شهادة أمريكية... السعودية وإعادة تشكيل العالم!

شهادة أمريكية... السعودية وإعادة تشكيل العالم!

شهادة أمريكية... السعودية وإعادة تشكيل العالم!


13/07/2023

محمد حسين أبو الحسن

احتلت السعودية المرتبة الأولى عالمياً في النمو الاقتصادي، بين عمالقة مجموعة العشرين، بنسبة نمو 8.7%. إنجاز دفع الخبير الاستراتيجي الأميركي البارز فريد زكريا، إلى لفت الأنظار، إلى أنّ الرياض حقّقت تحوّلاً استراتيجياً في سياستها الخارجية بقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. وأوضح في مقال لصحيفة "واشنطن بوست"، أنّ صعود السعودية ودول الخليج سيكون له تأثيرات كبيرة في السياسات العالمية وليس الشرق الأوسط فقط، بل قد يعيد تشكيل العالم. فإلى أي مدى تَصدق توقّعات زكريا؟ وكيف يكون ذلك؟!

اقتناص الفرصة

 في محاولة لتفسير الطفرة التنموية السعودية، أوضح الكاتب الأميركي، أنّ العالم لا يزال يعتمد على الوقود الأحفوري، وأنّ الحرب الأوكرانية والعقوبات المفروضة على روسيا وكذلك على إيران وفنزويلا، دفعت الدول الكبرى إلى الاعتماد على النفط والغاز من الخليج العربي، وأنّ هذا الوضع سيستمر خلال العقد المقبل؛ ما يعني أنّ بلدان الخليج ستشهد أكبر تدفّق للثروة في التاريخ.

ولفت زكريا إلى أنّ الصناديق السيادية في السعودية والإمارات وقطر والكويت، جمعت 3 تريليونات دولار من الأصول، بزيادة 42% على مدى العامين الماضيين، مشيراً إلى أنّ "الصندوق السعودي" سيملك أكثر من تريليوني دولار عام 2030، ما يجعله أكبر تجمّع لرأس المال عالمياً، ويُطلق على هذا الصندوق حالياً لقب "قنّاص الفرص"؛ لاقتناصه الفرص الاستثمارية الواعدة داخلياً وبالأخص خارجياً، من الأندية الرياضية والخدمات والترفيه إلى التقنيات المتطورة.

 لم يأتِ النمو السعودي من فراغ، بل هو وليد سباق مع الزمن لتنفيذ "رؤية 2030" الطموحة، للانتقال باقتصاد المملكة من اقتصاد ريعي يعتمد على مصدر وحيد للدخل (النفط)، إلى اقتصاد حديث متطوّر تتنوع مصادر دخله، عبر استثمار 3.2 تريليونات دولار في البنية التحتية والتصنيع والتكنولوجيا، بحلول عام 2030.

شهدت المملكة إصلاحات هيكلية عزّزت معدّلات النمو الاقتصادي، وأسهمت في تحسين بيئة الأعمال، وتمكين القطاع الخاص وتحفيز المستثمرين الأجانب، مع تحديث القاعدة الإنتاجية وفتح قطاعات جديدة وواعدة؛ تضخّ السعودية استثمارات ضخمة في الخدمات والتصنيع، فقطاع الخدمات هو أكبر مولّد للوظائف؛ ما يخفّض البطالة، بالإضافة إلى السياحة بأنواعها، لتنوّع المقاصد السعودية، بالأخصّ الدينية. أما قطاع التصنيع فهو يزيد الاعتماد على الإنتاج المحلي والقدرة على التصدير والمنافسة في الأسواق العالمية، مع اعتناء خاص بالصناعات التكنولوجية والعسكرية، لتوطين المعرفة والتقنيات المبتكرة.

تحوز المملكة بنية تحتية وقطاعات اقتصادية قوية كالصناعات النفطية والبتروكيماويات، وتقنية المعلومات والاتصالات، والصحة، والتعليم، والقطاع المالي، ومعالجة المياه... إلخ.

ونقل زكريا عن أحد الوزراء السعوديين قوله: "لقد بنينا الكثير من البنية التحتية في بلادنا، ما يأتي حالياً هو استثمار نقدي، واستقطاب رؤوس الأموال الأجنبية لدعم المشاريع الاستثمارية". 

  عملاق النفط

 تُعدّ المملكة أكبر قوة اقتصادية في الشرق الأوسط وأقوى وأكبر دولة خليجية، تتجاوز مساحتها مليوني كم، عدد سكانها 34 مليون نسمة، وهي قبلة المسلمين، تتمتع بموقع حضاري وجغرافي استراتيجي، ويشهد اقتصادها نمواً متسارعاً، باستغلال مواردها الطبيعية. إنّها أكبر مصدّر للنفط، وعضو بارز ضمن أكبر عشرين اقتصاداً في العالم، وصل ناتجها المحلي الإجمالي إلى 2.6 تريليوني ريال، عام 2019، وفق البنك الدولي، نصيب القطاع غير النفطي 58.9%، ومساهمة القطاع الخاص 41.1%، وبلغ إجمالي وارداتها 559.7 مليار ريال سعودي، وصادراتها 1052.6 مليار ريال، وفائض الميزان التجاري 492.9 مليار ريال في العام نفسه، وهي تمتلك شركات عملاقة تستند إلى كوادر سعودية بتأهيلٍ عالٍ، ما يجعل الاقتصاد السعودي قوياً باضطراد... يرى زكريا أنّ هذه الزيادة في الثروة السعودية (والخليجية) أعادت تشكيل الشرق الأوسط، مع تضعضع نفوذ الدول التي كانت مهيمنة تقليدياً في المنطقة لأسباب مختلفة؛ فأصبح الخليج- والسعودية على وجه الخصوص- محور القيادة.

بالفعل، تركّز القيادة السعودية في خططها التنموية على تعزيز موقعها التنافسي بين دول العالم، لذا تعتبر التنمية المستدامة خياراً استراتيجياً؛ يسعى العملاق النفطي للتحوّل إلى قوة كبرى/عظمى، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وتقنياً؛ هذا يستلزم تجميع أوراق القوة في يدها، ومدّ خطوط اتصال مع شركاء أقوياء، على قاعدة المصالح والاحترام المتبادل. تتطلّع المملكة للانضمام إلى "بريكس" لرفع رصيد القوة السعودية، بالمثل تُكسب الرياضُ التحالفَ ثقلاً أكبر، بوصفها رمانة الميزان ومركز الثقل الاقتصادي والسياسي في الشرق الأوسط، ولاعباً مرموقاً على المسرح الدولي، وسط صراع جارف بين واشنطن وبكين على زعامة النظام العالمي. 

 هنا يلفت زكريا إلى نقطة جوهرية، هي أنّ السعودية وبقية دول الخليج - حقّقت الإمارات والكويت وقطر معدّلات نمو مرتفعة - لا تسعى للطلاق مع الولايات المتحدة، بل ترغب في علاقات اقتصادية وثيقة مع الصين وعلاقات أمنية وثيقة مع أميركا؛ أن تكون قادرة على التعامل بحرّية مع الجميع، بما في ذلك روسيا. لكن تعزيز العلاقات السعودية مع روسيا يمثل قلقاً حقيقياً للغرب، والتقارب الشديد بين المملكة والصين يُعدّ كابوساً للغرب، بخاصة مع الخطوات المتسارعة للتعاون بين العملاقين الخليجي والآسيوي اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وتقنياً، وانضمام المملكة كشريك في الحوار مع "منظمة شنغهاي"، ثم تجمّع "بريكس".

أشار الصحافي إليس جيفوري، في تقرير نشره موقع "ميدل إيست آي" البريطاني، إلى أنّ القرار السعودي بالشراكة مع "شنغهاي" مدفوع بالاقتصاد، لكن الآثار الجيوسياسية له لا لبُس فيها، بمعنى أنّه يؤثر في معادلات القوة عالمياً.

جني الثمار

 صحيح أنّ العلاقة بين الرياض وواشنطن لا تزال حيوية لأسباب تتعلّق بالأمن والاقتصاد، رغم ذلك تعمل الرياض بدأب على تعميق علاقاتها بالصين وروسيا، وبشركائها الإقليميين، شرط احتفاظها بمقعد القيادة في المنطقة؛ تحاول الرياض جني الثمار، من دون أن تجرحها الأشواك، تُوازن بين المصالح والأخطار، هي تجيد ذلك، تقيس قراراتها بمقياس المصالح الوطنية، مثلما حدث في قرار "أوبك بلس" خفض إنتاج النفط الذي أغضب الإدارة الأميركية، لكن السعودية لم تتراجع عنه.

يرى الأمير بن سلمان، أنّ اللحظة الراهنة هي بمثابة نداء يقظة؛ لاستثمار إمكانات بلاده الهائلة في نيل مكان ملائم تحت الشمس؛ فهي تقود بالفعل منظّمات مجلس التعاون الخليجي والجامعة العربية والتعاون الإسلامي وأوبك، وتحافظ على توازن علاقاتها بالقوى العظمى، وتعي أنّ الفائز في "النقلات الاستراتيجية" لا يحصل بالضرورة على كل شيء؛ لكنه جاهز لمواجهة مختلف الاحتمالات بحزم. ورأى زكريا، أنّه إذا استمر ولي العهد في المسار الذي يسير فيه حالياً، فمن المرجح أن تكون السعودية قادرة على إدارة هذا التوازن.

 لا يختلف اثنان على أنّ قوة الأوضاع واستقرارها في السعودية - وبقية دول الخليج - ترجع إلى الإدارة الكفوءة لأوراقها وإمكاناتها، وضخامة ثرواتها المالية ووفرة احتياطياتها النفطية وقدرتها الهائلة على النفاذ إلى أسواق المال والأعمال والاستثمار في العالم، شرقاً وغرباً بفوائضها المالية الجبارة، بالتزامن مع تراجع ثقل الفاعلين التقليديين في الشرق الأوسط.

 تبدو الظروف مثالية لقفزة سعودية تُسهم في إعادة تشكيل المشهد الإقليمي والدولي لمصلحة العرب، ربما للمرّة الأولى في التاريخ الحديث، بالاعتماد على الذات وامتلاك عناصر القوة الناعمة والصلبة، ومدّ الجسور مع جميع القوى الكبرى، من موقع الندّ لا التابع!

عن "النهار" العربي




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية