النكبة الفلسطينية وما بعدها...

النكبة الفلسطينية وما بعدها...

النكبة الفلسطينية وما بعدها...


06/05/2023

ماجد كيالي

ليست النكبة حدثاً للذكرى، أو التأسّي، فقط، وإنما هي، أيضاً، حدث يحثّ على تفحّص الأسئلة التي طرحها، أو فجرّها، وتالياً التفكير بمحاولة إيجاد إجابات مطابقة لها ما أمكن، مع ضرورة إدراك التمييز، أو عدم الخلط، بين ذلك الحدث المتعيّن بالتاريخ (1948)، والذي تضمن اقتلاع ثلثي الشعب الفلسطيني وتشريدهم من بيوتهم وأراضيهم وممتلكاتهم وتحويلهم إلى لاجئين وإقامة إسرائيل كدولة لليهود المهاجرين/المستوطنين بواسطة القوة، والذي لم يتم تجاوزه في أي شكل حتى الآن، وبين تداعياته المستمرة والمتعددة، إلى اليوم، رغم الترابط الوثيق ما بين النكبة وما بعدها، التي لها سياقات ومعطيات وتداعيات مختلفة، تفترض الحثّ على البحث بها، وكشفها وتمييزها.

ما تفترض ملاحظته، في السياق ذاته، أن النكبة بالنسبة إلى الفلسطينيين ليست شأناً عاماً، فقط، ولا سلباً لأرض وأملاك وحرمان من هوية، واقتلاع من الزمان والمكان، فحسب، على خطورة هذا وذاك، فذلك حصل منذ 75 عاماً، وقد نشأت بعدها أجيال جديدة من الفلسطينيين، الذين يعانون بشكل آخر، أيضاً، من استلاب حقوقهم، الجمعية والفردية، وحرمانهم من المواطنة في وطن خاص بهم، وهي مع كل ذلك شأن شخصي، أيضاً، إذ حولت الفلسطيني إلى شخص لاجئ أو إلى حالة امنية او قضية سياسية، أو مجال للابتزاز والمزايدة والتوظيف، في معظم بلدان اللجوء والشتات، كما حولته إلى مواطن من درجة أدنى في أرضه (ضمن إسرائيل)، أو إلى مجرد سكان مقيمين في الأراضي المحتلة (1967)، رغم إقامة سلطة لهم، هي بمرتبة حكم ذاتي.

في هذا الإطار تمكن ملاحظة ثلاثة أحداث مؤسّسة في تاريخ الشعب الفلسطيني الحديث، في الـ 75 سنة الماضية، أسهمت في تشكيل إدراكاته لذاته، ومكانته، وهويته، وأثّرت في رؤيته لمحيطه وللعالم، ولطبيعة علاقته معهما. 

الحدث الأول، وهو الذي يتمثّل بالنكبة، واللجوء، بنتيجة إقامة إسرائيل (1948). والثاني، ولادة الحركة الوطنية الفلسطينية (1965)، وتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية ككيان سياسي جامع لشعب فلسطين، مع تأثير ذلك على الفلسطينيين وعلى مكانتهم عربياً ودولياً. والثالث، عقد اتفاق أوسلو (1993) وإقامة سلطة فلسطينية في الضفة والقطاع؛ علماً أننا اليوم إزاء سلطتين، واحدة في الضفة الغربية لحركة "فتح"، والثانية في غزة لحركة "حماس".

وفي الواقع فإن الحدث الأول، رغم عمقه وخطره، ليس كافياً لتعريف الفلسطينيين لذاتهم كشعب، لأنه تعريف بالسلب، لهويتهم، ولتصوّرات الآخرين عنهم، عربياً ودولياً، كمجتمعات وكدول، وحتى إزاء أنفسهم، وإزاء عدوهم (إسرائيل). والقصد أنه لا يمكن لشعب العيش مع تعريف كهذا، أو تعزيز هويته به، لأنه ينطوي على الانكفاء أو الذوبان والتبدّد، لا سيّما مع غياب الإقليم الموحد والمجتمع الواحد، ولأن الهويات ظاهرة تاريخية، تتطور وتتعزّز أو تذهب نحو الأفول والغياب أو التحول. 

ويستنتج من ذلك أن النكبة لوحدها، كحدث مضى، لا يمكن له أن يشكّل حاضنة، أو مضموناً، للهوية، لأنه لا يحمل مدلولات ملموسة عملية، مستدامة، لأجيال من الفلسطينيين، يعدون بالملايين، رغم ما يحمله من شحنات شعورية، أو عاطفية، وهذا ما يمكن ملاحظته اليوم من مظاهر التباين في أولويات الفلسطينيين، وشكل تعبيراتهم المختلفة عن ذواتهم، بحسب أماكن وجودهم. 

الحدث الثاني، وهو الناجم عن ولادة الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، وتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، التي باتت بمثابة الكيان السياسي المعنوي للشعب الفلسطيني في كل أماكن وجوده، منذ أواخر ستينات القرن الماضي، إلى حين إقامة السلطة الفلسطينية (1993). فرغم أن ذلك التطور، أو الإنجاز الوطني التاريخي، بات يعرّف الفلسطيني، ويعرف العالم به، بالإيجاب، وكرد فعل على الحدث الأول، وفي محاولة نفيه، مؤكداً حضور الفلسطينيين كشعب من الغياب، وبالأحرى التغييب، من المكان والزمان والرواية التاريخية، إلا أنه ظل قاصراً، إذ لم يستطع الفلسطينيون لأسباب ذاتية وموضوعية البناء عليه، وتجسيده في معطيات جغرافية وديموغرافية وسياسية، وهو ما نشهد عليه هذه الأيام، مع أفول حركة التحرر الوطني الفلسطينية، وتحولها إلى سلطة، أو إلى سلطتين، لجزء من شعب على جزء من الأرض في جزء من حقوق، مع استبعاد اللاجئين أو ازاحتهم من المعادلات السياسية، ومع تهميش منظمة التحرير التي نشأت ككيان وطني جامع لكل الفلسطينيين في كل أماكن وجودهم، كما قدمنا.

أما الحدث الثالث، فقد بدا كمسار نكوص عن الحدث الثاني (الإيجابي نسبياً)، أو كقطيعة معه، وكحركة سالبة تثبت، أو تضفي شرعية، على الحدث الأول، الذي مضت عليه سبعة عقود ونصف، بما في ذلك إقامة إسرائيل ذاتها. 

هكذا، ففي المقارنة بين الأحداث المذكورة يبدو الأول منها (النكبة) الأكثر والأرسخ تأثيراً، بخاصة إنه لم يتم تمكين الفلسطينيين من حل أي من المسائل التي نجمت عن النكبة، فيما الثاني لم يستطع تغيير واقع الفلسطينيين، رغم أنه استطاع في فترة من الفترات، في حقبة صعود الحركة الوطنية الفلسطينية، بخاصة في السبعينات، التعويض عن ذلك بفرض منظمة التحرير، ككيان سياسي جامع للفلسطينيين، وكمعبر عنهم، وكقائد لكفاحهم، لكن كل ذلك حدث منذ وقت طويل، بات له قرابة أربعة عقود، ولم تتم أي إضافة جديدة عليه، منذ منتصف السبعينات. أما الثالث، فأدى الى اختزال الشعب الفلسطيني بفلسطينيي الضفة والقطاع، واختزال قضيتهم بإقامة سلطة أو دولة فيهما، علماً أن هذا الحدث (أي إقامة كيان السلطة)، في محصلته، ثبّت الحدث الأول، وألغى الحدث الثاني، من دون أن يحقق إنجازاً تاريخياً لافتاً، إذ ما زالت إسرائيل تسيطر على كامل فلسطين التاريخية، من النهر إلى البحر، وما زال الشعب الفلسطيني يكافح ويضحي من أجل حقوقه، وما زال من ناحية كيانية كأنه في نقطة الصفر، مع مجرد حكم ذاتي، هو أقرب إلى سلطة للسيطرة على الفلسطينيين في الضفة والقطاع، تحت الهيمنة الإسرائيلية، أي من دون أن يقترن بالتحرر من إسرائيل، سياسياً واقتصادياً وأمنياً.

ليس ثمة حديث هنا عن عودة إلى الماضي، الذي لا يمكن إعادته، ولا عن طوبى ربما لن تصل، أو لن يصل إليها الفلسطينيون، ولا عن تخيلات، وإنما عن مستقبل ممكن لشعب فلسطيني، يمكن أن يتشكل على قواعد الحقيقة والكرامة والعدالة (ولو النسبية)، وعبر المطابقة بين القضية والشعب والأرض، مع الأخذ في الاعتبار التطورات الجديدة.

عن "النهار" العربي




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية