ما الخلل في "قوة الردع" العربية؟ وهل يمكن إصلاحه؟

ما الخلل في "قوة الردع" العربية؟ وهل يمكن إصلاحه؟


22/05/2019

قريباً، سيلتقي القادة العرب مجدداً في مكة لحضور قمتين "طارئتين"؛ واحدة خليجية والأخرى عربية في 30 أيار (مايو) الجاري. وعنوان القمتين الرئيس، هو البحث في كيفية "ردع" الاعتداءات الإيرانية، وتداعيات المواجهة الإيرانية-الأمريكية في منطقة الخليج.
وذلك بعد تعرّض أربع سفن لأعمال تخريبية قبالة ميناء الفجيرة الإماراتي، وبعد شن الحوثيين هجمات ضد محطتي ضخ لخط أنابيب نفط في السعودية بطائرات من دون طيار، ما أدى إلى إيقاف ضخ النفط مؤقتاً. واتهمت الرياض طهران بإعطاء الأوامر للحوثيين لمهاجمة المنشآت السعودية.

لا يُعدُّ تمكُّن إيران من استهداف ناقلات ومصافي النفط في السعودية والإمارات مؤشراً على هشاشة أمنية

وفق المعايير المهنية، لا يُعدُّ تمكُّن إيران، أو وكلائها من استهداف ناقلات ومصافي النفط في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة بأي حال من الأحوال مؤشراً على هشاشة أمنية، كما يروج لذلك إعلام المحور الإيراني، وأذياله من العرب (المتأيرنين) إذا صحّ التعبير. وذلك ببساطة؛ لأنّ ناقلات النفط ومصافيه، منشآت اقتصادية، وأهداف مدنية سهلة، ولا يمكن لدولة في العالم أن تُحرك قطعاً بحرية، وقوىً عسكرية إلى جانب كل ناقلة نفط، أو أن تضع قوةَ دفاعٍ جوي وأرضي وبحري حول كل منشأة اقتصادية. إنّ ما يحمي المنشآت المدنية في أي دولة في العالم هو "قوة الردع" لا "قوة الدفع". فما هو الخلل في "قوة الردع" العربية؟ وهل يمكن إصلاحه؟

تُستمَد قوة الردع من مصادر عدة؛ بعضها محلّي، يتعلق أولاً بمؤشرات قوة الدولة الكامنة، ثم قدرة هذه الدولة على تحويل قوتها الكامنة إلى قوة فعلية، ثم قدرة الدولة على تطوير أدوات استخدام هذه القوة الفعلية عند اللزوم. وبعضها إقليمي، يتعلق باستقرار وصلابة النظام الإقليمي، وقوة مؤسساته، ومقدار الانسجام بين عناصره، وبعضها الآخر دولي، يتعلق باستقرار تراتبية النظام الدولي، وفعالية مؤسساته، واتضاح قوانينه وأعرافه. وعلى سبيل المثال، في ظل نظام دولي أو إقليمي قوي ومستقر، وقوانين دولية مهيبة، لا تجرؤ دولة على مهاجمة أهداف مدنية لدولة أخرى.

اقرأ أيضاً: الخليج يتحدى التهديدات الإيرانية بدعم التنسيق لتوفير إمدادات النفط

لكن ما هي المشكلة في قوة الردع العربية التي تجعل من دولة مأزومة مثل إيران مثلاً مصدراً دائماً للتهديد والقلق في عالمنا العربي؟ هناك من يقول بأنّ الخلل بين العرب وإيران يكمن في "توازن الرعب" أو التهديد، وليس في "توازن القوة" الذي يميل بشكل واضح لصالح العرب. مثل هذا الكلام كان يقال أيضاً حول إسرائيل التي تذرَّع العرب طويلاً بمسألة الحماية الغربية لها في تبرير عدم القدرة على مقارعتها. هذا صحيح من جانب معين، لكنني أزعم أنّ الإشكالية الحقيقية تكمن في تعريف العرب لمفهوم القوة نفسه؛ إذ يتعين علينا معرفة ماهيّة القوة التي نريد بناءها، قبل أن نعرف كيفية بنائها.

ظلت الدولة العربية طوال القرن الماضي تقريباً، أسيرة مفاهيم وتصورات تقليدية جداً عن القوة. وحتى في الإطار النظري، لم تقم أي من الدول العربية حتى الآن، ببناء مؤشر قوة خاص بها، كما تفعل باقي الأمم، ومنها إيران وإسرائيل، على سبيل المثال.

لكن على الرغم من نقاط الضعف المتعددة في النظام الإقليمي القديم، ظلت دول الخليج العربية على مدى عقود، تقوم بدور "الوسيط" و"ضامن الاستقرار" في الصراعات الإقليمية في إطار التحالف المخلص مع الولايات المتحدة؛ ولطالما كانت تُفضّل هذه الدول الوسائل الدبلوماسية والمالية على الوسائل العسكرية والعدوانية في سلوكها.

اقرأ أيضاً: النظام الإيراني يجر بلده إلى كارثة

ويجادل المدافعون عن هذا النسق التقليدي في حماية الأمن الإقليمي بأنّه كان فاعلاً نسبياً، وأنّه نجح في معاقبة المعتدي في جريمة احتلال الكويت مثلاً. لكن المشهد اليوم بات مختلفاً، ويتطلب استجابات مختلفة أيضاً. إذ لم تعد الجهود الدبلوماسية والمالية بأي حال كفيلة بحماية أمن المنطقة في ظل فوران المخاطر الأمنية، وتعدد مصادر التهديد. وإذا ما تجاوزنا إشكالات الجدل حول مؤشرات القوة بأنواعها الثلاثة (الكامنة والفعلية والتحويلية) وأولوياتها ومقتضياتها الرئيسة، فقد أصبحت الحاجة ماسة اليوم إلى تحسين قوة الردع العربية في ظل التعرض لمخاطر فعلية، آنية وطويلة المدى، من قوى إقليمية طامعة، مثل؛ إسرائيل وإيران وتركيا، ومخاطر أمنية داهمة مثل؛ الإرهاب والطائفية.

اقرأ أيضاً: التوتر الأمريكي الإيراني.. هذه تناقضات ترامب

ولعل إحدى إشكاليات قوة الردع العربية القائمة، تكمن في أنّ العرب -حتى الآن- ظلوا يستندون في كثير من تعريفهم لـ "قوة الردع" الخاصة بهم على مفاهيم فاقدة المحتوى مثل؛ المجتمع الدولي، والقوانين والأعراف الدولية، والتضامن العربي الفاقد لأي ذراع تنفيذية، وما إلى ذلك من خيارات تصلح لأغراض "عاطفية" و"تحشيدية"، لكن دون أن يكون لها أية مخرجات عملية ملموسة. وظل الملجأ الأخير للعرب يتمثل في الاستناد أحياناً إلى مصادر غير مضمونة الاستدامة مثل؛ التحالفات الدولية، والحماية الأجنبية، وخاصة الأمريكية.

وبعد انتفاضات "الربيع العربي"، تباينت وجهات نظر الأنظمة العربية تجاه مصادر التهديد الأكثر إلحاحاً التي ينبغي التعبئة ضدها. وسبق ذلك انهيار ميزان القوى الإقليمي، واشتداد وتيرة الخلافات البينية بفعل الحرب الباردة السعودية-الإيرانية التي شكلت أساس التحالفات في المنطقة في حقبة ما بعد عام 2011.

اقرأ أيضاً: لماذا أخفقتْ "سياسة حافة الهاوية" التي تمارسها إيران؟

وفي خضم هذا الاضطراب الإقليمي وصل "العصر الأمريكي" في المنطقة إلى نهايته؛ فلم تعد دول الشرق الأوسط تتطلَّع إلى الولايات المتحدة لتوفير الأمن أو النظام على ضوء تراجع نفوذ واشنطن الإقليمي. ولذلك سعت كل قوة إقليمية إلى إعادة تشكيل النظام الإقليمي بما يصب في مصلحتها. وجاءت النتيجة على شكل إخفاقات متراكمة في إنهاء "الحروب الباردة" الإقليمية. لكن الأساطيل الأمريكية عادت إلى المنطقة لتغيير قواعد اللعب مرة أخرى، فأين سيكون موقع العرب في المشهد الإقليمي الجديد؟

وبالعودة إلى الاعتداءات الإيرانية الأخيرة، نلاحظ أنّ عملية معاقبة طهران ووكلائها، باتت مقتضى أمنياً يصعب تجاوزه، في حال أردنا وقف تكرار مثل هذه الاعتداءات. وهنا بدلاً من التركيز على ما يمكننا فعله، توجهت الأنظار إلى ما سيفعله الحليف الأمريكي الذي قرر على نحو غير مفاجئ تقديم أولوياته الأمنية والسياسية (الانتخاباتية) على مصالحنا الأمنية.
اعتبرت الولايات المتحدة أنّ ما يستدعي رداً مباشراً منها على طهران، هو تعرض "القوات والمصالح الأمريكية" إلى هجوم من إيران أو أحد وكلائها، واعتبر المراقبون سكوت واشنطن عن تضمين التهديد عبارة (ومصالح الحلفاء) دليلاً على موافقة ضمنية أمريكية على قواعد اشتباك مع طهران لا تمنع استهداف المصالح العربية.

بعد انتفاضات الربيع العربي تباينت وجهات نظر الأنظمة العربية تجاه مصادر التهديد الأكثر إلحاحاً التي ينبغي التعبئة ضدها

في الحقيقة، تعرف الولايات المتحدة جيداً لماذا حضرت إلى المنطقة، ولديها خريطة أهدافها المرسومة مسبقاً، وهو ما يعني أنّ الاستفزازات الإيرانية ستقابلها "استجابات"، أو "نقلات"، وليس ردود أفعال.

إذ باتت واشنطن اليوم معنية بإعادة انتشار عسكري واسع النطاق في المنطقة بعد أن انقلبت على دعاة الانكفاء الأمريكي من الشرق الأوسط، فما يجري ليس مجرد مواجهة صغيرة مع إيران، وما يتردد من أنباء حول تفعيل وتوسعة القواعد العسكرية الأمريكية القديمة، وإنشاء قواعد جديدة في عدة دول خليجية وشرق أوسطية، ونشر أسلحة استراتيجية ودروع صاروخية متقدمة جداً، يُظهر بأنّ الأهداف تفوق إيران ولا تتوقف عندها.

حيث أصبحت المنطقة جزءاً لا يتجزأ من استراتيجية أمريكية بعيدة المدى لصد محاولات التمدد الصيني عبر مبادرة الحزام والطريق. وإيران هي الحلقة الذهبية في هذا المصد، ولا بد من جعلها حليفاً معلناً لأمريكا، بل ومتعاوناً تماماً مع السعودية وإسرائيل ومصر، ولذلك تضع واشنطن أمام النظام الإيراني خيارين محددين؛ استدارة إيرانية كاملة أو تغيير النظام برمّته، حتى لو تكلف ذلك غزواً برياً يأتي تتويجاً لعمليات حصار وإضعاف طويلة.

اقرأ أيضاً: الحرس الثوري الإيراني يصعّد وتيرة تهديداته..

أضاع العرب الكثير من الفرص في المواجهة مع المشروع الاحتلالي الصهيوني، والمشروع التدميري الإيراني. اليوم نحن أمام خيارات صعبة بالفعل، لكن كلفة التأجيل أعلى وأصعب، فبعد كثير من الانسحاب العربي، وكثير من التقدم الإسرائيلي والإيراني باتت المعركة في مياه الخليج. فهل نعيد تعريف مفاهيمنا للقوة، والردع، والأمن؟



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية