كيف أصبح "تشيرنوبل" أنجح مسلسل في التاريخ؟

كيف أصبح "تشيرنوبل" أنجح مسلسل في التاريخ؟


06/08/2019

تبدو معالجة الكارثة بالكذب مسألةً معقدةً جداً قياساً بالزمن، خصوصاً إذا بقيت آثار تلك الكارثة تتوسع مثل بقعةِ دمٍ على ثوبٍ أبيض كبير معروض على الناس. وهذا بالضبط ما يحاول أن يشير إليه المسلسل الأشهر "تشيرنوبل" الذي أطلقته شبكة "HBO" التلفزيونية في أيار (مايو) الماضي.

أبرز ما يميز القصة يكمن في أن كل ما نحتاجه يومياً من أجل الحياة أو نحيا به يصبح مميتاً

وكانت حادثة التسرب النووي من مفاعل تشيرنوبل، حظيت بالكثير من التعتيم حين حصولها في السادس والعشرين من نيسان (إبريل) 1986 خلال حقبة الاتحاد السوفييتي، ولعلها كانت أول كارثةٍ كونية نووية من نوعها، مما جعلها تثير الكثير من التساؤلات، خصوصاً أنّ مسألة محاسبة طرفٍ واحد بشأنها، تبدو معقدةً على المدى الطويل، إذا عرفنا أنّ الكثير من الدول تمتلك مفاعلاتٍ نووية، وأنّ مثالاً سيئاً مثل تشيرنوبل، كان ليؤثر على فكرة امتلاكها تلك المفاعلات، فما الذي قدمه المسلسل أيضاً حتى يحظى بكل هذه الشهرة اليوم؟ بعد مرور 34 عاماً على الكارثة.

حادثة التسرب النووي من مفاعل تشيرنوبل حظيت بالكثير من التعتيم

القصة على الشاشة
حلقات المسلسل الخمس التي جاءت في مدةٍ لا تزيد عن خمس ساعاتٍ ونصف الساعة تحبس الأنفاس، بسبب التكثيف العالي الذي تتميز به القصة (السيناريو)، ولعل أبرز ما يميز  القصة يكمن في فكرةٍ مفادها أنّ كل ما نحتاجه يومياً من أجل الحياة، أو نحيا به، يصبح مميتاً. وذلك من خلال عكس المقولة الشهيرة "إنّ كل شيءٍ يتحول إلى سلاحٍ إذا نحن أتقنّا استخدامه"، لكن هذه المرة، كان الفشل في استخدام مصادر الطاقة النووية ووجود سلسلة أخطاء متراكمة سبباً في حصول كارثةٍ مرعبة سببها عدم الإتقان.

اقرأ أيضاً: مسلسل "دقيقة صمت" وقفة على روح الوطن

"إن كل شيءٍ ملوث"، تلك هي العبارة التي تحكم مجريات المسلسل منذ بدايته إلى نهايته، فكل مصدرٍ للحياة كالماء والأنهار والحليب والقمح والخضار والفواكه والأشجار باتت ملوثةً بالإشعاع النووي الذي تسرب من المفاعل رقم 4. وبالنسبة للعامة من أهل المنطقة المحيطة بتشيرنوبل، لم يكن الحدث عادياً، لكنه لم يكن مفهوماً كذلك. فما هو هذا القاتل المتخفي الذي يتسرب إلى كل شيء؟ إنه ليس وحشاً في الحقيقة يمكن مواجهته والتغلب عليه، بل إنه لا يُرى، وبالتالي فإنّ قدرته على القتل لا مثيل لها. ولعل هذه النقطة بالذات تم التركيز عليها في المسلسل، من خلال حديث أحد أبطال المسلسل وهو كبير المحققين "ليغاسوف" الذي يقول إنّ اليورانيوم بمثابة "رصاص" وإنّ كل ذرةٍ منه قاتلة، أما التسرب من المفاعل، فقد بلغ مليارات الذرات.

النيران كانت العدو الوحيد الظاهر فيما التسربب الإشعاعي كان قاتلاً لا يراه أحد

لكنّ هذه النقطة أيضاً، كانت المحور الرئيسي للنقاد في آرائهم حول المسلسل الذي تفوق على أشهر مسلسلات التاريخ مثل "breaking bad" و"game of thrones"، حيث رأى بعضهم أنّ هنالك مبالغة في "تحويل القصة الحقيقية، إلى نوعٍ آخر من الحقيقة، إلا أنّ ذلك غير مهم ما دام صانعو المسلسل اختاروا حقيقةً درامية". بحسب ما جاء في مقالة هنري فونتين بصحيفة "نيويورك تايمز" في 2 حزيران (يونيو) الماضي.

اقرأ أيضاً: "جن": مسلسل متواضع المستوى أثار زوبعة في فنجان
ويضيف فونتين، أنّ "مشاهد المصابين الملطخين بالدماء لم تكن صالحةً لحادثة تسربٍ نووي، إضافةً إلى أنّ الشخصيات الرئيسية ككبير المحققين وعالمة الفيزياء التي تبحث عن سبب الحادثة هي شخصيات مفتعلةٌ أو مبالغٌ في أدوارها"، هذا إضافةً إلى الدخان الذي كان يغلف مشاهد المسلسل في معظم حلقاته كأنه دليلٌ للمشاهد على (الدمار)، رغم أنّ التسرب الإشعاعي أساس القصة، لا يترك خلفه أي أثر.

اقرأ أيضاً: جدل في الشارع الأردني بعد عرض مسلسل "جن" عبر "نتفليكس"
وبالنسبة للنقاد أيضاً، قال المحرر الثقافي في صحيفة "السبيكتاتور" جيمس ديلنجويل، إنّ تشيرنوبل المسلسل من المؤكد أنه لا يشبه تشيرنوبل الكارثة. فالكارثة الأساسية ربما كانت "الكذب والتعتيم اللذينِ طورا الحادثة إلى كارثةٍ فعلاً، لكن فعلياً، كم عدد القتلى الحقيقيين؟ كم عدد المصابين؟ كم دولةً عرضت التعاون لإنهاء الحادثة؟" وفقاً لمقالته المنشورة في 8 حزيران (يونيو) الماضي. ويقدم الكاتب معلوماتٍ عديدة، من أبرزها أنّ الحادثة لم تتسبب بمقتل مئة شخصٍ حتى، ولم يزد عدد المصابين على ألفي مصاب. لكن المسلسل ناجحٌ جداً بأي حال، فقد داعبت الحادثة خيال عدة أجيالٍ ممن عاصروها أو ولدوا بعدها، لأنها بقيت غامضةً لسنوات. وها هم يرونها عبر الشاشة بطريقةٍ تجعلهم يعيشونها لأول مرة، كأنها الحقيقة الوحيدة التي يعرفونها عن تشيرنوبل.

أبطال المسلسل الأساسيون مبالغٌ في أدوارهم كما رأى بعض النقاد

القصة بين الواقع والخيال
يشير  ديلنجويل في مقالته ذاتها، إلى أنه "بالنسبة للآثار الجانبية التي استمرت على سكان المنطقة، من إصاباتٍ بالسرطانات (سرطان الغدة الدرقية حاصةً) والولادات لأجنةٍ مشوهة، وغيرها من أحداثٍ تالية، فإنها خاضعةٌ لنقاشٍ علميٍ كبير وتساؤلاتٍ عديدة".

داعبت تشيرنوبل خيال العديدين ممن عاصروها أو ولدوا بعدها لأنها بقيت غامضةً وها هم يرونها بطريقة تجعلهم يعيشونها لأول مرة

ومع ديلنجويل، يتفق العديد من النقاد في صحفٍ مختلفةٍ كالغارديان البريطانية مثلاً، بينما وعلى العكس، احتفلت "بي بي سي" بالمسلسل، ورأت أنه يمثل "حقيقة الأمر كما لم يعرفها أحد".
ورغم هذا النقد، يمكن العودة إلى الكاتبة البيلاروسية سفيتلانا ألكسيفيتش، الحائزة على جائزة نوبل 2015 للسبب ذاته ربما الذي جعل من تشيرنوبل أعظم مسلسلٍ في التاريخ خلال أقل من شهر. ففي أعمالها الروائية، خصوصاً (أصوات تشيرنوبل)، ركزت ألكسيفيتش على إيصال ما أسمته بـ "صوت من لا صوت لهم" وتحويل أولئك الذي كانوا مجرد حجارةٍ مرصوصةٍ في جدار التاريخ، إلى قصص مستقلة بحد ذاتها. فرسمت من خلال روايتها المستندة على شهاداتٍ حقيقية مسجلة لسكان المنطقة حول الحادثة، الآلام التي عاناها هؤلاء، وبصورةٍ محزنةٍ واقعية، ومرعبة أحياناً. حتى إنه "تم قطع أشجار الغابات ودفنها هناك، لأنها ملوثة بالإشعاع".

اقرأ أيضاً: "دفعة القاهرة": مسلسل ممتع لكنه مخيّب للآمال
المسلسل، الذي لا بد أنّ مؤلفه "كريغ مازن" تأثر بأليكسيفيتش، تعرض الرواية ذلك الخوف المرعب من الإشعاع، أو متلازمة "الراديوفوبيا" التي كانت تنتشر بين الناس لأول مرةٍ في التاريخ. فلا أحد يشرح للناس والضحايا ماذا يحدث، ولا أحد يقول كيف حدث ما حدث، ولا أحد يهتم بهم اهتماماً كافياً، لأنه لا أحد يعرف إن كان هنالك شيء سينقذهم. كل هذا الذي قالته ألكسيفيتش تمت استعادته نوعاً ما في المسلسل، لكن دون وجود ربطٍ علميٍ واضح حول التلوث الإشعاعي وماهيته وكيف يؤثر على جسد الإنسان.
ولم يوضح المسلسل المدة الزمنية والمسافة الجغرافية لهذا التأثير  الإشعاعي (التي تُعد أقل رعباً أحياناً). بل في الواقع، بالغ في أشياء كثيرة، واستخدم مآسي ضحايا تشيرنوبل كأداة للإشارة إلى المؤسسات المتعفنة في النظام السوفييتي القديم، بينما كان الضحايا هم كل القصة بالنسبة لألكسيفيتش. أما حادثة التسرب وما يشوبها من خفايا علمية وأخطاء تقنية وسياسية، فإنه غالباً لم يكن ممكناً تفادي آثارها لو حدثت في أي بلدٍ آخر.

اقرأ أيضاً: هل تجتمع الإنسانية مع العنف في الثقافة العامة؟.. مسلسل الهيبة نموذجاً
وبصورةٍ عامة، ووفقاً للنقاد عموماً، أبهر المسلسل مشاهديه، ومن المؤكد أنّ العديد منهم رأى فيه رسالةً سياسيةً ما، خصوصاً الروس الذين لم يعجبهم المسلسل واعتبروا أنه مملوءٌ بالتلفيقات. لكن التساؤل حول خطر المفاعلات النووية، سواء كانت سلميةً أم عسكرية، يظل هو الأقل حظاً في الاستمرار والتطور كتساؤلٍ عالميٍ مهم على هامش المسلسل. الذي نجح كدراما نجاحاً باهراً، وكل شيء قابل للنجاح، ما دام يدعي تصوير الحقيقة، وجعلها من دمٍ ولحم.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية