لنكن صرحاء... أين الخلل في البنية العقلية الجهادية المعاصرة؟

لنكن صرحاء... أين الخلل في البنية العقلية الجهادية المعاصرة؟


21/05/2019

مع كل جريمة يقترفها الإرهابيون، تفقز الأسئلة على سطح النقاشات، مثل: لماذا يفعلون هذا؟ ما العائد عليهم وعلى أوطانهم؟ وكيف سمحوا لأنفسهم أن يكونوا بهذه القسوة؟ كيف تم تجنيدهم؟ إلى آخر هذه الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات شافية عنها.

اقرأ أيضاً: تقرير أمريكي يحذّر من نوع جديد من الجهاد..

ولعله من المفيد أن نقترب أكثر في مهمة تشريح البنية العقلية الجهادية لنفهم كيف يفكرون؛ ونتعرف على مواطن الخلل، ثم نقترح بعضاً من الحلول العلاجية.

يصعب سبر غور العقل الإسلاموي بشكل تام نظراً للتخوف من الاشتباك مع الإسلام التقليدي الرسمي

أجد أنّ من الضروري أن أحدد مقصودي بـ"البنية العقلية" في هذا المقال، وأقصد به الإطار الفكري والمعرفي الذي على ضوئه يحدد منظور المسلم للعالم من حوله، سواء نظرته للآخر أو للمجتمعات، أو لدوره في الحياة.

في البداية، وبكل صراحة، أقر بصعوبة سبر غور العقل الإسلاموي بشكل تام، نظراً للتخوف من الاشتباك مع تراث الإسلام التقليدي الرسمي، فثمة تقاطعات بينه وبين الفكر الجهادي؛ فكلاهما يعتمد على ذات النصوص الفقهية التأصيلية التي تشرعن العمليات الإرهابية، فيتهيب الباحثون خوض غمار تلك المغامرة العقلية.

يظل الفكر الجهادي صورة غائمة لدى الكثير، والتصور الغائم لا تنبني عليه حقائق، وبالتالي يظل الجهاديون ينتجون أفكاراً، ويستقطبون أفراداً ينفذون عملياتهم الإرهابية، والمجتمع العربي والإسلامي لايزال يتساءل.

أسس البنية العقلية الجهاية، قائمة على أربعة أركان هي كالتالي:

أولاً: التصور "الفلسفي" لطبيعة الإسلام والمسلمين

هل هو دين لكل الناس ولكل العصور، ومن حق كل عصر أن يتعبد بالإسلام بطريقته، أم أنّ عصر التأسيس (عصر النبوة الكريمة والخلفاء الراشدون الأربعة من بعده) هو النموذج الوحيد الصحيح، وأنّ على جميع المسلمين إعادة تمثيله في حياتهم المعاصرة (أي استنساخه)؟ إنّ احترام فترة تاريخية معينة لا تعني أبداً المطالبة بتكرارها حرفيا، أو أن من لم يكررها بحرفيتها هو فاسق أو ظالم أو كافر. وتكون المطالبة باستنساخها أحياناً تدل على عطب فكري، هذا العطب لا يقع على الإسلامويين وحدهم؛ بل يشاركهم أصحاب الخطاب الإسلامي التقليدي والرسمي، فالجميع يطالب المسلمين بإعادة إنتاج فترة الرسول، صلى الله عليه وسلم، والصحابة، رضي الله عنهم، والسلف الصالح.

ثانياً: منهج التغيير

ينبثق منهج التغيير من قناعة جماعات الاسلامويين والجهاديين أنّ كثيراً من ممارسات المسلمين اليومية هي بعيدة عن الإسلام النموذج، وأنّهم مطالبون من الله تعالى بتغيير هذا الواقع (غير الإسلامي) والعودة الى زمن الإسلام النموذج، وتغيير عادات وممارسات المسلمين، إلى ما يظنونه التطبيق الحرفي لإسلام الرسول، صلى الله عليه وسلم، وإلا فإنّهم آثمون أمام الله تعالى، ومنهج التغيير باليد أو القوة أو الجهاد أو القتال في سبيل الله تعالى، في المكوّن المعرفي هو أفضل منهج تغيير، كما أنّه أقرب إلى الله تعالى، مستشهدين خطأً، وفق فهمهم، بالآية الكريمة "لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۚ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيماً" ( النساء95)

اقرأ أيضاً: الجهاديات.. هكذا تغير دور المرأة في صفوف التنظيمات المتطرفة

وهنا عطب آخر في البنية العقلية الجهادية، وهو ربط العمليات الإرهابية بالمفهوم الديني للجهاد، والجهاد في المصطلح القرآني المؤسس أمر نبيل، يختلف عن مفهوم القتال، هذا العطب يشارك فيه الخطاب الديني الرسمي والشعبي أحيانا، فالكل اصطلح على التعبير عن القتال بالجهاد، وبالتالي أعطى القتال خصائص الجهاد ونبله وديمومته، لهذا اعتبر الجهاديون أنّ الجهاد بمعنى القتال فريضة ماضية إلى يوم الدين؛ أي على المسلمين الاستمرار في القتال إلى يوم الدين، وهذا أمر مجافٍ للحقيقة.

ثالثاً: نظرية تآمر العالم على الإسلام والمسلمين

يؤمن المسلمون، ومعهم الإسلامويون، أنّ العالم كله يتآمر على الإسلام والمسلمين، وأنّ الأمم يتداعون على المسلمين ليأكلوهم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، منطلقين من حديث مروي عن الرسول الكريم: "توشك الأمم أن تداعى عليكم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومِن قلَّةٍ نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السَّيل، ولينزعنَّ الله مِن صدور عدوِّكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوَهَن. فقال قائل: يا رسول الله، وما الوَهْن؟ قال: حبُّ الدُّنيا، وكراهية الموت".

من أعطاب البنية العقلية الجهادية ربط العمليات الإرهابية بالمفهوم الديني للجهاد

تنبثق من هذا التصور فكرة أخرى هي تحديد من هو العدو؟ هل هم المسلمون الذين يعلنون أنّهم لا يوافقون على استنساخ الفترة المقدسة للإسلام حرفيا، ويرون أنّ من حقهم صنع نموذج إسلامي لأنفسهم؟ أم هم الحكام الذين لا يأمرون الناس باتباع الدين بالحذافير كما يتصورها الجهاديون الإسلامويون؟ أم أنّ العدو هي الدول الغربية والشرقية التي "تتآمر" على الإسلام بالطبيعة؟ أم هم شعوب هذه الدول؟ أم هم غير المسلمين في الدول التي غالبيتها مسلمون لكنها لا تطبّق تعاليم الدين كما يتصورونها؟ كل هؤلاء معرّضون للاستهداف كل حسب مكانه من المؤامرة على الإسلام.

هذا العطب يشارك فيه جزئياً علماء الإسلام الكلاسيكي الرسمي فخطاب عداء العالم للمسلمين، وأنّ الجميع يحسدوننا على الإسلام، هذا الخطاب هو أحد مكونات خطاب فقهاء الإسلام الرسمي، صحيح أنّه يقف عند هذه المرحلة، وأن الإسلامويين هم من يستكمل هذا التصور لمداه، وينتهي الحديث بذم الدنيا وحب الموت.

رابعاً: حب الموت وكراهية الحياة

في الإطار المعرفي للمسلم المعاصر، يحتل الذم الشديد والمستمر للدنيا، مساحة كبيرة، ويقوم بتشكيل تصور الإنسان المسلم لدوره في هذه الحياة، وبالمقابل نجد نفس المساحة للمدح الدائم والاحتفاء بالآخرة، والحياة هي المقابل الموضوعي للدنيا، والموت هو المقابل الموضوعي للآخرة، ومن ثم أصبح الموت أفضل من الحياة، وهذا العطب في تقبل الحياة وحب الموت، جعل المسلمين ينصرفون عن إعمار الحياة، ويقبلون على وسائل الموت والتدمير، تشكُّل تصور لمسلم للحياة عبر آلاف الكلمات التي مدحت الموت في سبيل الله، ولم تمدح الحياة في سبيل الله!

اقرأ أيضاً: لماذا يهاجم الجهاديون الصوفيين؟

ومن ثم تحول الموت إلى مطلب نظراً ليقين الإسلاموي من عائد المنفعة عليه من الموت في سبيل الله وفق تصوره الذي يطبقه على حالات للجهاد هي أبعد ما تكون عن التصور الديني الأصيل لمفهوم الجهاد الحقيقي، منها أن يغفر له تماماً من كل ذنوبه، مع الوعد أن يظل حياً لا يموت في قبره، ولا يعذَّب ويُيسّر عليه يوم الحساب، وأنّ له من الحور العين العشرات اللاتي يتزوجهن في الجنة، وأنّه سيشفع في سبعين من أهله وجبت لهم النار؛ فينقذهم منها، كل هذه المكافآت في عرض واحد وهو الموت شهيداً (أي الموت أثناء المعركة)، وطالما الإنسان طال عمره أم قصر فإنه ميّت؛ فالأولى أن يموت مجاهداً مدافعاً عن دين الله! فتقوم هذه الجماعات الإسلاموية بتوظيف هذه الحسنات الربانية للمجاهدين الحقيقيين لتقنع بها أتباعها في سبيل ما يسمونه هم جهادا شرعيا وتعالى الله عز وجل عن افترائهم علوا كبيرا، فكيف يكون قتل الآمنين جهادا !!

يجب إحداث حالة نقدية معرفية عقلانية مع المصطلحات التقليدية الموروثة البعيدة عن جوهر الإسلام

إذا كانت هذه المكونات الأربع هي التي تكوّن منظور الإسلاموي لنفسه وللكون وللآخر، على ما فيها من عطب، فلا شك أنّ حكم الإسلامويين سيكون مغايراً لما نظنه بديهياً، من هذه المكونات نكتشف مناطق الخلل في تفكير الإسلامويين ككل والجهاديين تحديداً، لكن العطب يمتدّ ليشمل أساليب التفكير كذلك؛ فالجهادي لا يميل إلى منطقة الأشياء والأحكام، بل يذمّ العقل والتعقل، ويميل إلى الاعتماد على الغيبيات وفقا لتصورهومفهومه الضيق.

لا يعتمد الجهادي في تفكيره على تحليل الخطاب ودلالاته، سواء كان النص المؤسس الأول "القرآن الكريم" أو النص الثاني "السنة النبوية الشريفة" ، أو النص الثالث "أقوال الفقهاء" أو النص الرابع "كتب التفسير"، إنما يتعامل معها بالتلقين والمصداقية، تمركُز الإسلاموي حول فكرة ماضوية ولا يميل للأفكار المستقبلية، يفتقد الاسلاموي للخيال والتخيل، ويعود هذا لضيق الإسلامويين بالأسئلة الناتجة عن إعمال العقل.

اقرأ أيضاً: التنظيمات الجهادية في المغرب العربي.. صراع محتدم

الحقيقة أنّ على الأمة أن تصارح نفسها بصدق، وأن تعترف أنّ الحديث الملتوي والمتلون لن يفيد بشيء، وبصراحة شديدة أقول: إنّ كثيراً من مكونات البنية العقلية الإسلاموية هي في الأساس نتيجة الخطاب الإسلامي التقليدي، وأحسب أنّ أول طريق لإصلاح هذا العطب، هو إحداث حالة نقدية معرفية عقلانية مع المصطلحات التقليدية الموروثة البعيدة عن جوهر الإسلام الحقيقي، وصناعة منظور إسلامي متجدد ومتفاعل مع دينه وعصره.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية