في عصر السايبورغ: من الفقه إلى الجندر ومن العائلة إلى المختبر

في عصر السايبورغ: من الفقه إلى الجندر ومن العائلة إلى المختبر

في عصر السايبورغ: من الفقه إلى الجندر ومن العائلة إلى المختبر


22/06/2023

تاريخ الرجل والمرأة محكوم بالصراع، وكأنّهما من كوكبين مختلفين، بناءً على هذا الصراع يميل الناس إلى الاعتقاد بأنّ الرجل "أقوى وأذكى" دون اعتبار لمفهوم القوة والذكاء ولدور الثقافة والمسار التاريخي والاهتمامات الجسدية والذهنية التي لها الدور الأساس في تشكيل البنية الجسدية. والأمر لا ينتهي عند حدود هذا الفهم، بل قاد إلى حكم مفاده أنّ الرجل "أفضل" من المرأة، ثم اتخذ هذا الحكم قيمة تشريعية تجعل من شهادة الرجل ضعفي شهادة المرأة، إلى غيرها من الأحكام التي اكتسبت قداسة في الثقافة الشعبية والدينية.

العضلات والعقل ومفهوم القوة

الاختلاف في البنية الجسدية قاد إلى استنتاج مضلل مفاده أنّ الرجل أقوى، الأمر نفسه حدث مع العقل. مقارنة حجم الدماغين والاهتمامات الذهنية لكلٍّ من الرجل والمرأة قادت إلى استنتاج أنّ الرجل أذكى، دون الأخذ في الاعتبار دور الممارسة الثقافية والتجربة التاريخية، فالربط "بين الرجال والآلات هو نتيجة البناء التاريخي والثقافي للجندر".

الربط "بين الرجال والآلات هو نتيجة البناء التاريخي والثقافي للجندر".

يبدو لي -وهذه ملاحظة شخصية- أنّ النساء أكثر تكيفاً مع تقلبات فصول السنة، ربما يستدعي هذا إعادة التفكير في مفهوم القوة الجسدية الذي لا ينبني على قوة العضلات بقدر ما ينبني على القدرة على التحمل. مثلما أعادت "النسويات الاقتصاديات تحديد علم الاقتصاد ليأخذ بعين الاعتبار العمل المنزلي والرعاية غير مدفوعة الأجر". في هذا السياق لنأخذ في الاعتبار قدرة المرأة على تحمل آلام الحمل والمخاض وتقلبات الدورة الشهرية. تكشف هذه القدرة عن طبيعة المرأة ما يؤهلها لتحمل التغيرات المحتملة التي قد تحدث في الطقس مستقبلاً، في المقابل يعاني كروموزوم (واي) من أزمة وجود تهدده بالانقراض.

الاختلاف في البنية الجسدية قاد إلى استنتاج مضلل مفاده أنّ الرجل أقوى، الأمر نفسه حدث مع العقل. مقارنة حجم الدماغين والاهتمامات الذهنية لكلٍّ من الرجل والمرأة قادت إلى استنتاج أنّ الرجل أذكى

في عام 1140 احتل الملك كونراد الثالث قلعة ونسبيرغ الألمانية، وسمح للنساء فقط بالمغادرة وحمل ما يمكنهن حمله، فقمن بحمل رجالهن (الجنود) على أكتافهن، وقد أُطلقَ على القلعة فيما بعد "قلعة النساء الوفيات". هذا مثال على أنّ العضلات ليست قاعدة ثابتة للرجل واستثناءً عند المرأة، فيكفي المرأة أن تتدرب لفترة معينة لتكتسب عضلات مثل الرجل تماماً ويصبح الاستثناء مساوياً للقاعدة. على كل حال ليست العضلات دليل قوة ولا حجم الدماغ دليل ذكاء -فضلاً عن نسبية تعريف الذكاء-، والأمثلة من التاريخ العالمي كثيرة.

الحروب مثال آخر لإمكانية تساوي الجنسين في ميزان القدرات، وقد تتفوق المرأة أحياناً. ففي ربيع عام 1917، بعد ثورة شباط (فبراير)، أصيبت القوات الروسية التي تواجه الألمان في الحرب العالمية الأولى بالإحباط، فتوقف الجنود عن القتال وانسحب بعضهم عائدين إلى ديارهم. وفي محاولة لشدّ عزيمة الرجال قررت الحكومة إنشاء كتيبة من النساء المتطوعات بقيادة ماريا بوخاريفا. وبعد التدريبات العسكرية الأساسية تم إرسال النساء إلى الجبهة. فخاضت المجندات معارك شرسة ضد الألمان في وقت وقف فيه الرجال متفرجين. هذه الواقعة صُوِّرت سينمائياً في فيلم روسي يحمل عنوان "الكتيبة Battalion" 2015. وفي العام نفسه تم عرض فيلم "المعركة من أجل سيفاستوبول" الذي يصور القصة الحقيقية للطالبة الجامعية ليودميلا بافليشينكو التي التحقت بالجيش في الحرب العالمية الثانية، وتمكنت من قنص (309) من الجنود الألمان، لتصبح أشهر قنَّاصة في التاريخ. وبوسعنا المضي في سرد الشواهد التي تؤكد على حقيقة أنّ الاستثناءات تصنعها الظروف التي يوضع فيها المرء، وفي هذا السياق لا فرق بين ذكر وأنثى.

ينطق الفيلمان بلسان حال سفيتلانا ألكسيفييتش في كتاب يحمل العنوان "ليس للحرب وجه أنثوي"؛ فالحرب هي من تُحوِّل الأنثى إلى رجل؛ سواء أكانت في الجبهة تقاتل إلى جانب الرجل، أم في البيت وهي تنتظره وتقوم بدوره في غيابه.

من الفقه إلى الجندر

ترجيح كفة الرجل/ الذكر هو محصلة لسوء فهم ناتج عن القفز من مقدمات تُقرّ بالفوارق البيولوجية، إلى بناء استنتاج مايَزَ بين الجنسين ووجد طريقه إلى التشريع الفقهي/ الديني. لكنّ التحليل الجندري يعيد القراءة ويساوي بين الكفتين، مثلما أنّ "إعادة تقييم تقنيات الطهي ورعاية الأطفال وتكنولوجيا الاتصالات تُعطِّل الصورة النمطية الثقافية للمرأة بأنّها غير كفؤة من الناحية التقنية أو غير المرئية في المجالات التكنولوجية". كما تذهب أماني أبو رحمة في كتابها، عن دونا هاراواي "نسوية السايبورغ- عن بيان السايبورغ والمعرفة من موقع" 2020. ترى أبو رحمة أنّ انبثاق العصر الرقمي أظهر استجابة بالغة من قبل المرأة في الثمانينيات "ويبشر بإمكانات إيجابية حول تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لتمكين النساء وتحويل العلاقات الجندرية". ووفقاً لمفهوم الجندر "لم يعد الجنس البيولوجي المدخل الوحيد أو المادة الأساسية للترتيبات الاجتماعية، لكنّه تفاعل معقد للجينات والهرمونات والفيسيولوجيا والسلوكيات".

ترجيح كفة الرجل/ الذكر هو محصلة لسوء فهم ناتج عن القفز من مقدمات تُقرّ بالفوارق البيولوجية إلى بناء استنتاج مايَزَ بين الجنسين ووجد طريقه إلى الفقه

تذهب دونا هاراواي -في كتاب أماني أبو رحمة- إلى أنّ الإنسان سيتمخض عن كائن سايبورغ -هجين بيولوجي-تكنولوجي، وأنّ التقنيات الرقمية "تطمس الحدود بين البشر والآلات، وبين الذكور والإناث، وتُمكِّن المستخدمين من اختيار هويات بديلة وافتراضية". فإذا كانت التكنولوجيا الصناعية قد تميَّزت بشخصية بطريركية/ ذكورية، فإنّ "التقنيات الرقمية، القائمة على الدماغ بدلاً من العضلات، وعلى الشبكات بدلاً من التسلسل الهرمي، تبشر بعلاقة جديدة بين النساء والآلات. وإنّ الإنترنت وفضاء السايبر يُعدّ ميديا أنثوية توفر الأساس التكنولوجي لشكل جديد من المجتمع يحمل إمكانية تحرر للنساء. ووفقاً لهذا الرأي، فإنّ المرأة، وليس الرجل، هي المناسبة بشكل فريد للحياة في العصر الرقمي".

الفتاة السايبورغ

تستفيض أبو رحمة في تحليل هذه القضية في دراستها عن "نسوية السايبورغ"، التي ينبثق عنها مفاهيم مختلفة للنسوية: "النسوية الماركسية والاشتراكية، النسوية الراديكالية، نسوية التحليل النفسي، نسوية ما بعد الحداثة، والنسوية الإيكولوجية/ البيئية". ويتضمن الكتاب أيضاً ترجمتها لدراستين بقلم دونا هاراواي: "بيان السايبورغ- العلم والتكنولوجيا والنسوية الاشتراكية في أواخر القرن الـ (20)، والمعرفة من موقع: قضية العلم في النسوية وامتيازات المنظور الجزئي".

ترجيح كفة الرجل/ الذكر هو محصلة لسوء فهم ناتج عن القفز من مقدمات تُقرّ بالفوارق البيولوجية

السايبورغ بالنسبة إلى هاراواي أكثر من مجرد مجاز لدمج البيولوجيا والتكنولوجيا. إنّه "هجين من الافتراضات الثنائية الأساسية الأخرى التي تؤثر على التصورات الذاتية اليومية للناس. وتبعاً لذلك، لا يتحدى السايبورغ التمييز العضوي/ التكنولوجي فحسب، ولكنّه يتحدى الثنائيات الحداثية المرعبة الأخرى عبر الاختراق الفردي والمتعدد لحدودها". يجمع السايبورغ "الهويات المتكسرة والمناطق الحدودية لأنواع كثيرة، مادية وسيميائية، واقعية وخيالية، دنيوية ولاهوتية؛ إنّه مثل جسر يردم الهوة بين جسم الإنسان والكائنات الحية الأخرى، الافتراضية والحقيقية. السايبورغ هو انهيار الحدود بين الواقع والخيال، والطبيعة والثقافة، المتجسد واللامتجسد في شبكات العلم".

تنظر هاراواي في واقع الإنسان ومراحل تطوره من منظور تحليلي أقرب إلى الواقع المتحقق للتو، وترى في السايبورغ "فرصة لتجاوز حدود الصورة النمطية للجسد الأنثوي." وتجادل أنّ "عالم ما بعد الجندر يتم إنشاؤه بوساطة السايبورغ الذي يفكك ثنائيات الجنس والجندر." وتُعلن أنّ سايبورغها أنثى: "سايبورغي هي فتاة".

نهاية الأبوة والأمومة

بات أساتذة الخصوبة يتحدثون اليوم عن إمكانية زرع رحم في الرجل، ممّا يؤهله للحمل. التجارب الأولية تشير إلى احتمال تكوين أجنة بشرية في المستقبل بدون حاجة إلى بويضات. فقد نجح العلماء في توليد فأر "عن طريق خداع حيوانات منوية وجعلها تعتقد أنّها تُجري تخصيباً لبويضات طبيعية". قال العلماء إنّ نتائج الدراسة، التي نشرتها دورية (نيتشر كوميونيكيشنز) العلمية، "قد تعني في المستقبل البعيد الاستغناء عن المرأة في عملية تكوين الجنين". واستنتجوا أنّه "إذا كان حقن حيوانات منوية في أشباه أجنة فأر ينتج عنه صغار أصحاء، فقد يمكن تحقيق النتائج نفسها مع الإنسان باستخدام خلايا ليست من البويضات". بمعنى آخر "قد يكون بإمكان رجلين إنجاب طفل عن طريق تبرع أحدهما بخلية عادية وتبرع الآخر بحيوان منوي... أو قد يكون لرجل واحد طفله الخاص عن طريق استخدام خلايا من جسمه مع حيوانه المنوي، وهو ما يجعل الطفل أقرب لتوأم غير متماثل مقابل كونه مستنسخاً".

السايبورغ بالنسبة إلى هاراواي أكثر من مجرد مجاز لدمج البيولوجيا والتكنولوجيا. إنّه هجين من الافتراضات الثنائية الأساسية الأخرى التي تؤثر على التصورات الذاتية اليومية للناس

نهاية الأبوة والأمومة لا يعني نهاية الأسرة، وإنّما هي إعادة تعيين لها. وفي الوقت الراهن تساعد هذه الدراسات في تفسير بعض تفاصيل عملية الإخصاب. وفي المقابل "تمكن علماء بريطانيون من الوصول إلى طريقة تتمكن خلالها المرأة من التلقيح والحمل دون الحاجة للرجل...، وذلك بفصل خلايا جذعية من النخاع العظمي للأنثى تعمل عمل الحيوان المنوي الذكري، ثم تلقيح أنثى أخرى بالمني الجديد ممّا يجعلها تحمل وتلد بيولوجياً دون الحاجة للذكر، وهذا يعني أنّ جميع الأطفال الناتجين عن هذه التجربة سيكونون من الإناث أيضاً".

يمتلك الذكر والأنثى كروموسوم X فيما ينفرد الذكر بامتلاك كروموسوم Y المسؤول عن إنتاج الحيوانات المنوية، وتحمل الأنثى كروموسومات XX، ويكون الطفل ذكراً إذا كانت كروموسوماته XY وهذا يعني أنّ "المني" الجديد سيحتوي على كروموسوم X فقط وبالتالي سيكون المولود أنثى، "فضلاً عن نسب عالية لتشوهات جنينية".

هذا النزاع العلمي يدور في مختبرات من صنع الإنسان، ولكنْ ثمّة صراع آخر تديره الطبيعة. في كتابيه "لعنة آدم" و"سبع بنات لحواء" يشير بريان سايكس - أستاذ علم الوراثة البشرية في جامعة أكسفورد- إلى صراع خفي تدور رحاه بين كروموسوم واي وكروموسوم إكس، أو بين دنا (DNA) الميتوكوندريا وكروموسوم واي. وفي هذا الصراع تُحقق الأنوثة انتصارات ساحقة، لا تحققها الحركات النسوية على أرض الواقع. واحدة من نتائج تلك الحرب الخفية أنّ الحيوانات المنوية تمر بأحوال سيئة. والنتيجة العامة، كما يخلص سايكس، توضح انتقام الأنثى بوسائلها الخاصة الخفية، وربما تقود هذه النتيجة إلى استشراف مستقبل الذكر واحتمال انقراضه. لكن إذا كانت تلك معركة تديرها الطبيعة، فثمة معركة فكرية، ثقافية، وأخلاقية ينبغي أن نهتم بها.

مواضيع ذات صلة:

"النسوية".. المرأة الغربية ماتزال تعاني التمييز

هل تمكّنت الاجتهادات النسوية من تجاوز موروثات صورة المرأة؟

السينما النسوية بأي معنى؟



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية