه الجماعات تطبيقاً لمبدأ "لا مركزية الجهاد" في محاولة من بعض قيادات "القاعدة" العمل على تقويض أهداف المنظومة الدولية بحسب قناعتها المتمثلة في ترويض الجماعات الجهادية وإدخالها تحت جناح التفاهمات والاتفاقات تمهيداً لتمييعها وإضعاف روحها القتالية.

ويبدو أن العام الجديد سيكون اختباراً حقيقياً لمدى نجاح مبدأ لا مركزية الجهاد ومدى قدرته على الوقوف في وجه التيار السائد الذي يمثله الجولاني ويرى في مسايرة التفاهمات الثنائية والتشبيك مع المنظومات الإقليمية والدولية ضرورة ملحة من أجل البقاء والاستمرار.

عن "النهار" العربي

الصفحة الرئيسية