تتار القرم.. كيف توظفهم تركيا في سياستها الخارجية؟

تتار القرم.. كيف توظفهم تركيا في سياستها الخارجية؟


04/05/2021

لا تنحصر أهمية تتار القرم بالنسبة لتركيا في كونهم ينتمون إلى شجرة العرق التركي، بل هم يتواجدون في موقع جغرافي حساس وهام، يمكن لتركيا من خلاله أن تزيد حضورها على مستوى منطقة حوض البحر الأسود، إضافة إلى الإمساك بورقة ضغط مهمة يمكن توظيفها في أزمات دوليّة عديدة.

قواسم مشتركة

التتار في شبه جزيرة القرم هم شعب تركي، ينحدرون من شعب "القفجاق"، نزحوا من السهوب الأوراسية باتجاه مناطق هنغاريا وشبه جزيرة القرم نتيجة الغزو المغولي لمناطقهم في القرن الميلادي الثالث عشر.

مجموعة من تتار القرم يرفعون علمهم في إحدى التظاهرات

وفي عام 1475 وقعت شبه جزيرة القرم تحت حكم الإمبراطورية العثمانية، إلى أن خسرها العثمانيون في الحرب مع روسيا عام 1774. وقد اعتنق التتار الإسلام وتبنوا اللغة التركيّة العثمانية كلغة رسمية خلال ثلاثة قرون من الحكم العثماني لشبه جزيرة القرم. وبالتالي، باتوا مشتركين مع الأتراك في الأناضول (في تركيا المعاصرة) بالعرق، واللغة، والدين. حتى أنهم يسمون اليوم في تركيا باسم "أتراك القرم" بدلاً من "تتار القرم"، ويعتبرون بمثابة امتداد عبر البحر الأسود للشعب التركي في تركيا المعاصرة.

تتار القرم في الوعي السياسي التركي المعاصر هم جزءٌ من الشجرة الكبرى للعرق التركي

ومع بداية الحقبة السوفيتية تعرّض التتار في القرم إلى الاضطهاد والتهجير فكان أن هاجرت نسبة منهم إلى  تركيا. ويُقدّر عدد تتار القرم الموجودين في تركيا اليوم بنحو مائة وخمسين ألف نسمة، في حين تصل تقديرات أخرى إلى أكثر من مليون نسمة. وتضم تركيا الكتلة الأكبر، بعد أوزباكستان، من شتات تتار شبه جزيرة القرم، وهم يتمتعون بحضور وثقل هام على الساحة السياسية التركية.

معقل لتركيا في شمال البحر الأسود

تتار القرم في الوعي السياسي التركي المعاصر هم جزءٌ من الشجرة الكبرى للعرق التركي التي يمتدّ نطاق انتشارها الجغرافيّ من الأناضول غرباً إلى آسيا الوسطى شرقاً. وبالرغم من ذلك فإنّ السياسيين الأتراك لم يولوا قضية تتار القرم أولويّة على صعيد السياسة التركية الخارجية خلال فترة الحرب الباردة. ولكن، وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي، عام 1991، بدأ خطاب السياسة الخارجية التركية يستدخل تتار القرم، إلى جانب المجموعات التركيّة الأخرى المستقلّة عن الاتحاد السوفيتي، وبدأ بوضعها على جدول أعمال السياسة الخارجية التركيّة.

موقع شبه جزيرة القرم (باللون الأحمر).. بين أوكرانيا وروسيا وتركيا

جاء ذلك بالتزامن مع التحول على مستوى استراتيجيات السياسة الخارجية التركية، إثر تراجع  دور تركيا الوظيفي كحاجز أمام التمدد السوفيتي باتجاه الشرق الأوسط؛ إذ بحثت السياسة التركيّة عن وظائف وأدوار جديدة تضمن تحقيق المصالح التركيّة، وكان في مقدمتها إعادة إعلاء الخطاب القومي التركي (الطوراني).

وقد اكتسب تتار القرم مكانة خاصّة ضمن هذا السياق، وذلك بسبب وجود عدد كبير من تتار القرم الذين يعيشون في تركيا. ومباشرةً بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، واستقلال شبه الجزيرة القرم ضمن دولة أوكرانيا،  زار مسؤولون أتراك رفيعو المستوى شبه الجزيرة، وبدأوا بدعم خيار عودة تتار القرم وإعادة توطينهم بطرق مختلفة في القرم، وذلك على أمل الحصول على دعمهم الذي يمكن أن يوفر معقلًا لتركيا في شمال حوض البحر الأسود.

تنظر تركيا لتتار القرم باعتبارهم معقلاً لتركيا في شمال حوض البحر الأسود

وقد وصف الرئيس التركي الأسبق، سليمان ديميريل، رئيس تركيا خلال الفترة (1993-2000)، وصف تتار القرم بأنهم "إخواننا الأتراك"، ووعدهم بمساعدتهم في إعادة بناء مجتمعهم في موطنهم الأصلي. وقد تحدّث في تصريح له: "نحن مهتمون بمصير تتار القرم، فهم كثيرون في بلدنا. إنّ اهتمامنا بالتتار ليس ذا طبيعة سياسيّة، نريدهم أن يتمتعوا بالأمان والاحترام في بلدهم لأنهم إخواننا".

الضم الروسي للقرم.. والموقف التركي الرافض

في أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) 2013، بدأت في العاصمة الأوكرانية، كييف، موجة من الاحتجاجات عُرفت باسم "حركة الميدان الأوروبي"، اعتراضاً على إيقاف الرئيس الأوكراني في حينه، فيكتور يانوكوفيتش، توقيع اتفاقية الشراكة بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي. وهو ما اعتبره المعارضون ميلاً بالبلاد من يانوكوفيتش نحو روسيا.

مظاهرات لتتار القرم في تركيا.. تندد بالضمّ الروسي وترفع العلم التركي

إزاء ذلك، أبدى المواطنون الروس في القرم، والذين يشكلون الغالبية هناك، إدانتهم لتلك الاحتجاجات وتأييدهم سياسات الرئيس الأوكراني. ومن ثم عبّرَت رئاسة المجلس الأعلى لجمهورية القرم ذاتيّة الحكم في مطلع شباط (فبراير) 2014 عن رغبتها في إجراء استفتاء حول وضع شبه جزيرة القرم. وفي الثاني والعشرين من شباط (فبراير) 2014، أصدر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمراً باجتياح القرم عسكرياً وضمها إلى روسيا. وهو ما جرى بالفعل عقب إجراء استفتاء الاستقلال بشبه الجزيرة في السادس عشر من آذار (مارس)  2014، والذي أسفرت نتائجه عن اختيار الانضمام لروسيا، حيث جرى الضم الروسي لشبه الجزيرة في التاسع عشر من الشهر ذاته، وهو ما لم يعترف به المجتمع الدولي، وأعقبه فرض عقوبات على روسيا من قبل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكيّة.

تقوم الحسابات التركيّة على أن تدخلها لصالح تتار القرم، قد يجبر روسيا على تقديم التنازلات لصالح تركيا في ملفات أخرى

من جهتها، أعلنت تركيا رفضها القاطع للاعتراف بنتائج الاستفتاء الذي جرى في شبه جزيرة القرم. وأكد وزير الخارجية التركي في حينه، أحمد داوود أوغلو، بأن: "هذا الاستفتاء غير معترف به وليست له أية شرعية" ، وأنه: "ينتهك وحدة الأراضي الأوكرانية وقد يؤدي إلى توترات جديدة".

سياسة الدفاع عن الأتراك في كل مكان

اشتدّت مخاوف التتار في شبه الجزيرة، والبالغ عددهم نحو ثلاثمائة ألف (قرابة 13% من سكان شبه الجزيرة)، من انفصال القرم عن أوكرانيا، وهم في ذلك يستذكرون ما تعرضوا له تحت الحكم السوفيتي من اضطهاد وتهجير. وبالتالي اتجه التتار لتعليق آمال كبيرة على تركيا التي لم تتوقف بدورها عن تأكيد مساندتها ودعمها لهم.

اقرأ أيضاً: تحذير روسي لأمريكا وتركيا بسبب القرم... ما القصة؟

استمرت السلطات التركية بعقد لقاءات دوريّة مع قادة تتار القرم. وعلى مستوى آخر، وفي أيلول (سبتمبر) 2020 أعلنت وكالة التعاون والتنسيق التركية (تيكا) عن إنجاز مركز ثقافي لتتار القرم، في العاصمة الأوكرانية، كييف. وكانت  الوكالة قبل ذلك قد قامت بإنجاز أعمال ترميم مدارس خاصّة بتتار القرم جنوبيّ أوكرانيا، في تشرين الثاني (نوفمبر) 2018.

في الأزمة حول شبه جزيرة القرم اختارت تركيا الانحياز إلى جانب أوكرانيا بدلاً من روسيا

وجاء الأمل من قبل التتار بمساندة تركيا ليتوافق مع السياسة القوميّة الصاعدة في تركيا منذ نهاية الحرب الباردة، التي تتبنى رعاية ودعم المنتمين للعرق التركي في كل مكان. وتوافق كذلك مع مصلحة على الصعيد الداخلي التركي، تتمثل في أن التدخل لصالح تتار القرم يمنح  الرئيس التركي رجب أردوغان، وحزب العدالة والتنمية فرصة لتحصيل تأييد ودعم انتخابي أكبر، وذلك باعتباره يدافع عن الناطقين بالتركيّة في كل مكان.

ورقة للضغط والمساومة

تعمل تركيا على توظيف ورقة تتار القرم، والموقف من شبه الجزيرة وضمها، كورقة للضغط والمساومة في مواجهة روسيا. وتقوم الحسابات التركيّة على أن تدخلها لصالح تتار القرم، قد يجبر روسيا على تقديم التنازلات لصالح تركيا في ساحات وملفات أخرى، من سوريا، إلى أذربيجان، إلى ليبيا.

بل أنه وفي حزيران (يونيو) 2019 تداولت صحف تركية وروسية تسريباتٍ تتحدث عن إمكانية عقد صفقة روسيّة - تركيّة، يتم فيها إجراء مقايضة بحول شبه جزيرة القرم وجمهورية شمال قبرص التركية، بحيث تعترف تركيا بالضم الروسي، مقابل اعتراف روسيا باستقلال جمهورية شمال قبرص التركيّة، التي لا تعترف بها أيّ دولة بالعالم سوى تركيا.

اقرأ أيضاً: تفاصيل الهجوم على معهد تقني في القرم

وفي إطار إدارة التنافس مع روسيا أيضاً، تستغل تركيا الموقف من أزمة القرم لتثبيت نقاط تقارب وتوافق مع الولايات المتحدة الأمريكية التي تحتاج تركيا لمواجهة روسيا والحيلولة دون تمددها بخاصّة في منطقة البحر الأسود ومنطقة الشرق الأوسط وغرب آسيا.

وبذلك فإنّ الموقف التركي الداعم، والمستمثر في الوقت ذاته، لتتار القرم وأزمتهم، جاء ليتوافق ويحقق الأسس التي تسير وفقها السياسية الخارجية التركية الراهنة، متمثلةً في كسب القاعدة الانتخابية الداخلية، إلى جانب التنافس الجيوسياسي على مستوى الأقاليم المحيطة، ومع تبني سياسة ذات أساس ومنظور قوميّ طوراني،  ينظر إلى نطاقات انتشار العرق ولا يقف عند قيود السيادة والحدود الدوليّة.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية