متى سيتوقفون عن حرق المصحف؟

متى سيتوقفون عن حرق المصحف؟

متى سيتوقفون عن حرق المصحف؟


03/07/2023

مرة أخرى يُحرق المصحف في السويد، هذه المرة بيد لاجئ عراقي وأمام نحو (200) شخص مسلم، خارج المسجد الرئيسي في ستوكهولم، عاصمة السويد. سبق لراسموس بالودان، الدنماركي اليميني وزعيم حزب "الخط المتشدد"، والذي يحمل الجنسية السويدية، أن أحرق نسخة من المصحف أمام السفارة التركية في كانون الثاني (يناير) 2023، وسابقاً قام بالفعل نفسه أمام مسجد في العاصمة كوبنهاغن، وذلك للمرة الثانية خلال أسبوع، كما أحرق المصحف أمام مسجد تابع لـ (جمعية الجالية الإسلامية) عقب انتهاء صلاة الجمعة، وحاول استفزاز المسلمين، لكنّهم تصرفوا بهدوء وابتعدوا عن المكان، علماً أنّ هذه الحادثة تتكرر... وقد مارسها بالودان أمام العديد من مساجد الدنمارك منذ أكثر من عامين.

أسباب الحرق والمستفيد منه

رُبط حرق المصحف أمام السفارة التركية على يد بالودان بمحاولة السويد الانضمام لحلف الناتو، وقد كانت النتيجة رفض تركيا دعم انضمام السويد للحلف. ومهما تكن الأسباب المعلنة أو المضمرة من وراء حرق نسخ المصحف، فالهدف هو استفزاز المسلمين وإظهارهم كجماعة دينية إرهابية مناهضة للقيم الأوروبية... وأنّ ولاءها للدين مقدّم على ولائها للوطن، وإيمانها بالعقيدة أعمق من إيمانها بالحريات... والنتيجة غالباً تصبّ في صالح أهداف اليمين في السويد وأوروبا عموماً.

مواطن سويدي من أصول عربية مقيم في السويد منذ (48) عاماً، تحدث عن الوضع في السويد قائلاً: إنّ العرب والمسلمين لم يكونوا يعانون من مشكلة في تعامل السويديين معهم، وبشكل عام مازالوا يلاقون المعاملة نفسها. وقال إنّ المشكلة بدأت مع موجات الهجرة الأخيرة التي جلبت مسلمين أصوليين ينعتون السويديين بالـ "كفار"، ويعتقدون أنّ لهم حقاً في السويد أكثر من أهلها، ويتصرفون بشكل غير حضاري، ويعيشون غالباً على المعونات التي تقدمها الدولة. هؤلاء، بحسب قوله، أسهموا في صعود شعبية حزب اليمين بشكل كبير.

هناك من يرى أنّ حرق المصحف يدخل ضمن جرائم الكراهية، ولذلك يعتقدون بوجود مدخل قانوني يمكن عبره إيقاف حرق المصحف

يُقابل فعل الحرق بردّ الفعل نفسه، ممّا يعني أنّ المسلمين في الغرب تحديداً لم يستوعبوا الدرس، ولا يتصرفون بناء على قوانين حرية التعبير التي تجيز حرق المصحف مثلما تجيز حرق كتب أخرى انطلاقاً من قداسة حرية التعبير! ومثلما تجيز للمسلمين الكثير من الحقوق التي لا تتوفر لهم في بلدانهم العربية والإسلامية. قد تُعذر ردود أفعال المسلمين في البلدان العربية وغير الأوروبية؛ لجهلهم بالقوانين الأوروبية، وكنوع من المزايدات أو كرغبة في تشكيل العالم وفقاً للصورة التي يعتقد المسلمون أنّها صحيحة، وهم على هذا النحو يرغبون في أن يكون العالم صورة أخرى عنهم!

استثمار حرق المصحف

من ردود الفعل الطريفة أنّ رئيس مجلس القضاء الأعلى في العراق فائق زيدان أمر باتخاذ الإجراءات القانونية بحق العراقي الذي أحرق المصحف، وطلب استرداده ومحاكمته وفق القانون العراقي. ومن ردود الأفعال المتكررة أن دعا مقتدى الصدر أنصاره إلى "تنظيم مظاهرة حاشدة أمام السفارة السويدية في العراق" أدت إلى اقتحام السفارة، كما "دعا الأزهر هيئات الإفتاء في العالم لإصدار فتوى بوجوب مقاطعة المنتجات السويدية...".

حادثة كهذه ستستثمر من قبل دول عديدة: فهناك من سيسحب السفير ومن سيستدعيه، مع علمهم أنّ مطالبهم تتعارض مع حق التعبير عن الرأي في السويد، وهو حق لا يمكن تغييره بسهولة؛ إن توفرت النية لتغييره. بعض القادة العرب بهذه الإجراءات يستجيبون للشارع بدلاً من توعيته، وهذا مفهوم؛ لأنّ الصمت سيعني تقديس حرية التعبير، وهذه قيمة منتهكة في غالبية المنطقة العربية. بلغ استثمار الحادثة أن طالبت وزارة الخارجية الروسية بضرورة معاقبة المشاركين في حادثة حرق المصحف، كما أدانها الرئيس الروسي فلاديمير بوتن، وهو يحتضن نسخة من المصحف قائلاً: إنّ الإساءة للقرآن تُعدّ جريمة في روسيا خلافاً لدول أخرى. وهو بذلك يريد القول إنّ روسيا أفضل حالاً من السويد! بينما واقع الحال يقول إنّ روسيا لا تحرق المصحف، لكنّها تنتهك حقوق الإنسان!

علاقة الحرق بجرائم الكراهية

هناك من يرى أنّ حرق المصحف يدخل ضمن جرائم الكراهية، ولذلك يعتقدون بوجود مدخل قانوني يمكن عبره إيقاف حرق المصحف. على سبيل المثال يُعدّ الاضطهاد الروماني للمسيحيين والهولوكوست ضمن جرائم الكراهية، وتُعرَّف جريمة الكراهية بأنّها "جريمة ذات دوافع متحيزة مسبقة، وتحدث عندما يستهدف مرتكب الجريمة ضحية بسبب انتمائه إلى مجموعة اجتماعية أو دينية معينة أو عرق معين." ويمكن أن تشمل: "الجنس أو العرق أو الإعاقة أو اللغة أو الجنسية أو المظهر الجسدي أو الدين. وقد تنطوي الحوادث على الاعتداء الجسدي، أو الإضرار بالممتلكات، أو البلطجة، أو المضايقة، أو الإساءة اللفظية أو الإهانات، أو الكتابة على الجدران أو بالرسائل...".

وهناك من يرى أنّ حرق المصحف يتنافى مع حرية التعبير ومع المادة (18) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. والحقيقة أنّ هذه المادة تنص على أنّ "لكل شخص حقاً في حرية الفكر والوجدان والدين، ويشمل هذا الحق حريته في تغيير دينه أو معتقده، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حدة"، وهذا ما لا يسببه حرق المصحف.

والنتيجة، وفق ما سبق، أنّ حرق المصحف لا يدخل ضمن جرائم الكراهية؛ لأنّه لا يترتب على الحرق التحريض ضد الإسلام ولا المسلمين، ولا يترتب عليه المسّ بحقوق المسلمين المدنية ولا الدينية. ومن يحرق المصحف لا يفعل ذلك انطلاقاً من كراهيته للإسلام ولا للمسلمين، بل لممارسة حقه في التعبير، ولتحقيق أهداف معلنة يرى أنّها لن تتحقق إلا بالحرق، أو هو يفعل ذلك لتحقيق هدف سياسي، إذا أخذنا بوجود أجندة مضمرة، أو لما يتحقق من أهداف سياسية غير مباشرة من وراء ردود أفعال المسلمين.

الحرية والمقدّس

ارتبط حرق الكتب تاريخياً بأنظمة الحكم التي تخشى من حرية التعبير، وغالباً ما كان يتم بتحريض من شيوخ الدين. وها هو الحرق يتحول إلى شكل من أشكال حرية التعبير. نعرف أنّ حرية التعبير حق إنساني مرتبط بحاجة أو ضرورة لا بمزاج شخصي أو فئوي، ولذلك يُقيَّد هذا الحق لمنع إساءة تفسيره أو استعماله بشكل مطلق ينجم عنه أضرار تلحق بالمُعبر عن الحق نفسه أو بآخرين أو بأمن وسلامة الدولة... والأمثلة عديدة على حدود حرية التعبير في بلدان مشهود لها بممارسة هذا الحق على أوسع نطاق. وقد سبق أن رفضت الشرطة السويدية طلبات عدة في الآونة الأخيرة لتنظيم احتجاجات لإحراق المصحف؛ لدواعي أمنية وليس لأنّها جريمة كراهية، ولا لأنّ الحرق يتنافى مع حقوق الإنسان. وقد أبطلت المحاكم تلك القرارات قائلة إنّها "تنتهك حرية التعبير التي تكفلها البلاد". وقد صرحت الشرطة السويدية بالتظاهر، تماشياً مع "حماية حرية التعبير"، لكنّها وفقاً لوكالة (فرانس برس)، فتحت تحقيقاً بشأن "إثارة توتر"، والشرطة في كلا الأمرين تتصرف وفق القانون.

ارتبط حرق الكتب تاريخياً بأنظمة الحكم التي تخشى من حرية التعبير، وغالباً ما كان يتم بتحريض من شيوخ الدين

حرق المصحف، يندرج في السويد ضمن حق الحرية في التعبير، ولهذا رافق فعل الحرق حماية من الشرطة المكلفة بتنفيذ القانون وحماية حرية التعبير... عمليات الحرق نفسها تجد من يعارضها من السياسيين والوزراء، بل من الحكومة السويدية نفسها. وكمراقب من بعيد، يجهل ما يدور في السويد، يمكن أن يوصف فعل الحرق بأنّه لا يمتّ لحرية التعبير بصلة؛ إذا نظرنا إلى حرية التعبير من منظور جاد يهدف إلى التغيير الإيجابي. لكنّ البديل الذي يطالب به المسلمون هو "قانون ازدراء أديان" داخل أوروبا يُتخذ أداة للقمع كما يحدث في المنطقة العربية. وبما أنّه لا يمكن إيقاف الأفعال "المستفزة" بالقوة، أو بالضغوط والمظاهرات العنيفة، فالبديل الحضاري هو ضبط النفس، وأن يعبّر المسلمون عن غضبهم بطريقة سلمية قانونية يثبتون بها بطلان دعاوى اليمين "المتطرف".

لكن لماذا يوصف اليمين بأنّه "متطرف"؟

أصوات التكبير المصاحبة لعملية الحرق والتدمير، والمنشورات والتعليقات المتطرفة في مجموعة/ جروب "الجالية العربية في السويد"، على سبيل المثال، تكشف أنّ بالودان وأحزاب اليمين في السويد والدنمارك وغيرها من الدول الأوروبية تدرك الخطورة التي يمثلها المسلمون المتطرفون على قيم الحرية هناك. ولا أظن الوقت سيطول حتى تتبنّى الدول الأوروبية السياسات نفسها التي توصف اليوم بأنّها يمينية "متطرفة".

أحزاب اليمين، إذن، "واقعية" وليست "متطرفة"؛ لأنّ سياستها نابعة من رد فعل. وإلى أن تتحول حرية التعبير إلى تحريض على الكراهية، ستُقيد بموجب القانون. لكن إذا لم يكن ذلك القيد القانوني موجوداً، وإذا لم تكن حرية التعبير لا تحرض على الكراهية فعلاً، فعلى المسلمين أن يتصرفوا بطريقة حضارية يثبتون بها ولاءهم للدولة، لا للدين أو لدول خارجية تستعمل غضبهم لصالح أجندات خاصة. هذه فرصة للمسلمين لقبول الخطاب المستفز، حتى لو لم يعجبهم، والتفكير بمصالح السويد بوصفهم مواطنين سويديين يتصرفون بموجب الدستور لا بوصفهم أعضاء في جماعة دينية.

مواضيع ذات صلة:

منظمة التعاون الإسلامي تدين حرق القرآن الكريم في السويد

احتجاجات تتحول إلى صدامات عنيفة في السويد... ما علاقة اليمين المتطرف؟




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية