"رمضان" موسم تزاوج "العمامة والبالطو الأبيض"

"رمضان" موسم تزاوج "العمامة والبالطو الأبيض"

"رمضان" موسم تزاوج "العمامة والبالطو الأبيض"


18/04/2023

أمينة خيري

حتى سنوات قليلة مضت لم تكن الخطوط قد تداخلت والحدود قد تشابكت لهذه الدرجة. قبل وأثناء وأحياناً بعد شهر رمضان المبارك في كل عام، تتزاحم الأسئلة القديمة والجديدة المستهلكة والحديثة المتعلقة بالصوم والصحة والمرض. قبل عقود طويلة كان المريض إذا سأل الشيخ عن مرضه وقدرته على الصوم، أحاله إلى الطبيب المتخصص لأنه وحده من درس الطب وشخص المرض وعرف آثاره واطلع على قدرة المريض على تحمل الصوم من عدمها أو أشار عليه بنصيحة ذات طابع ديني لكن مع تذييلها بدعوة لمراجعة الطبيب المختص.

ولأن رمضان ليس فقط شهر العبادات والروحانيات والتجمعات العائلية والإفطار والسحور، بل أيضاً موسم لأسئلة حول الصيام والصحة والمرض، منها ما يتكرر منذ مئات السنوات، ومنها ما استجد بحكم التطور في تشخيص الأمراض والعلاج والتعايش مع الأمراض بأقل أضرار ممكنة والقائمة تطول، فإن الأسئلة التي يسألها الصائمون تتجدد وتتغير.

المزج الرمضاني على أشده

تجددت وتغيرت الساحة الدينية التي لم تعد تميل إلى إحالة السائل إلى الطبيب، بل انفتحت أبواب الفتاوى الطبية على مصاريعها من قبل عديد من رجال الدين والمشايخ. وبات لدى الصائم أو من ينوي الصيام ترسانة ضخمة من الفتاوى الطبية الصادرة عن علماء أجلاء لم يدرسوا علوم الطب والجسم البشري، بل درسوا علوم الفقه والشريعة وأصول الدين. وعلى رغم روعة كليهما من حيث العلم الوفير والفيض الغزير من المعرفة، فإنهما مجالان منفصلان لا يختلطان إلا في قضايا محددة ومسائل بعينها تميل فيها بعض المجتمعات لمزج رأي الدين بعلم الطب. وأبرز هذه القضايا هي إنهاء الحياة الاختياري بمساعدة الأطباء بسبب المرض والألم الشديدين، وموت جذع المخ، والتبرع بالأعضاء، وغيرها.

موسم الفتاوى الرمضانية شهد مع بزوغ نسخة تدين سبعينيات القرن الماضي غزواً لفتاوى رجال الدين الطبية، وهو الغزو الذي لم يقتصر على أمور الطب والمرض والصحة، بل طال كل مناحي الحياة من الإبرة إلى الصاروخ. وبات نموذج "المؤمن" غير قادر على أن يخطو خطوة في حياته، بدءاً من اختيار المدرسة التي يلحق بها ابنه مروراً بعمله وركوبه المواصلات وشرائه أغراض البيت ودخول الحمام والخروج منه وانتهاء بالخروج على الحاكم وربما قتله أو طاعته والعيش تحت إمرته من دون الرجوع لرجل الدين ليوجهه.

الصحة والمرض والصيام

في عام 2022، أجابت دار الإفتاء المصرية عن مليون و563 ألف فتوى وهو الرقم الأعلى في تاريخها، نحو 35 في المئة من الأسئلة تعلقت بشهر رمضان والصيام، وللصحة والمرض نصيب كبير منها. ويجب الإشارة إلى أن الأسئلة لا ترد فقط إلى دار الإفتاء المصرية، لكن ملايين من الأسئلة الأخرى تتفرق في يمين الأثير العنكبوتي حيث مواقع ومنصات إلكترونية غير معروفة المصدر تقدم "الفتاوى"، ويسار الأسئلة الشفهية الموجهة من مواطن أقل علماً إلى مواطن يقول إنه أكثر علماً في شؤون الصيام والصحة والمرض.

مرضى السكري والضغط والقلب والكلى يتوجه كثيرون منهم وأقاربهم بأسئلة للمفتين بأنواعهم تدور حول حكم الصيام والإفطار. دار الإفتاء المصرية مثلاً تعمد إلى نشر إجابتها المفصلة حول حكم صيام مرضى السكري على صفحاتها الرسمية في مثل هذا الوقت من كل عام.

فتوى الدار قسمت المرضى إلى ثلاث فئات، حيث الأولى لهؤلاء المعرضين لاحتمالات كبيرة من المضاعفات الخطرة بصورة شبه مؤكدة طبياً حال الصيام. والثانية هي للمرضى ذوي الاحتمالات الكبيرة للمضاعفات نتيجة الصيام، ويغلب على ظن الأطباء وقوع ضرر بالغ عليهم. والثالثة هي المرضى ذوو الاحتمالات المتوسطة أو المنخفضة للتعرض لمضاعفات نتيجة الصيام. وتسرد الدار حكم صوم أو إفطار كل فئة، وهي الأحكام الغارقة في شؤون الطب، التي لا تخلو جملة فيها من الإشارة إلى "رأي الأطباء المتخصصين".

الإفتاء تحذر ولكن

وإحقاقاً للحق، خرجت دار الإفتاء المصرية في يناير (كانون الثاني) الماضي لتحذر من التحدث في أمور الطب بغير علم، مشيرة إلى أن وصف الدواء للمريض هو من اختصاص الطبيب المعالج وليس لغير الطبيب التجرؤ والإقدام على التحدث في أمور الطب أو وصف الدواء للمريض. وأشارت الدار في تحذيرها إلى أن من يجرؤ على ذلك متحمل لتبعات فعله وآثار تصرفه ولا يشفع له حسن القصد.

وجاء في منشور الدار أنه "ينبغي للإنسان العاقل ألا يضع أمر صحة بدنه تحت تصرف كل من تسول له نفسه أنه يفقه في كل شيء، فالعبث بحياة الناس والأضرار بصحتهم وأبدانهم نوع من الفساد في الأرض يتنافى مع حرص الإسلام الشديد على حماية الحياة الإنسانية وصيانتها وتحريم الاعتداء عليها".

المنشور جاء ضمن مبادرة "اعرف الصح" التي دشنتها الدار حديثاً. وعلى رغم أن المنشور موجه لمن "يقبلون على ممارسة الطب مع الجهل بهذه الممارسة"، لكن خبثاء أشاروا إلى أن إقبال المفتين على الضلوع في شؤون الطب عبر القول إن هذا المريض يمكن أن يصوم وهذا لا يصوم، حتى مع الإشارة ضمناً إلى أن "الأطباء المتخصصين" قالوا كذا، هو في حد ذاته ضلوع في الطب من دون علم به.

الخطوط التي تداخلت والحدود التي تشابكت في مصر في نصف القرن الماضي شجعت على لجوء المريض لرجل الدين أو من يدعي أنه رجل دين بحثاً عن علاج لأمراضه العضوية أو تسكين لآلامه، أو تطبيب عبر الدعاء وقراءة آيات بعينها وترديد أدعية محددة "قادرة على الشفاء بإذن الله". تعلق المريض بقشة الأمل مع تضاؤل الخط الفاصل بين العلاج الحقيقي المقدم من أهل العلم الطبي والعلاج الروحي المقدم من أهل العلم الديني فاقم من المنطقة الضبابية بين الطب والدين، هذا التفاقم ألقى بظلال عديدة على جميع الأطراف: رجل الدين، والطبيب، والمريض، حتى باتت هناك ثقافة متجذرة قائمة على خليط كل ما سبق تتسم بتداخل خطوط العلم بأجواء الإيمان.

قنديل أم هاشم

إيمان مرضى العيون وأقاربهم بمفعول قطرات من الزيت المستخدم في إضاءة "قنديل أم هاشم" المعلق في مسجد السيدة زينب في قلب القاهرة أدى إلى تفاقم المرض لديهم، وفقدان بعضهم نعمة النظر تماماً. معارضة طبيب العيون لإصرار المرضى على التداوي بالزيت لم يغير من الوضع شيئاً، بل فاقمه غضب الطبيب وتحطيمه القنديل، لكن القنديل المحطم لم يغير من قناعة المرضة وذويهم. استغرق تعديل الثقافة السائدة كثير من الجهد والوقت والصبر حتى يبدأ الناس في التحول من العلاج بالإيمان والزيت، إلى العلاج بالإيمان والعلم.

رواية الأديب الراحل يحيي حقي "قنديل أم هاشم" صدرت عام 1944، وخرجت في صورة فيلم سينمائي عام 1968. وعلى رغم أن التداوي بزيت القنديل أو بعشبة الحرمل أو بالسنا والسنوت وبول الإبل وغيرها من قوائم التداوي التي ربما تحوي مواد طبيعية قد تكون ذات فائدة أو مؤذية تضر أكثر ما تفيد تقلص، لكن لم يتبدد تماماً، ومنه ما أخذ أشكالاً أخرى حديثة القالب وهو ما يعرض كثيرين من المرضى، لا سيما أصحاب الحالات الحرجة لخطر بالغ.

أستاذ الحالات الحرجة الطبيب حسام موافي خرج في السنوات القليلة الماضية بخلطة سحرية يبزغ نجمها على مدار العام وتملأ أثير الصائمين والصائمات في موسم رمضان. زج موافي بالدين في أغوار الطب، وزج بالطب في أعماق الدين فخرجت توليفة سحرت الملايين ورسخت لظاهرة الخلط التي سحبت البساط إلى حد كبير من تدخل رجال الدين في الطب، وذلك لصالح تدخل رجال الطب في الدين.

هذه المتلازمة بين الطب والدين أو بالأحرى بين رجال الطب ورجال الدين، التي تتعدى الجانب الروحاني بالغ الأهمية حيث الإيمان والدعاء والتضرع للسماء من أجل الصحة والتعافي إلى تدخل رأي رجال الدين في التداوي والعلاج، أدت إلى ظاهرة الطبيب المتحول للإفتاء أو إبداء الرأي الديني، بدلاً عن ظاهرة رجل الدين المتحول للطب أو إبداء الرأي الطبي.

أطباء لكن فقهاء

وفي السنوات القليلة الماضية، انضمت لترسانة البرامج الدينية الرمضانية على الشاشات والمحتوى الفقهي والإفتائي في المنصات الصحافية والعنكبوتية كتيبة من البرامج الدينية الطبية يقدمها أطباء ارتدوا جلباب الدين، ولو رمزياً.

رموز طبية أصبحت ذائعة الصيت، لا سيما في رمضان، لأنها قادرة على تقديم الخلطة السحرية. المعلومة الطبية المغلفة في حديث ديني معضد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية في كبسولة العلم مع الإيمان تراها قاعدة عريضة ظاهرة إيجابية، فيما يعتبرها البعض الآخر خلطاً لا يجوز وتدخلاً علمياً طبياً في أمور روحانية لا تمت للتشخيص والعلاج بصلة.

قبل فترة، خرج الطبيب حسام موافي المكتسب أرضية كاسحة باعتباره "الطبيب المؤمن" أو "الطبيب العالم بأمور الدين" أو "الدكتور الفقيه" ليقول، إن 90 في المئة من الأشخاص الذين يعانون عسر البلع والإحساس بالتصاق الطعام في قاعدة الحلق بعد بدء البلع لديهم مشكلات نفسية، وإن الشخص المؤمن والقريب من ربه لا يصاب بالأمراض النفسية.

المرض النفسي بعد عن الله

وعلى رغم أن ضلوع موافي في شؤون الدين عبر بوابة الطب أو في شؤون الطب عبر بوابة الدين لم يبدأ بهذا الدلو الذي أدلى به في مجال المرض النفسي الناجم عن البعد عن الله، إلا أن ما قاله ساعد البعض ممن يرون قدراً بالغاً من الخطر في الإصرار على الزج بالدين في شؤون العلم، والإلحاح على إبقاء شؤون الحياة في قبضة رجال الدين سواء كانوا بعمامة أو ببالطو (معطف أبيض يرتديه الطبيب).

الكاتب والطبيب خالد منتصر كان أول المنتقدين. قال إن "الربط بين البعد عن الله والمرض النفسي كلام غير علمي ولا يصح أن يصدر عن طبيب شهير وأستاذ جامعي كبير. الصلاة 24 ساعة في اليوم، والعمرة خمس مرات في الشهر لن تعالج أو تقي أو تمنع حدوث مرض الاكتئاب أو العصاب أو الشيزوفرينيا أو الوسواس القهري أو الـ(باي بولار/ الاضطراب ثنائي القطب) ولن تمنع الانتحار".

انتحار المنطق

البعض يقول، إن المنتحر الحقيقي هو المنطق، لا سيما مع تواتر تصريحات وبرامج وفقرات مخصصة لموضوعات مثل "صلاة الفجر تحمي من جلطات القلب والمخ وأمراض الشريان التاجي"، وإن "الدورات الرياضية الرمضانية كلام فارغ وإن صلاة التراويح هي الرياضة الأصيلة"، وإن "الريجيم الأفضل في العالم هو تناول الوجبات في الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء" وإن "الأكل بشراهة يغضب الله" وإن "الإسلام وضع القواعد التي تنظم عملية الأكل وتقي من السمنة" وغيرها من الموضوعات التي تبدو كأنها طبية لكن يتم تناولها من منطلق الدين أو تبدو كأنها دينية لكن يتم تناولها من منطلق الطب.

هذه الخلطة السحرية مضمونة النجاح. كبسولة الطب المغلفة بالدين أو الدين المشوب بالطب تنطلق من مقدمها رأساً إلى مستهلكها في عديد من المجتمعات غير القادرة على الفصل بين الدين والدولة أو بين العلم والإيمان، وهو الفصل الذي لا يعني نبذ العلم أو نبذ الدين، بل إعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله.

منصة الطب والإيمان

العميد السابق لمعهد القلب القومي واستشاري القلب والأوعية الدموية جمال شعبان أحد القادمين الجدد إلى منصة الطب والإيمان. فمن "دراسة حديثة أكدت أن حالة مرضى اكتئاب شهدت تحسناً ملحوظاً بعد الاستماع لتلاوة الشيخ عبدالباسط عبدالصمد لسورة الرحمن بشكل أفضل من تناول العقاقير" إلى "أن قوله تعالى (واشتعل الرأس شيباً) حيث اختيار كلمة اشتعل وليس ابيض الشعر أو أي كلمة أخرى تعني حدوث التهاب في الجسم" وأن "وهن العظام وهشاشتها يدلان على نقص فيتامين دال المفيد للصحة العامة وصحة القلب والشرايين وكهرباء القلب"، وذلك في إشارة إلى قوله تعالى: "وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً ولم أكن بدعائك رب شقياً" في سورة مريم، تتواتر خلطات الطب بالدين على يد طبيب القلب ذائع الصيت جمال شعبان.

وقبل أيام قليلة، تداولت الملايين خبراً رمضانياً على لسان شعبان كان أبرزه أن "الصيام يقي من السرطان ويخفف من آثار العلاج الكيماوي" الخبر المتداول الطبي الرمضاني يشير –بحسب شعبان- إلى أن "الصيام يطلق مساراً تفاعلياً يسمى الالتهام الذاتي، الذي يزيل المخلفات في الخلايا، وثبت أن الصيام المتقطع يساعد على الوقاية من السرطان بعد دراسات أجريت على حيوانات وبشر، كما أظهرت أبحاث أجريت على البشر أن الصيام يمكن أن يساعد في التقليل من الآثار الجانبية الناجمة عن العلاج الكيماوي".

 وعلى رغم أن الربط بين السرطان والعلاج الكيماوي وصوم رمضان حاز على اهتمام كثيرين هذه الأيام، فإن منشور طبيب القلب شعبان احتوى على قائمة فوائد صوم رمضان لعديد من الأمراض الأخرى مثل السكري وحماية القلب وفقدان الوزن وغيرها.

القرآن كتاب في الطب

الكاتب عادل نعمان استهل مقالاً عنوانه "القرآن الكريم ليس كتاباً في الطب" بقوله، إن ما يكتبه لا علاقة له بكل من حسام موافي وجمال شعبان قبل أن يشير إلى أن "القرآن الكريم ليس كتاباً في الطب أو الهندسة أو الرياضة أو الفلك أو الزراعة، بل كتاب عبادات وأحكام ومعاملات من عند الله. والرسول لم يكن طبيباً أو مهندساً بل كان نبياً رسولاً يحمل رسالة التوحيد من الله إلى الناس. ولم يكن ناصحاً أو موجهاً في التداوي والعلاج إلا بما كان قد استقر عليه الناس وألفوه وتعلموه وتناقلوه عن أطباء زمانهم، وتجارب إنسانية متبادلة ومنقولة عبر الأزمنة والأماكن".

واستعرض نعمان ما قال إنه تاريخ بدء الخلط بين الطب والدين عبر الأزمنة التاريخية الإسلامية المختلفة، ومنها ما ادعى علاج الأمراض بآيات وتفسيرات لا علاقة لها بالأمراض. يقول، "حملوا آيات الله ما لا طاقة لها به، وما كان من مهامها، وفرضوا عليها واجباً ليس منوطاً بها، وعبئاً ليس على كفالتها، وأملاً ورجاءً ليس له ضمانة أو وكالة، وأبواباً من الشفاء فتحوها عنوة في جدار ليس له من سبيل أو مخرج، فزادوا وعادوا من فضل قراءة سور القرآن إلى العلاج به من الأمراض".

معركة الدين والعلم

وختم نعمان موقفه من هذا الخلط بقوله "وآفة كل هذا هو البعد عن العلم، ووضع الدين في معركة مع العلم والطب ليست متكافئة، بل التعجل في الخصومة وفى حسم المعركة ليس في صالحه. وكلاهما، الدين والعلم من عند الله الواحد، كل منهما في طريق، هذا إلى الله وذاك نفس المصير. فلماذا هذا الخلط بين أملاك الله الواحد البصير؟ أما كارثة الكوارث فهي عدم الأخذ بالأسباب، والعلاج والتداوي من المرض، والعمل والإخلاص في جلب الرزق، والمذاكرة للنجاح والجد والإخلاص والسلام ليعيش الناس في أمن وسكينة".

لكن الطب المخلوط بالدين أو الدين المشمول بالطب ليست ظاهرة جديدة، بل قديمة تتجدد بين الحين والآخر في صورة صراعات تناسب المزاج العام السائد وتستفيد من الثقافة الشعبية الرائجة الحائرة بين العلم ومرجعية الدين في التشخيص والعلاج وتناول الدواء والتعافي والألم، ومن ثم النجاح المبهر الذي حققه رجال الدين في الخوض في شؤون الطب والتداوي، ثم النجاح المذهل الذي أحرزه رجال الطب في الخوض في شؤون الدين والتدين والدعوة الإسلامية.

أشهر الخالطين

أشهر الخالطين للمجالين في التاريخ المعاصر وأكبر من اكتسبوا أرضية شعبية مثمنة لهذا الخلط هو الطبيب الراحل المتحول إلى عوالم الكتابة والإعلام وصاحب البرنامج التلفزيوني "العلم والإيمان" الذي ما زالت تذاع حلقاته على عديد من الشاشات التلفزيونية على رغم مرور 14 عاماً كاملة على رحيله. وقد سار على نهجه، ولكن بشكل أكثر "تزمتاً" أو "تشدداً" عمر عبدالكافي الذي درس الزراعة وتخصص في الفقه والشريعة ورسخ اسمه بين مريديه باعتباره رائد المتبحرين في مجال الإعجاز العلمي في القرآن الكريم. وكذلك زغلول النجار الذي درس الجيولوجيا وتخصص في الإعجاز العلمي كذلك، ولكن في كل من القرآن الكريم والسنة.

الملايين ترى في هذه العلاقة المبرهنة على الجوانب العلمية في الدين عبر الاكتشافات العلمية الحديثة إضافة للمعتقد وإعلاء من شأن الدين والمتدينين، لكن آخرين يأخذون على هذا التوجه ما يسمونه بالسطحية وما ينعتونه بالافتئات على ما ينجزه آخرون على صعيد العلم الحديث والتشخيص والعلاج استناداً إلى العلوم المتطورة والحديثة في معامل الغرب ونسبه للدين بشكل لا يخلو من تصنع ولا يتنزه عن الادعاء، لا سيما أن الدين روحانيات ومعاملات وليس اكتشافات علمية وبحوث معملية.

 أستاذ علم الاجتماع والمتخصص في الأنثروبولوجيا الثقافية سعيد المصري استشعر بزوغ موجة جديدة من موجات الخلط في عام 2022، فكتب في مقال عنوانه "استنساخ مصطفى محمود" أن "ظاهرة جديدة بدأت تلوح في الأفق بعد سنوات بعيدة من انتهائها، إنها عودة لاستخدام العلم في التدين والدعوة الإسلامية. والأمثلة نراها الآن واضحة في إعادة استنساخ لمصطفى محمود في أحاديثه المتلفزة عن العلاقة الوثيقة بين العلم والإيمان".

أيقونة "العلم والإيمان"

وأشار إلى برنامج "العلم والإيمان" الشهير المعتمد على أفلام علمية وثائقية كان يعرضها بينما يتحدث في الخلفية شارحاً الكشف العلمي ورابطاً إياه بذكر آيات من القرآن بغرض البرهنة.

وأضاف "الآن تعود إلينا من جديد نماذج أخرى شبيهة بمصطفى محمود لمن يعملون بالعلم والطب ويمارسون الدعوة الدينية بلغة العلم، ويؤدون لعبة التنمية البشرية وتحفيز الشباب على الهداية والإصلاح بلغة فيها مزيج من العلم والدين. وبعض هؤلاء تحول فجأة إلى شخصية إعلامية مؤثرة في الدعوة الدينية بعباءة طبية. وبات لدينا نجوم طب في سماء الدعوة الدينية بعد أن انحسر نجم الدعاة".

مردود سلبي على العلم والدين

ويرى المصري في هذه الموجة الخالطة بين الطب والدين، وبغض النظر عن مدى صحة ما يقوله نجومها ومدى تأثيره على نشر الدعوة الدينية، "إلا أن له مردوداً سلبياً على العلم والدين معاً على المدى البعيد. ولن نجني منه سوى الاستهانة بالعلم والإساءة للدين. فالعلم نظام من التفكير يقوم على الاحتمال والشك وهذه من مقومات التقدم والتراكم العلمي، بينما الدين يقوم على الاعتقاد واليقين، وهذه من مقومات ثبات العقيدة واستقرارها في نفوس المؤمنين بها. وإذا صح تطابق التفسير الديني مع التفسير العلمي الآن فلن نضمن أن يستمر هذا التطابق في المستقبل حين تخرج نظريات وأبحاث ومكتشفات جديدة تثبت خطأ أي فكرة علمية سادت من قبل وأيدها تفسير ديني ما".

أغلب الظن أن عملية الخلط لن تستمر فقط، بل ستنتعش وتتمدد وتجذب مزيداً من أصحاب المعاطف البيضاء لاقتراض العمامات والمكانات الدينية حيث الخلطة السحرية. الأرضية الشعبية عاشقة لهذه النكهة، والأجواء الاجتماعية داعمة، والأهواء الثقافية مولعة ومشبعة بكل ما أو من شأنه أن يمزج الدين والإيمان بالدنيا والصحة والمرض والصيام والزمان والمكان.

عن "اندبندنت عربية"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية