تشومسكي: نظام متعدد الأقطاب هو لعنة بالنسبة لأمريكا

تشومسكي: نظام متعدد الأقطاب هو لعنة بالنسبة لأمريكا

تشومسكي: نظام متعدد الأقطاب هو لعنة بالنسبة لأمريكا


كاتب ومترجم جزائري
03/08/2023

ترجمة: مدني قصري

يتساءل المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي، في الجزء الثالث والأخير من الحوار الذي تنشره "حفريات" عن كيفية تفاعل الصناعات الأوروبية واليابانية والكورية الجنوبية مع التوجيه بالتخلي عن سوق بدائية لتلبية الهدف الأمريكي المتمثل في منع تطوّر الصين. ويؤكد أنّ تبلور نظام متعدد الأقطاب هو لعنة بالنسبة لأمريكا.

وكان تشومسكي حذّر في الجزء الثاني من الحوار من تراجع الديمقراطية في أوروبا، وكذلك من تقليص الاستثمار الإنتاجي، والانتقال إلى اقتصاد ريعي، أي على نحو ما عودة الاستثمار الرأسمالي للإنتاج إلى إنتاجٍ على النمط الإقطاعي للثروة، وليس رأس المال، "رأس المال الوهمي"، كما أسماه ماركس.

وقال تشومسكي في الجزء الأول من الحوار، إننا نعيش اليوم في عالم يواجه تهديدات وجودية، حيث أضحت الفوارق القصوى تمزّق مجتمعاتنا، فيما الديمقراطية في تراجع حاد. وفي الوقت نفسه لا تزال الولايات المتحدة مصمّمة في عنادٍ مستميت على الحفاظ على هيمنةٍ عالمية، ولهذا فإنّ تعاوُناً دولياً أصبح ضرورياً ومُلِحّاً بشكل عاجل لمواجهة التحديات العديدة التي يواجهها كوكب الأرض. في المقابلة التالية يشرح نعوم تشومسكي لماذا نحن في أخطر نقطة في تاريخ البشرية، ولماذا تطفو اليوم ظاهرة القوميات والعنصرية والتطرف بشتى أشكاله في جميع أنحاء العالم.

هنا الجزء الثالث والأخير من مقابلة طويلة أجراها مع تشومسكي، سي جي بوليكرونيو:

سي جي بوليكرونيو: يبدو أنّ الدول الواقعة على هامش النظام العالمي تريد الانفصال عن نفوذ واشنطن وتطالب بشكل متزايد بنظام عالمي جديد. على سبيل المثال، حتى السعودية تحذو حذو إيران من أجل الانضمام إلى الكتلة الأمنية التي تتبناها الصين وروسيا. ما هي تداعيات إعادة التنظيم هذه على العلاقات العالمية وما مدى احتمالية استخدام واشنطن لتكتيكات لمنع هذه العملية من المضي قدماً إلى أبعد مما ذهبت إليه؟

نعوم تشومسكي: في آذار (مارس) انضمّت المملكة العربية السعودية إلى منظمة شنغهاي للتعاون. وسرعان ما تبِعتها دولة الإمارات العربية المتحدة التي أصبحت ثاني أكبر ثقلٍ نفطيّ في الشرق الأوسط، والتي أصبحت بالفعل مركزاً لطريق الحرير البحري للصين، الممتد من كلكتا في شرق الهند إلى أوروبا عبر البحر الأحمر. وتأتي هذه التطورات في أعقاب الاتفاق الذي أبرمته الصين بين إيران والسعودية، العَدُوّين اللدودين سابقاً، والذي يعيق جهود الولايات المتحدة لعزل النظام وإسقاطه. تدّعي  واشنطن أنّ الأمر لا يقلقها، لكن من الصعب تصديق ذلك.

نعوم تشومسكي: كيف ستتفاعل الصناعات الأوروبية واليابانية والكورية الجنوبية مع التوجيه بالتخلي عن سوق بدائية لتلبية الهدف الأمريكي المتمثل في منع تطوّر الصين؟

منذ اكتشاف النفط في المملكة العربية السعودية عام 1938، والاعتراف السريع بنطاقه الاستثنائي كانت السيطرة على المملكة العربية السعودية أولوية بالنسبة للولايات المتحدة. إنّ انحرافها نحو الاستقلال - والأسوأ من ذلك نحو المجال الاقتصادي المتوسع القائم أساساً على الصين – لا بد وأن يسبّب قلقاً عميقاً في الأوساط السياسية. هذه خطوة كبيرة أخرى نحو نظام متعدد الأقطاب، وهو بلا شك لعنة بالنسبة للولايات المتحدة.

حتى الآن لم تبتكر الولايات المتحدة تكتيكات فعالة لمواجهة هذه التوجهات العميقة في الشؤون العالمية، والتي لها العديد من المصادر - بما في ذلك التدمير الذاتي للمجتمع والحياة السياسة الأمريكيّين.

سي جي بوليكرونيو: كان لمصالح الأعمال المنظَّمة تأثيرٌ حاسم على السياسة الخارجية للولايات المتحدة على مدى القرنين الماضيين. ومع ذلك يؤكد بعض المحللين الآن بأنّ هيمنة الشركات على السياسة الخارجية للولايات المتحدة بدأت تتراجع، ويُقدّمون الصينَ كدليل على أنّ واشنطن لم تعد تُلقي بالاً للشركات. لكنْ أليس صحيحاً أنّ الدولة الرأسمالية، فيما هي تعمل دائماً باسم المصالح العامة الملاتبطة بأصحاب النفوذ (المجموعة الداعمة للنظلم القائم) تمتلك أيضاً درجة معيّنة من الاستقلالية، وأنّ هناك عوامل أخرى تلعب دوراً عندما يتعلق الأمر بتنفيذ السياسة الخارجية وإدارة الشؤون الخارجية؟ يبدو لي أنّ السياسة الخارجية للولايات المتحدة تجاه كوبا، على سبيل المثال، تشهد على استقلال الدولة النسبي فيما يتعلق بالمصالح الاقتصادية الخاصة بالطبقات الرأسمالية.

نعوم تشومسكي: لعله من باب تشويه الحقائق وصفُ الدولة الرأسمالية بالقول إنها هي اللجنة التنفيذية للطبقة الحاكمة، لكنها صورة كاريكاتورية لشيء موجود بالفعل، وموجود منذ فترة طويلة. لا بد من التذكير بوصفِ آدم سميث للأزمنة الأولى للإمبريالية الرأسمالية، عندما كان "سادةُ الإنسانية" الذين امتلكوا اقتصاد إنجلترا هُم "المهندسون الرئيسيون" لسياسة الدولة، وكانوا يحرصون على أنْ تلبَّى مصالحُهم بشكل صحيح، أيّاً كانت العواقب بالنسبة للآخرين. هؤلاء الآخرون كانوا يشملون الشعب الإنجليزي، ولكن أكثر من ذلك ضحايا "الظلم الوحشي" لسادة الإنسانية، خاصة في الهند في بداية تدمير إنجلترا لِما كان آنذاك، إلى جانب الصين، أغنى مجتمع على هذا الكوكب، مع سرقة تكنولوجيّته الأكثر تقدّماً.

بعض مبادئ النظام العالمي لها عمر طويل.

ليس من الضروري التذكير إلى أي مدى تتوافق السياسة الخارجية للولايات المتحدة مع مبدأ سميث حتى يومنا هذا. أحد المبادئ التوجيهية هو أنّ الولايات المتحدة لن تتسامح مع ما أسماه مسؤولو وزارة الخارجية "فلسفة القومية الجديدة"، التي تشمل "السياسات المصمَّمة لتأمين توزيعٍ أوسع للثروة ورفع مستوى معيشة الجماهير"، فضلاً عن الفكرة الخبيثة "أنّ المستفيدين الأساسيين من تنمية موارد الدولة يجب أن يكونوا سكان ذلك البلد". لكن ليس هذا هو الحال في الواقع. المستفيدون الأوّلون هم المستثمرون، ومعظمهم من الأمريكيين.

هذا الدرس الصارم تم تلقينه للأمريكيين اللاتينيين المتخلّفين أثناء مؤتمر خاص بنصف الكرة الغربي، دعت إليه الولايات المتحدة في عام 1945، والذي وضع ميثاقاً اقتصادياً وقَضى على تلك الانحرافات التي لم تقتصر على أمريكا اللاتينية وحدها. فقبل ثمانين عاماً بدا وكأنّ العالم سيخرج أخيراً من بؤس الكساد العظيم وأهوال الفاشية. لقد اجتاحت موجة من الديمقراطية الراديكالية معظمَ أنحاء العالم، على أمل ميلاد نظام عالمي أكثر عدلاً وإنسانية. كانت الضرورات الأولى بالنسبة للولايات المتحدة وشريكها البريطاني الأصغر هي منع هذه التطلعات واستعادة النظام التقليدي، بما في ذلك المتعاونين الفاشيين، أوّلاً في اليونان (بعنف هائل) وفي إيطاليا، ثم في جميع أنحاء أوروبا الغربية، وامتداداً أيضاً إلى آسيا. وقد لعبت روسيا دوراً مماثلاً في مناطقها. وكان هذا أحد الفصول الأولى في تاريخ ما بعد الحرب.

إذا كان سادة الإنسانية بمفهوم سميث يحرصون عموماً على أن تخدم سياسة الدولة مصالحهم المباشرة فأنّ هناك استثناءات تسمح، على نحو أفضل، بِفهم تشكيل السياسة. لقد ذكرنا للتو واحدة منها: كوبا. إنّ العالم ليس وحده الذي يعارض بقوة سياسة العقوبات التي يجب أن تلتزم بها. فكذلك الأمر بالنسبة لقطاعات قويّة عند هؤلاء السادة، لا سيما في مجالات الطاقة والأعمال الزراعية وخاصة الأدوية، فهؤلاء السادة يرغبون في إقامة شراكة مع الصناعة المتطورة في كوبا. لكنّ اللجنة التنفيذية تمنع ذلك. إنّ مصالحهم الضيقة تحل محلها المصلحة طويلة الأجل المتمثلة في منع "التحدي الناجح" لسياسات الولايات المتحدة التي تعود إلى عقيدة مونرو، كما أوضحت وزارة الخارجية قبل 60 عاماً.

أيُّ مَافْيَاوِي قد يفهم ذلك.

قد يتخذ نفس الفرد خيارات مختلفة كرئيس تنفيذي لشركة وكمسؤول في وزارة الخارجية، وفي عقله ذات المصالح ولكن مع منظور مختلف حول كيفية الترويج لها.

وهناك حالة أخرى وهي حالة إيران، والتي تعود إلى عام 1953، عندما سعت الحكومة البرلمانية للسيطرة على مواردها النفطية الهائلة، وارتكبت خطأ الاعتقاد بأنّ "المستفيدين الأساسيين من تنمية موارد الدولة يجب أن يكونوا شعب ذلك البلد". لم تعد بريطانيا، التي كانت لفترة طويلة في يد إيران قادرة على عكس هذا الانحراف عن النظام الجيد. وأطاحت الولايات المتحدة بالحكومة، وأقامت دكتاتورية الشاه، وهي المرحلة الأولى من تعذيب الولايات المتحدة للشعب الإيراني، والذي استمر بلا هوادة حتى يومنا هذا، مكرِّسة على هذا النحو إرثَ بريطانيا.

ولكن كانت هناك مشكلة. ففي إطار الاتفاق طالبت واشنطن الشركات الأمريكية بالاستيلاء على 40٪ من الامتياز البريطاني، لكنها لم تكن مهيّأة للقيام بذلك، لأسباب تتعلق بمصالح قصيرة الأجل. لأنّ ذلك من شأنه أن يضر بعلاقتها مع المملكة العربية السعودية حيث استغلال موارد البلاد أرخص وأكثر ربحية. لقد هدّدت إدارة أيزنهاور الشركات بدعاوى مكافحة الاحتكار، فامتثلت هذه الشركات. لم يكن التهديد عبئاً كبيراً، بالتأكيد، لكنه عبء لم تَستسِغه ولم تَقبله الشركات.

لا يزال الصراع بين واشنطن والشركات الأمريكية قائماً ومستمراً حتى يومنا هذا. فكما في حالة كوبا تعارض أوروبا والشركات الأمريكية بشدة العقوبات القاسية التي فرضتها الولايات المتحدة على إيران، لكنها مضطرة للامتثال، مما يقصيها من السوق الإيرانية المربحة. وهكذا مرّة أخرى طغت مصلحةُ الولايات المتحدة في معاقبة إيران بسبب نجاح إيران في تحدّيها على المصالح الخاصة للربح قصير المدى.

تمثل الصين المعاصرة حالة أوسع بكثير. لا الشركات الأوروبية ولا الأمريكية ترحب بالتزام واشنطن "بإبطاء وتيرة الابتكار في الصين" فيما تفقد الوصول إلى السوق الصينية الغنية. يبدو أنّ الشركات الأمريكية قد وجدت طريقة للالتفاف حول القيود التجارية. في هذا الشأن كشف تحليل لصحافة الأعمال الآسيوية "علاقة تنبؤية قوية بين واردات هذه البلدان (فيتنام والمكسيك والهند) الواردة من الصين وبين صادراتها إلى الولايات المتحدة"، مما يوحي أنّ التجارة مع الصين، ببساطة، قد تم إعادة توجيهها.

تمثل الصين المعاصرة حالة أوسع بكثير. لا الشركات الأوروبية ولا الأمريكية ترحب بالتزام واشنطن "بإبطاء وتيرة الابتكار في الصين" فيما تفقد الوصول إلى السوق الصينية

وتشير نفس الدراسة إلى أنّ "حصة الصين في التجارة الدولية تتزايد باطراد. لقد ارتفع حجم صادراتها بنسبة 25٪ منذ عام 2018 ، بينما شهد حجم صادرات الدول الصناعية ركوداً ملحوظاً".

ويبقى السؤال: كيف ستتفاعل الصناعات الأوروبية واليابانية والكورية الجنوبية مع التوجيه بالتخلي عن سوق بدائية لتلبية الهدف الأمريكي المتمثل في منع تطوّر الصين؟ قد يكون ذلك ضربة قوية أسوأ بكثير من فقدان الوصول إلى إيران أو بالتأكيد إلى كوبا.

سي جي بوليكرونيو: منذ أكثر من قرنين من الزمن قدّم إيمانويل كانط نظريته عن السلام الدائم باعتباره الطريقة العقلانية الوحيدة للدول للتعايش مع بعضها البعض. ومع ذلك يظل السلام الدائم سراباً ومثلاً أعلى بعيد المنال. هل يمكن لنظام سياسي عالمي يبتعد عن الدولة- الأمة كوحدة أساسية أن يكون شرطاً مسبقاً ضرورياً لتحقيق السلام الدائم؟

نعوم تشومسكي: كان كانط يعتقد بأنّ العقل من شأنه أن يجلب السلام الدائم ضمن نظام سياسي عالمي خيّر. فيما رأى فيلسوف عظيم آخر، برتراند راسل، الأمورَ بشكل مختلف عندما سُئل عن آفاق السلام العالمي :

"بعد العصور التي أنتجت فيها الأرض ثلاثيات الفُصوص وفراشات غير مؤذية تقدّم التطور لدرجة إنتاج نِيرُونات (نسبة لِنِيرُون أحد أباطرة الروم)، وجنكيزخانات (نسبة لجنكيز خان) وهتلرات (نسبة لهتلر). ومع ذلك أعتقد أنّ هذا كابوس عابر. بمرور الوقت ستصبح الأرض مرّة أخرى غير قادرة على استيعاب الحياة وعندئذ سيعود السلام".

أنا لا أرغب في الانضمام إلى هذين الفِكرين. أراني أحبّذ القول إنّ البشر لديهم القدرة على القيام بعمل أفضل بكثير ممّا توقّعه راسل، حتى وإن لم يكن لتحقيق المَثل الأعلى الذي طرحه كانط.

مصدر الترجمة عن الفرنسية:

https://www.les-crises.fr/entretien-avec-noam-chomsky-sur-l-etat-du-monde/




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية