حرب غزة.. والاستراتيجية المصرية

حرب غزة.. والاستراتيجية المصرية

حرب غزة.. والاستراتيجية المصرية


15/04/2024

ياسر عبدالعزيز

مثل السير فى حقل ألغام حافل بالخطر والمفاجآت، تتبلور الاستراتيجية المصرية حيال حرب غزة الراهنة، وتترجمها تحركات سياسية ولوجستية وأمنية، تحتاج درجة قياسية من الحذر والاتساق، وقدرة كبيرة على الرؤية والمرونة وحساب العوائد والتكاليف.

ليست تلك هى المرة الأولى التى تندلع النيران فيها فى غزة الملاصقة للحدود المصرية، وليست المرة الأولى التى تجد مصر فيها نفسها مطالبة بالحفاظ على الثبات الانفعالى، والمساعدة للوصول إلى حل سياسى يُطفئ نيران الصراع، لكنها من المرات النادرة التى يتمدد فيها نطاق هذا الصراع، ويمتد فى التكلفة والزمن، ويُنذر بالتحول حربا إقليمية واسعة.

تنطلق الاستراتيجية المصرية إزاء حرب غزة من مجموعة من الثوابت التى بدت، حتى اللحظة، عصية على التغيير أو الارتباك، ومن ذلك، الحفاظ على حالة السلام مع إسرائيل، وقد نجحت القاهرة فى إزالة الشكوك بصدد استمرارية هذا السلام، وما يستلزمه من استحقاقات. ومن ذلك أيضا المداومة على توفير المؤن الإغاثية والمساعدات الإنسانية لأهل غزة، الذين يواجهون آلة الحرب الإسرائيلية الإجرامية، فضلا عن تركيز الجهود المتواصلة لإيقاف الحرب، أو على الأقل الوصول إلى هُدن تُبرد أوارها، وتُسهل إطفاء نيرانها.

وتستهدف تلك الاستراتيجية كذلك بذل الجهود كلها لضمان عدم اتساع نطاق الحرب، بما يجلب أطرافا أخرى إليها، أو يفاقم التأثيرات الضارة على أمن مصر القومى، ومصالحها الحيوية فى البحر الأحمر وقناة السويس، أو يمس بسيادتها على ترابها الوطنى، أو يُصفى القضية الفلسطينية من خلال تهجير الفلسطينيين إلى أراضيها.

وفى تلك الأثناء تتعاظم الضغوط والقيود وتتوالى الأفعال الحادة من أطراف عدة، إذ لا تريد إسرائيل التوقف قبل تحقيق اختراقات ميدانية تحفظ ماء وجهها، وتُمكنها من امتلاك سردية مواتية.

وفى المقابل لا تريد «حماس» أن تقودها المفاوضات السياسية إلى وضع أسوأ من الذى كانت فيه يوم 6 أكتوبر الماضى، ليُمكنها تسويغ هذا الكم القياسى من التضحيات والآلام والخسائر، بينما تبدو واشنطن مرتبكة تتنازعها الأهداف المتضاربة، من دون ثابت واحد عدا الإصرار على مواصلة تقديم الدعم الكامل لإسرائيل.

ستتلقى مصر الانتقادات والاتهامات من بعض الأطراف، فالبعض سيتهمها بإغلاق معبر رفح، وآخرون سيدّعون إحجامها عن تقديم المساندة الواجبة للفلسطينيين، وفى الداخل، سيكون عليها أن تضبط ردود الفعل، وأن تضمن عدم استغلال بعض القوى السياسية المعارضة للحدث الخطير فى إثارة الفوضى أو تنظيم الاحتجاجات.

ومن جانب آخر، ستتلقى مصر الثناء وأشكالا من المساندة، لأنها لم توفر جهدا فى محاولة جمع الأطراف حول مائدة التفاوض، وممارسة الضغط أحيانا، للوصول إلى تهدئة تُمهد الطريق لإيقاف الحرب، فى وقت تجتهد فيه للبقاء فى صورة «الوسيط النزيه»، الذى يرغب فى حل متوازن، فى ظل ظروف صعبة ودقيقة.

ليست مصر طرفا فى هذه المعركة بكل تأكيد، ومع ذلك، فسيمكن لها أن تحدد هدفا واضحا لها، وسيكون إدراك هذا الهدف بمنزلة تحقيق النصر لطرف لا يحارب بالسلاح.

فكيف تُعرّف مصر نصرها فى هذه الأزمة؟

ستكون مصر رابحة، إذا نجحت- من خلال جهودها الكبيرة والصعبة فى أتون تلك الأزمة- فى تفعيل جهود وساطتها، بمشاركة القطريين والأمريكيين، لإدراك هدنة طويلة نسبيا، تُفضى إلى تسوية توقف العمليات العسكرية، بما يسمح للطرفين بادعاء النصر، من دون المس بسيادتها، أو الانتقاص من حقوقها، أو السماح بتفريغ غزة لمصلحة إسرائيل على حساب أراضيها.

وسيتعزز إنجاز مصر فى هذا الصدد، عندما تنجح فى تحقيق هذا الهدف من دون أن يعدّها أى من الطرفين خصما، بصرف النظر عما قد ينالها من هجمات ناقدة أو تشكيك دعائى.

وعندما ستدرك مصر هذا الهدف، أو تُسهم فى إدراكه، ستكون قد عززت مكانتها الإقليمية، وبرهنت على فاعليتها السياسية، وقدرتها على احتواء المخاطر الكبيرة، مستفيدة من كتلتها الحيوية المؤثرة، وتمركزها الجيوسياسى الفريد، وميراث عريق من الخبرة الدبلوماسية والكفاءة الاستخباراتية.

سيُمكن للبعض أن يصف الاستراتيجية المصرية المُفترضة راهنا بأنها «براجماتية» أكثر من اللازم، أو أنها «فوتت فرصا لإظهار وجهها القومى، واستعادة ميراثها الداعم للقضية الفلسطينية»، لكن ذلك سيكون من قبيل المكايدة السياسية، والمشاحنات التقليدية فى السياسة العربية.

لذلك، لا يبدو أن صانع القرار المصرى يتأثر بمثل هذه المواقف، لأن وقائع تاريخية سابقة، فى إطار القضية ذاتها، كانت سببا لاتهام أسلافه بـ «التهور والنزق»، كما أن الظروف الداخلية الراهنة، وفى مقدمتها الأزمة الاقتصادية، لا تسمح بأى مغامرات أو تصرفات غير محسوبة، وهو أمر يبدو أن القطاعات الأكبر فى الرأى العام الداخلى تعيه جيدا.

تخوض مصر غمار هذا الصراع الصعب والمُعقد تحت ضغوط وقيود خطيرة، لكنها أظهرت ثباتا فى المواقف، ومرونة فى الحركة، وعقلانية فى المقاربة والتفاعل حتى اللحظة الراهنة، لذلك، من حقها أن تأمل فى إدراك النجاح.

عن "المصري اليوم"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية