تطبيع بلا تطبيع بين مصر وتركيا

تطبيع بلا تطبيع بين مصر وتركيا

تطبيع بلا تطبيع بين مصر وتركيا


10/09/2023

محمد أبو الفضل

تجمدت العلاقات السياسية بين مصر وتركيا عند مشهد عودة سفيري البلدين، ولم تبلغ الآفاق التي كان مخططا لها عندما قررت القاهرة وأنقرة تصحيح المسارات بينهما بعد فترة من المقاطعة السياسية امتدت نحو عشر سنوات، وبات السؤال المحوري، لماذا لم تتطور العلاقات ويتم تجاوز العقبات الرئيسية ويخيم الصمت الرسمي بينهما؟

كشف عدم عقد لقاء بين الرئيسين المصري عبدالفتاح السيسي والتركي رجب طيب أردوغان في القاهرة أو أنقرة عن فجوة خفية، فقد كان من المتوقع أن يزور السيسي تركيا قبل نهاية يوليو الماضي، ويزور أردوغان مصر بعدها، ما فتح الباب لتكهنات حول عدم التوصل إلى تفاهمات ترضي الطرفين في قضايا مثلت منغصا، ما جعل التطبيع الذي دشن مؤخرا بلا مضمون سياسي حقيقي.

وتجنبت القاهرة وأنقرة التطرق إلى أيّ معوقات، لكن المراقب للعلاقات منذ عودة السفيرين يستشعر على الفور أن الكثير من الملفات المعقدة التي أدت إلى تفاقم الأزمة لم يتم تفكيكها، وكل ما حصل أن تم الاكتفاء بتهدئة ظاهرة والتخلي عن المناكفات السياسية التقليدية، فالرئيس التركي لم يلفظ ورقة الإخوان تماما، والتي لا تزال تمثل محورا مهما في المطالب المصرية.

واختزل أردوغان موقفه من الجماعة في بعض الإجراءات التي تقيد حركة قياداتها إعلاميا وسياسيا، ولم يقدم ما يعزز نواياه في عدم العودة إلى استثمارها ضد النظام المصري، ما أزعج القاهرة التي تمنت أن يخرج توظيف الجماعة من حساباته، لكنه أثبت أن الجناح الإخواني في حزب العدالة والتنمية الحاكم لن يضحي بها.

كما أن ملف ليبيا لم يتحرك خطوة إلى الأمام، فتركيا متواجدة عسكريا في طرابلس، ومتمترسة اقتصاديا في منطقة الغرب ولا تبارح أنظارها السياسية الشرق أيضا، وفي غالبية التطورات التي شهدتها الأزمة الليبية على مدار الأسابيع الماضية كانت أنقرة حاضرة بفاعلية فيها، ولم تتبن خيارات توحي بأن هناك تغييرا في مواقفها.

علاوة على أن ملف شرق البحر المتوسط لم تحدث به تحولات تشير إلى أيّ تبدل في رؤية تركيا أو تغير في تقديرات مصر حيال اليونان وقبرص، والعنوان الرئيسي الواضح في هذه المسألة أن كل طرف يرسل إلى الآخر إشارات لا تعبّر عن إمكانية التفاهم على قاعدة لوجستية جديدة، فالأسس التي وضعتها القاهرة عند انخراطها في منتدى شرق المتوسط تحافظ على ثباتها، وطموحات أنقرة في المنطقة مستمرة.

تكمن المشكلة في أن مصر وتركيا توصلتا إلى قناعة بضرورة حل الأزمة المتفاقمة بينهما، لأن كليهما يخسر من تبعاتها أو يتعرض لأضرار بموجبها، وفي لحظة معينة كان الرئيس التركي في حاجة قصوى إلى تطبيع العلاقات مع القاهرة.

وهي لحظة ما قبل الانتخابات الرئاسية التي لم تستثمرها مصر، واعتقدت أن التطبيع في ذلك الوقت يضرّ بعلاقاتها لاحقا إذا فاز مرشح المعارضة المنافس كمال كليجدار أوغلو، والذي أشارت استطلاعات رأي عديدة إلى إمكانية فوزه، فتريثت في اتخاذ قرار التطبيع إلى حين فاز أردوغان وتراجعت أهمية تقديم تنازلات كبيرة لمصر.

أدى نجاح أردوغان في تطوير علاقاته مع السعودية والإمارات إلى امتلاكه ورقة مهمة، فجزء من توجهاته نحو القاهرة كان الهدف منه كسب ثقة هذين البلدين، وعندما حقق ذلك سريعا لم يعد تطوير العلاقات عملية ملحة تستوجب منه تقديم تنازلات في أيّ من الحلقات الخلافية الدقيقة وسخّر إعادة تموضعه الخليجي والإسرائيلي لصالحه، ما جعل التطبيع السياسي مع القاهرة يبدو هامشيا، أو على الأقل غير ملحّ بالنسبة إليه.

تسبب التريث المصري الكبير في تفويت الفرصة على استغلال لحظات الضعف التي كان يمر بها الرئيس التركي، إقليميا واقتصاديا، والذي أعاد تصحيح بعض المسارات في هذين البعدين، إذ طور من علاقاته في الفضاء الخارجي وقوّض فكرة الرئيس المشاغب على الساحة الإقليمية وعقد صفقات اقتصادية كبيرة مع كل من السعودية والإمارات، وطوّرها مع قطر، بما يمكنه من تخفيف حدة الضغوط الواقعة عليه.

بينما لا تزال القاهرة تواجه تحديات إقليمية قاسية في كل من ليبيا والسودان، وتعاني من روافد أزمة اقتصادية لا تجد الأدوات اللازمة لتخفيفها، ما يعني تراجع قدرتها على الضغط أو إجبار تركيا على التجاوب مع مطالبها في ملف الإخوان والأزمة الليبية، أو حتى الحد من تدخلات القوات التركية في أراضي كل من سوريا والعراق.

تتحدد قدرة أيّ دولة على الوصول إلى أهدافها بما تملكه من أوراق للضغط أو المناورة أو المساومة، وفي حالة مصر وتركيا تبدو المعادلة في طريقها إلى التغير بصورة عكسية، حيث لاحت الفرصة للأولى للحصول من الثانية على الكثير مما تريده عندما كثف أردوغان من غزله في مصر وأبدى استعداده لتطوير العلاقات بلا قيد أو شرط.

فات أوان هذا الخطاب بعدما تمكن الرجل من تثبيت أقدامه في السلطة، وإعادة صياغة علاقاته على المستوى الإقليمي، وأصبحت مصر في موقف شبيه بما كانت عليه تركيا في البداية، لكن الفرق أن القاهرة غير مضطرة إلى تقديم تنازلات لأنقرة.

يكفيها في هذه المرحلة أن تحافظ الأخيرة على الهدوء الذي خلفته خطوة تطبيع العلاقات الدبلوماسية حتى لو لم تنعكس في شكل تفاهمات كبيرة، فالمهم ألاّ تضر تركيا بمصالح مصر، وهو الاتجاه الذي لم يخلفه أردوغان في ليبيا أو شرق المتوسط وهو في خضم خصومته مع النظام المصري، كما أن ورقة الإخوان في شق كبير منها يتقاطع توظيفها مع دول عربية أخرى، ومع فقدانها جزءا كبيرا من بريقها سياسيا، ما يضطره إلى وضعها على الرف وعدم توظيفها تجاه مصر أو غيرها.

تشير الحصيلة التي وصلت إليها تركيا إلى أنها حققت ما تريده مع مصر، ولا يهمها كثيرا الحفاظ على درجة عالية من الحرارة في العلاقات، لأن الرئيس أردوغان ببراغماتيته المعهودة يعلم صعوبة التوصل إلى قواسم مشتركة مع الرئيس السيسي.

تبدو أجندة كليهما السياسية مختلفة، وطموحاتهما متباينة، فالأول لا يتوقف مشروعه عند الصعيد الإقليمي الذي قد يصطدم مع الثاني في بعض مقاطعه، بل يمتد إلى الصعيد الدولي، في حين يركز السيسي جل همه الآن على تخطي عملية الانتخابات الرئاسية وتجاوز ما تحمله الأزمة الاقتصادية من تحديات مصيرية، ولا يشغله المشروع الكبير لأردوغان، إذ يمكن أن يجد عوامل كبحه من قبل آخرين، فالمهم أن تعبر مصر هذه المرحلة بأقل قدر من المناكفات مع تركيا.

عن "العرب" اللندنية




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية